
تــــقديم:
ما من شــكّ في أنّ عمــليّة الإبــداع الشّعريّ في القديم مغامرة محفوفة بالمخاطر كثيرة المزالق. ذلك أنّ صناعة الشّعر قد حدّدت بضوابط وقنّنت بقوانين ليست هي إن أمعنّا النّظر فيها سوى قيود تقيّد الشّاعر ونصّه ليستجيب لأفق الانتظار وهي قوانين/قيود مختلفة، منها ما يعود إلى المباني و منها ما يتعلّق باللّغة و الأسلوب ومنها ما يرجع إلى المعاني التي يبني عليها الشّاعر أقواله… وهو مطالب باُحترام هذه القوانين التّي ضبطت إجمالا ضمن ما يعرف بعمود الشّعر وهو أبواب سبعة كما حدّدها المرزوقي في مقدّمة ديوان الحماسة لأبي تمّام حين قال: ” إنّهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحّته وجزالة اللّفظ واستقامته والإصابة في الوصف ومن اجتماع هذه الأسباب الثّلاثة كثرت سوائر الأمثال و شوارد الأبيات، والمقاربة في التّشبيه واُلتحام أجزاء النّظام و اُلتئامها على تخيّر من لذيذ الوزن ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومشاكلة اللّفظ للمعنى وشدّة اُقتضائهما للقافية حتّى لا منافرة بينهما فهذه سبعة أبواب وهي عمود الشّعر ولكلّ باب منها معيار”.
والشّاعر إلى جانب التزامه بهذه الأبواب التّي إن فتحها دخل إلى الشّعر وإن أغلقت أمامه اُستغلق الشّعر عليه – إنّما يطلب منه في إطار النظريّة النقديّة القديمة أن يلتزم بسنن الأوّلين ممثّلة دون شكّ في القصيدة الجاهليّة فهي المقياس الذّي به تقاس جودة الشّعر. فما سار على خطاها من الشّعر واُحتذى حذوها اُستجادوه وما خالفها ونأى بجانبه عنها اُستقبحوه ورفضوه.
و لهذا كلّه، كثيرا ما يردد النقّاد حقيقة لا يمكن بحال أن ننفيها وهي أنّ الشّاعر في القديم مقيّد و لكنّه مطالب بالإبداع والنّبوغ رغم قيوده: قيود القوانين والسّنن والذّائقة العربيّة، حقيقة يسمّيها الكثيرون تبسيطا وتوضيحا لمسألة معقّدة “الإبداع داخل دائرة الاتّــباع”.
- الاِنـــفلات الشّــــــــعري
لم نعدم في الأدب العربي القديم حركات تململ و قلق من وطأة القيود أدّت أحيانا إلى شيء من التمرّد و بعض من التحرّر و الاِنفلات، حركات قد يعتقد الكثيرون – خــطأ – أنّها جاءت في عصور متأخّرة و تحــديدا في منتصف القرن الثّاني للهــجرة مع الشّعر المولّد و ما بعده. و لكنّنا نراها أقدم من ذلك بكثير إذ لم يخل منها الشّعر الجاهلي على نحو سافر مفضوح أحيانا أو على نحو ضمنيّ خفيّ أحيانا أخرى.
نضرب على ذلك مثالين صريحين مشهورين الأوّل معلّقة شهيرة لعمرو بن كلثوم الثّغلبي إذ بدأها على نحو خالف به السّنن السّائدة وهي الوقوف على الأطلال متخيّرا أن يبدأها بالخمرة متغزّلا بها وبالسّاقية فقال:
أَلاَ هُبِّيَ بِصَحْنِكِ فَاُصْبِحِينَا وَ لاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا
مثسَعْشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فِيهَا إِذَا مَا المَاءُ خَالَطَهَا سَخِينَا
تَجُوزُ بِذِي اللُّبَانَةِ عَنْ هَـوَاهُ إِذَا مَا ذَاقَهَا حَتَّى يَلِيــنَا
و الثّانية: مرثيّة شهيرة لدريد بن الصمّة بدأها بالغزل على غير ما جرت به العادة من تفجّع و تأمّل: فقال في مطلع مرثيّة له:
أَرَثَّ جَدِيدُ الحَبْلِ مِنْ أُمِّ مَعْبَدٍ بِعَاقِبةٍ وَ أَخْلَفَتْ كُلَّ مَــوْعِدِ
وَ بَانَتْ وَ لَمْ أُحْمِدْ إِلَيْكَ جِــوَارَهَا وَ لَمْ تَرْجُ فِينَا رِدَّةَ اليَوْمِ أَوْ غَدِ
و كان هذا الضّيق بالقيود و التّململ من السّنن ضمنيّا في مثل قول عنترة متذمّرا:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ ؟ أَمْ هَلْ عَرَفَتْ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ ؟
و السّؤال إنكاري مفاده أنّ الشّعراء لم يتركوا أمرا يقال فيه شعر إلاّ خاضوا غماره فما الذّي بقي له ؟ فكأنّ النّظام ضاق به و كأنّه يتوق ضمنيّا إلى الاِنفــلات منه.
هذه الأمثلة و غيرها تؤكّد أنّ الشّعور بوطأة القيد و ثقله بدأ باكرا إذ تولّد في رحم القصيدة الأمّ أو القصيدة النّموذج أي القصيدة الجاهليّة ليقوى و يشتدّ فيما بعد بحكم تبدّل الظّروف المحيطة بالقول و القائل أي الشّعر و الشّاعر و بحكم تغيّر العقليّة و النّمط الثّقافي …
فشعر المذاهب و الفرق كما تمرّد على السّلطة و أولي الأمر تمرّد على السّنن فلا وقوف على الأطلال و لا عناية بالمقدّمات و الخواتم و ما بينهما من أبيات تخلّص فاصلة واصلة بين مفاصل القصيدة بل نرى المعاني تنثال على نحو جديد رافض لا للبناء فحسب بل حتّى للصّور الشّائعة و أساليب التّعبير.
وهو أمر قد نتفهّمه حين نرجعه إلى وطأة العقيدة و الحرص على الدّفاع عن المذهب …
و لكنّ ما قد نقف أمامه متفكّرين ما حصل في غزل الحجاز في القرن الأوّل إذ فيه ما يشي برغبة جادّة في قول ما لم يقل أو بطريقة في القول جديدة لم يعهدها العرب من قبل فإذا بنا أمام مدرستين في الشّعر جديدتين الأولى في الغزل العذري و الثّانية في الغزل الإباحي و أعلام كلتيهما قد قصروا شعرهم على الغزل دون سواه و جعلوا المرأة قبلة أشعارهم.
فإذا بنا أمام فنون في القول و إن كانت في علاقة بما سبق “جديدة” من حيث معاني القصيدة و من حيث الصّور والأساليب و يكفينا للتّــدليل على هذا التحوّل الذّي أحدثته القصيدة الغزليّة و لا سيّما توظيف السّرد القصصي في الشّعر الإباحي أن نسوق هذا الشّاهد حول أثر شعر عمر بن أبي ربيعة إذ سئل الفرزدق وهو ماهو في الشعّر عن شعر عمر فقال ” هذا الذّي كانت الشّعراء تطلبه فأخطأته و بكت الدّيار و وقع هذا عليه “
وكان المنعطف الهامّ في الشّعر القديم مع الشعر المولد فقد عدّ فعلا ثورة على القيد و رفضا للسّنن و ذلك في النّصف الأوّل من القرن الثّاني و كان الرّفض و تلك الثّورة على أيدي شعراء فحول هم مسلم بن الوليد و بشّار بن برد و أبو نواس و كذلك أبو العتاهيّة في زهديّاته. فتمّ كماهو معلوم كسر البنية التّقليديّة للقصيدة و اُستقلّت موضوعات في الشّعر الجاهلي لتغدو أغراضا مكتملة بها تبدأ القصائد و بها تنتهي و ظهر توليد و تحديث غير قليل على مستوى المعاني و الصّور و أساليب القول بشكل عامّ حتّى غدا هذا الشّعر علامة فارقة في الشّعر القديم و ووفّق أصحابه ‘إلى حدّ بعيد في إحداث رجّة في الشّعر أحدثت بدورها رجّة في النّقد غير بسيرة … فكان الحديث عن أغراض مولّدة و طرائق في القول جديدة قابلها البعض بحفاوة المتطلّع إلى الجديد المستحدث و لقيها آخرون باُستهجان و رفض ينمّان عن تمسّك بسلطة الموروث و قداسة الأنموذج لا سيّما و قد اِنخرطت هذه الظّاهرة الشعريّة في ظاهرة اِجتماعيّة أعمّ وهي الشّعوبيّة فعبّر بعض روّادها عن رفض لا لتقاليد الشّعر فحسب بل لثقافة العرب و خصوصيّاتهم فغيّروهم بالبداوة و الجهل و اُنغلاق الأفق و يكفي أن نستدلّ على ذلك بأبيات ساخرة لبشّار تنعى لا تقليد الوقوف على الأطلال فحسب بل تنعى ثقافة العرب و طرائق عيشهم عنده وهو الفارسيّ المعتزّ بأصــله المغترّ بإرثه الحضاريّ، يقول بشّار بن برد:
هَلْ مِنْ رَسُولٍ مُخْبِرِعَنِّي جَمِيعَ العَرَبِ
مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْهُمْوَ مَنْ ثَوَى فِي التُّرَبِ
بِأَنَّنِي ذُو حَسَبٍعَالٍ عَلَى ذِي الحَسَبِ
جَدِّي الذِّي أَسْمُو بِهِكِسْرَى و َسَاسَانُ أَبِي
وَ قَيْصَرُ خَالِي إذَا عَدَدْتُ يَوْمًا نَسَبِي
وَلاَ حَدَا قطُّ أَبَي خلفَ بعير أَجْرَبِ
وَ لاَ أتَى حَنظَلَةً يَثقبها من سَغَبِ
وَ لاَ أَتَى عُرْفُطَةً يخبطها بالخَشَبِ
كلّ هذه الأدلّة من الشّعر العربيّ تشهد بأنّه قد شهد على اِمتداد العصور القديمة جملة من الحركات الرّافضة للقيود التّائقة إلى التحرّر منها و أهمّها كما بيّنا شعر المولّدين الذيّ أثّر في أشعار اللاّحقين فبدت نزعات التّحديث و التّحليق خارج السّرب عند الكثيرين كأبي تمّام في مدائحه خاصّة …
- في عـــــلاقة الاِنــــفلات بالإبــــداع
و لكنّنا بعد هذا التّقديم لحالات الاِنفلات الشّعري و بعد هذا التّذكير بمسارات التّحديث في نطاق الشّعر القديم يظلّ السّؤال الأهمّ في حاجة ملحّة إلى الجواب: هل كلّ فكّ لقيود الشّعر إبداع ؟ سؤال نطرحه لا تخمينا أو اِفتراضا بل عن وعي بما حدث في الشّعر القديم و قراءة لنماذج متعدّدة منه تجرّأ أصحابها على السّنن و خالفوها و رفضوا السّير حذو السّابقين و المعاصرين فحلّقوا خارج السّرب بأشعار استوقفت النقّاد و المتلقين حين خيّبت أفق اِنتظارهم و أتت بما لم تتعوّده ذائقتهم. فكان السّؤال: هل هم أمام إبداع يطرب و إن خالف السّائد المعروف أم هم أمام اِنفلات من القيود لم يرق إلى الجودة و الإبداع و إن لفت الاِنتباه حين أفلت من قيود السّابقين ؟.
و نذهب في هذا المقال إلى أنّ حركات الرّفض و الرّغبة في الاِنعتاق من قيود النّموذج و قوانين النظريّة الشعريّة لم تعن الإبداع في كلّ الحالات. نزعم أنّ الشّاعر و إن تاق إلى التّجديد مبنى أو معنى أو أسلوبا أو على المستويات الثّلاثة جميعها فإنّه لم يوفّق دائما إلى الاِتيان بشعر جميل مؤثّر بل قد يأتي شعره دون السّائد المتداول بدرجات هذه الأطروحة نستدلّ عليها بأدلّة من الشّعر القديم فارقت السّائد و خالفت النّموذج و لكنّها وقفت للأسف دون الغاية و قد اِخترنا نماذج مختلفة لشعراء متعدّدين نتّخذها حججا و براهين.
أوّل النّماذج: يتعلّق بمقدّمات القصائد و تحديدا بسوء الاِبتداء في المدائح و نقصد أنّ الشّاعر قد يبني مدحته على غير منوال فيتحرّر ممّا سنّه الأوّلون من وقوف على الأطلال و خاصّة من النّسيب و يتخيّر لمدائحه اِبتداءات أخرى يجريها كما قلنا على غير منوال. و هذا التحرّر من قيد السّابقبن في اِبتداء المدائح و الإتيان بالجديد المستحدث قد يرضي الممدوحين و قد يقود إلى الإبداع و يستخوذ الشّاعر به على الأسماع و يلفت قدرا كبيرا من الاِنتباه أحيانا و لكنّه قد ينأى عن الإبداع لينمّ عن سوء اِختيار لا يثير سوى الاِستهجان: فأبو تمّام الذّي مثّل شعره دون شكّ علامة فارقة في الشّعر العربيّ القديم و أثار جدلا غير قليل إذ اُنقسم النقّاد حوله قسمين قسما مركّبا بشعره مناصرا له و قسما رافضا لهذا الشّعر متتبعا لزلاّته و سقطاته كثيرا ما خرج عن السّنن في مقدّمات المدائح و خالف القدامى فبدأ يغير ما بدؤوا كما خالفهم في كثير من المعاني و الصّور و الأساليب حتّى قال أحدهم: ” إذا كان هذاشعرا فما قالته العرب باطل”.
و حفظ عن عنترة مقالة تهجو شعر أبي تمّام لخروجه عن السّمت و قد أنطقه أبو العلا المعرّي في رسالة الغفران: ” إذ قال: و ما حبيبكم هذا فيقول: أشاعر ظهر في الإسلام و ينشده شيئا من نظمه فيقول: أمّا الأصل فعربيّ و أمّا الفرع فنطق به غبيّ و ليس هذا المذهب على ما تعرف قبائل العرب … “
و الواقع أنّ أبا تمّام حين خرج عن السّمت أبدع إبداعا كبيرا، إبداعا ليس مدار اِهتمامنا و إنّما نهتّم بتحوّل هذا الخروج عن السّائد و المعتاد عنده أحيانا إلى ضرب من الجري المحموم وراء المستحدث “الجديد” ممّا فوّت على الشّاعر الإبداع و حال بينه و بين الجودة في أبيات كثيرة. إذ نستدلّ على نزوعه إلى الاِتيان بالجديد و بغير المتوقّع بنصّ أورده ابن المعتزّ جاء فيه “حدّثني أبو الغصن محمّد بن قدامة قال: دخلت على حبيب بن أوس بقزوين و حواليه من الدّفاتر ما غرق فيها فما يكاد يرى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لماهو فيه ثمّ رفع رأسه فنظر إليّ و سلّم عليّ فقلت يا أبا تمّام إنّك لتنظر في الكتب كثيرا و تدمن الدّرس فما أصبرك عليها (…) و إذا بحزمتين واحدة عن يمينه و واحدة عن شماله، وهو منهمك ينظر فيهما و يميّزهما من دون سائر الكتب فقلت: فما هذا الذّي أرى من عنايتك به أوكد من غيره ؟ قال أمّا الذّي عن يميني فاللاّت و أمّا التّي عن يساري فالعزّى، أعبدهما منذ عشرين سنة و اللاّت و العزّى هما ديوان أبي نواس و ديوان مسلم بن الوليد.”
و هذا النّزوع إلى التحديث أنتج مطالع عدّت من أجود مطالع المدائح كمطلع قصيدته الشهيرة في مدح المعتصم إثر فتح عموريّة:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ فِي حِدِّهِ الحَدَّ بَيْنَ الجِدِّ و اللَّعِبِ
أو كاُبتدائه الفخم:
الحَقَّ أَبْلَغُ وَ السُّيُوفُ عَوَارٍفَحَذَارِ مِنْ أَسَدِ العَرِينِ حَــذَارِ
و لكنّه أيضا جاء بمطالع اِستهجنها القدامى و نراها غاية في التّكلّف و محاولة سافرة في مخالفة المعروف المتداول و لو بالتضحية بالجميل المؤثّر: كما في قوله مادحا:
قَدْكَ اِتَّئِبْ أَرْبَيْتَ فِي الغُلْوَاءِ / كمْ تَعْذِلُونَ وَ أَنْتُمْ سُجَرَائِي
فقد افتتح المدح بقول غامض اُستغلق على القدامى و المحدثين كذلك قوله بمقدمة قصيدة مدحيّة
هُنَّ عَوَادِي يُوسف وَ صَوَاحِبُهْ / فَعَزْمًا فَقِدْمًا أَدْرَكَ السُّؤْلَ طالبه.
و مخالفته لمذهب القدامى في الابتداء تجاوز هذا الضّرب من المقدّمات إلى معانٍ دقيقة في وصف موكب الظّعن إذ جرت العادة أن يصوّر الشّاعر لحظات الرّحيل فيكون باكيا حزينا على فراق الحبيبة متألّما لرحيلها و قومها وهو العاجر كلّ العجز عن مسك هذه اللّحظات الهاربة و اُستعادة السّعادة المدبرة كما فعل اِمرؤ القيس حين قال:
كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا لَدَى سَمُرَاتِ الحَييّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
و جرى جلّ الشّعراء أيضا على وصف المحبوبة المفارقة و هي تتظاهر بالتّماسك خوف أن يدّل عليها جزعها فيفتضح أمرها . و لكن أبا تمّام وهو صاحب مذهب في الشّعر يذهب إلى عكس ما تعارف عليه عامّة الشّعراء فوصف النّساء بشدّة الجزع و الوله و في مذهبه هذا يتماسك الشّاعر و يتجلّد في حين تتهالك المحبوبة فتبكي و تلطم وجهها و تشرف على الهلاك فيقول:
وَ قاَلَتْ أَتَنْسَى البَدْرَ قٌلتُ تجلًّدًا إِذَا الشَّمْسُ لَمْ تَغْرُبْ فَلاَ طلع البَدْرُ
و بالغ في ذلك حتّى أفسد المعنى فقال:
وَصَلَتْ دموعًا بالدّماء فَخَدُّهَا / فِي مِثْلِ حَاشِيةِ الرِّدَاءِ المُعَلَّمِ
و الواقع أن هذا المذهب إنّما يقوم على رؤية أدبيّة خاصّة بالشّاعر أبي تمّام يرى أنّ المعاد من الكلام يفقد بريقه و ألقه و لذلك كان شديد النّفور من المألوف و المعتاد المتكرّر فالقصيدة عنده أكرم من أن تكون تكرارا و إعادة لما سابق قوله إذ يقول واصفا أشعاره:
مُنَزَّهَةً عَنِ السَّرِقِ المُوَّرَى / مُكَرَّمَةً عَنِ المَعْنَى المُعَادِ
و لكنّ هذا التنزيه للقصائد عن كلّ تكرار و سرقة كما تغنّى به أبو تمّام لم يعن بالضّرورة أو في كلّ الحالات إبداعا.
و لم يسلم المتنبّي على علوّ شأنه الشّعريّ و نبوغه من هنات في المطالع بيّنت تكلّفا و جريا وراء المخالف المبتدع.
فقد ضجّ بطرائق القدامى في الاِبتداء بالنّسيب دون سواه و قال بيته الشّهير:
إِذَا كَانَ مَدْحٌ فَالنَّسِيبُ المُقَدَّمُ / أَكُلُّ فَصِيحِ قَالَ شِعْرًا مُتَيًّمُ ؟
و هذا الضّيق بالموروث و هذه الرّغبة في الاِنفلات من القيود أدّيا دون شكّ إلى مقدّمات في القصائد قُدّرت جودتها قديما و حديثا من قبل قوله مادحا سيف الدّولة إثر بنائه ثغر الحدث سنة ثلاثة و أربعين و ثلاثمائة للهجرة:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزِمِ تَأْتِي العَزَاِئُم / وَ تَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
وَ تَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا/ وَ تَصْغُرُ فِي عَيْنِ العَظِيمِ العَظَائِمُ
و لكنّهما قد أدّيا أيضا إلى مقدّمات و إن حلّقت خارج السّرب فإنّها قد ظلّت دون الجودة و خلت من كلّ إبداع على نحو قوله مادحا أبا شجاع فاتكا:
لاَ خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيهَا وَ لاَ مَالُ / فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الحَالُ
إذ لا يسعد الممدوح أن يقال له أن لا خيل عنده يهديها و لا مال و كذلك أخطأ المتنبّي حين اُبتدأ قصيدة في مدح كافور بقوله:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى المَوْتَ شَافِيًا وَ حَسْبُ المَنَايَا أَنْ يَكُنَّ أَمَانِيَا
إذ لا يستحبّ أن يذكر الموت في بداية المدح فما بالك إذا كان موتا مستحبّا و مطلوبا لتأزّم الأمر و ثقل الدّاء وهو اِبتداء قد يعود إلى ما يشعر به المتنبّي من تأزّم و إحباط في مصر لا سيّما بعد أن أخلف كافور وعده و لم يمكنّه من ولاية ترضي طموحه السّياسيّ و لكنّ ذلك لم يمنع النقّاد من اِعتبار البيت المذكور آنفا من أسوء اِبتداءاته في المدح. إذ ينتظر منه أن يتناسى ذاته و أن يتجاهل تأزّمه إن أراد الإجادة في المدح لا سيّما وهو ممّن اِحترفوا المدح و تكسّبوا به.
و في الإطار ذاته أُخذ على “جرير” وهو من الشّعراء الفحول اِبتداء خرج فيه عن السّائد المعروف و لكنّه وقف فيه دون الغاية بل فشل فشلا ذريعا بديل غضب الممدوح و كذلك أخطأ “ذو الرمّة” حين خرج عن السّائد فأساء الاِختيار.
إذ جاء في العمدة لاِبن رشيق القيرواني نصّان مهمّان الأوّل قوله: “دخل جرير على عبد الملك بن مروان فاُبتدأ ينشده:
“أتصحو أم فؤادك غير صاح ؟”
فقال له عبد الملك” بل فؤادك يا اِبن الفاعلة ؟”
و الثّاني قوله :” و دخل “ذو الرمة” على عبد الملك بن مروان فاُستنشده شيئا من شعره فأنشده قصيدته: “ما بال عينك منها الماء ينسكب ؟”
و كانت بعين عبد الملك ريشة فهي تدمع أبدا فتوهّم أنّه خاطبه أو عرّض به فقال:” و ما سؤلك عن هذا يا جاهل؟ فمقته و أمر بإخراجه”
و النصّان مهمّان إذ يكشفان أنّ فكّ القيد لا يعني بالضّرورة إبداعا لاسيّما إذا كان القيد قانونا بلاغيّا عامّا و نعني مناسبة المقال للمقال فلأنّهما أيّ جرير و ذا الرمّة تجاوزا هذا القانون و وقعا في مزلق وعر .
و ما يقال في الاِبتداء ينسحب على الخواتم لأنّ فكّ القيد في الخاتمة قد يوقع الشّاعر أيضا في التكلّف و البحث عن المبتدع الجديد فيكون الزّلل و يسيء الشّاعر إلى شعره حين يريد تجويده كذلك فعل أبو نواس حين مدح بعض بني برْمك بقصيدة ختمها بقوله:
سَلاَمٌ عَلَى الدُّنْيَا إِذَا مَا فُقِدْتُمْ بَنِي بَرْمَكَ مِنْ رَائِحِينَ وَ غَادِي
فقد ذكّرهم بأنّهم إلى الفناء ذاهبون و بأنّ الدّنيا بعدهم خواء و هذا لا يليق بمقام مدح. و لذا تذكر المصادر أنّ هذه المقالة قد “تطيّر منها البرمكي حتّى كلح و ظهرت الوجمة عليه ثمّ قال:” نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس” و من العجيب أن نكبة البرامكة قد وقعت بعد هذا المديح بزمن قصير.
و يبدو كسر القيود في المعاني و الصّور أكثر تعقيدا لأنّه يؤّدي إلى الإبداع أحيانا كثيرة و لكنّه لا يعني الإبداع دائما.
فمن الإبداع أن يتخّلص وضّاح اليمن من صورة ضاربة في القدم قد سنّها اُمرؤ القيس سنّة في الغزل حين قال:
سَمَوْتُ إِلَيْهَا بَعْدَمَا نَامَ أَهْلُهَا / سُمُوَّ حَبَابِ المَاءِ حَالاً عَلَى حَالِ
فيقول:
فَاُسْقُطْ عَلَيْنَا كَسُقُوطِ النَّدَى / لَيْلَةَ لاَ نَاهٍ وَ لاَ زَاجِرُ
إذ عدّ هذا القول أبلغ و أجود لأنّ حباب الماء يحدث صوتا و إذ كان خافتا في حين لا يحدث النّدى أي صوت يذكر.
و لكنّ التخلّص من أسر السّائد و الجري وراء الجديد المبتدع أوقع شاعرا فحلا كأبي تمّام في معان مستقبحة و صورة شنيعة.
كقوله مادحا.27
للجُودِ بَابٌ فِي الأَنَامِ وَ لَمْ تَزَلْ / مُذْ كُنْتَ مِفْتَاحًا لِذاَكَ البَابِ
إذ جعل الممدوح مفتاحا وهو من أبشع أنواع التّشبيه وهو ذات العيب الذي وقع فيه مادحا فقال:28
ضَاحِيَ المُحَيَّا للهَجِيرِ وَ لِلْقَنَا / تَحْتَ العَجَاجِ تَخَالُهُ مِحْرَاثًا
وهو بيت قال فيه اِبن رشيق في العمدة “لعنة الله على المحراث هاهنا ما أقبحه و أركّه !”
و قريب من هذا الاِبتداع البعيد كلّ البعد عن الإبداع قول أحد الموّلدين واصفا صوت قينة تجيد الغناء
وَ تَرْفَعُ الصَّوْتَ أَحْيَانًا وَ تَخْفَضُهُ / كَمَا يُطنُّ بُابُ الرَّوْضَةِ الغَرِدُ
إذ جعل صوتها شبيها بطنين الذّياب فأين هو من قول بشّار و قد خرج عن السّائد في العشق فأبدع حين جعل الأذن بابا للعشق لا العين فقال:
يَا قَوْمُ أُذُنِي لبعضِ الحَيِّ عاَشِقَةٌ وَ الأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانًا
كلّ هذه الأمثلة و غيرها كثيرة إنّما تؤكد أنّ الإبداع يقتضي كسر القيود أو السير على غير منوال و لكنّ كسر القيود أو السيّر على غير منوال لا يعني بالضرورة الإبداع.
فالعلاقة بين هذا و ذاك ليست علاقة ذات اِتّجاهين أي Réciproque بلغة الرّياضيات و إنّما هي ذات اِتّجاه واحد. و لذلك يظلّ الإبداع في تقديرنا في حاجة أكيدة إلى التّجديد و السيّر على غير منوال و لكنّ هذا التّجديد و ذاك السّير لا يقودان بالضّرورة إلى الإبداع في كلّ الأحوال.
و من هنا تلوحُ محنة الشّعراء الذّين سُبقوا إلى البنية و سُبقوا إلى المعنى و الصورة في كلّ مواضيع الكلام و مع ذلك يُطالبون بالإبداع و بقول ما لم تقله الأوائل وهي محنة نراها ما ثلة في الشّعر الحديث بل تطرح بإلحاح أشدّ و أعمق إذا يصبح سؤالنا الإشكاليّ: “هل كلّ فكّ لقيود الشّعر إبداع ؟ متى تعلّق الأمر بالشّعر الحديث: هل قاد فكّ قيود الوزن و القافية و الغرض و أساليب القدامى في الوصف و التّصوير إلى الإبداع في كلّ الأحوال ؟ سؤال نراه متضمّنا للإجابة و لا يحتاج إلى كبير جهد في الشّرح و البرهنة و التّعليل. !
الهــــــــــــوامش
المـرزوقي (أبو عليّ) شرح ديوان الحماسة لأبي تمّام، دار الكتب العلميّة بيروت، ط 2003، ج 1، المقدّمة ص 10.
2
هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب أبو الأسود، شاعر جاهليّ من الطّبقة الأولى. ساد قومه تغلب و عمّر طويلا وهو الذّي قتل الملك عمرو بن هند. مات حوالي 40 ق هـ / سنة 584 م.
3
أخذناها من جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي شرح و تقديم علي فاعور ط 2، دار الكتب العلميّة بيروت لبنان، 1992 ص 183.
4
دريد بن الصمّة بن الحارث بن بكر ينتهي نسبه إلى منصور بن عكرمة بن خصفة بن عيدان و أمّ دريد هي الرّيحانة بنت معدي كرب. اِعتبره اِبن سلاّم في طبقاته طليعة الشّعراء الفرسان و كان من أهل المشورة و أصحاب الرّأي قبل الإسلام و أدرك الإسلام و لكنّه لم يعتنقه.
5
في هذه القصيدة يرثي دريد أخاه عبد الله الذّي قتل يوم اللّوى. أخذناها من “الأصمعيّات” تحقيق عمر فاروق الطبّاع ط بيروت لبنان دت ص 87 -90
6
عنترة بن شدّاد، المعلّقة، من جمهرة أشعار العرب/ ص 211
7
هذا الخروج عن السّمت العامّ و المتداول في القصيدة التّقليديّة بحثناه بتفصيل في بحثنا حول “شعر الخــوارج” في نطاق شهادة الكفاءة في البحث تحت عنوان “شــعر الخــوارج: مضامينه النضاليّة و خصائصه الفنّـيّة” بإشــراف: أ.علي الغيضاوي كليّة الآداب منّــوبة 1992.
8
أبو الفرج الأصفهانيّ، الأغانــي، ط بيروت لبنان، د ت ج 1 ص 36.
9
بشّــار بــن بــرد، الدّيوان تحقيق ابن عاشور ج 1 ص42
10
المعرّي (أبو العلاء) رسالة الغفران، تحقيق عائشة عبد الرّحمان، دار المعارف، مصر، 2008 ، ص 324.
11
اِبن المعتزّ (عبد الله) طبقات الشّعراء، تحقيق عبد الستّار أحمد فرّاج، دار المعارف بمصر، ط 2، 1968، ص 283-284.
12
أبو تمّام، الدّيـــــوان، بشرح الخطيب التّبريزي، تحقيق محمد عبده عزّام، ط 3، دار المعارف مصر، د ت، الجزء الأوّل ص34
13
المــرجع السّــابق/ ج 2 ص 114
14
المــرجع السّــابق ج 1 ص 25
15
المــرجع نــفسه ج 1 ص 76
16
امرؤ القيس، المعلّقة، من جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي ط 2، دار الكتب العلميّة لبنان، 1992 ص 124.
17
أبو تمّام، الدّيوان، ج 2 ص 70
18
المــرجع السّـــابق، ج 3 ص 45
19
المتنبّي، الدّيوان، بشرح عبد الرّحمان البرقوقي تحقيق و تقديم عمر فاروق الطّباع ط، بيروت، لبنان، د ت، المجلّد الثّاني، ص 334، ج 2 ص 334.
20
المتنبّي، الدّيوان ج 2 ص 334
21
المــصدر السّابق، ج 2 ص 352.
22
المتنبّي، الدّيوان، ج 2 ص 228-229
23
المصدر السّابق، ج 2 ص 323
24
ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشّعر و آدابه و نقده، تحقيق محمّد محيي الدّين عبد الحميد ط 5، دار الجيل بيروت لبنان 1981 الجزء 1 ص 222
25
المـصدر السّابق، ج 1، الصّفحة نفسها
26
المـصدر السّابق، ج 1 ص 220
27
ابن رشيق القيرواني، العمدة، ج 1 ص 224
28
اُمرؤ القيس، الدّيوان، ضبطه و صحّحه الأستاذ مصطفى عبد الشافي، دار الكنب العلمية بيروت، د ت ص 124
29
وضّاح اليمن، الدّيوان، ط 1 ، دار صادر بيروت 1996 ص 48
30
ابن رشيق القيرواني، العمدة، ج 1 ص 273
31
هو أبو محجن الثّقفي كما ورد في العمدة ج 1 ص 302
32
بشّار بن برد، الدّيــوان، ج 3، ص 129
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل