الكتابة ولعنة التصنيف الجنسي

Syrian poet Nada Menzalji discusses the prejudices faced by female Arab writers. She explores the nature of language as something construed outside of the gender boxes. “Language is a flowing river”, she concludes, and every writer “makes his own amazing waterfall”.

ندى منزلجي

حين تكتب امرأة، غالباً ما يثير النص ارتجاجات دوائر تبتعد بالتدريج عن مركز فعل الكتابة، وخارج توصيف العمل أدبياً أو تقييمه إبداعياً. يحدث شيء من قبيل التلصص على الحياة الشخصية لصاحبته. ثمّة صعوبة ما في قبول التخيّل والإبداع في ما تكتبه إمرأة لصالح فعل البوح والمكاشفة، ما يستدعي في كثير من الأحيان حكماً أخلاقياً على صاحبته، أو تعاطفاً وإشادة بالجرأة مسيئين لفكرة الأدب والكتابة الإبداعية ككل. وبناءً على هذا التصور قد يحصل تسويق وترويج واع، ومبالغ به لكاتبات انطلاقاً من فكرة جرأتهن وانفتاحهن المفترضين، ما يشعل الأمل بحظوة ما، غنيمة ما، علاقة ما. حتى الإنكسارات والخيبات في الشخوص والنصوص.  القصائد تصب في النهر نفسه، فالكاتبة الضحية في الواقع، كما يتصور هؤلاء، من السهل أن تصبح ضحية مرة أخرى. هذا من جهة، أمّا على الطرف الموازي وليس المقابل، فيقف الأكثر التزاماً وجدية، المشجعون للكتابة النسائية، والمتكسبون منها، والمشغولون في تسطير أعمال نقدية عنها، والنمطيون الذين تغلبهم الصيّغ المبتذلة ويتستسهلون القوالب، فيتمسكون بصيغة الكتابة النسوية السهلة، ولا يخبروننا أبداً عن ذلك الشيء الآخر الذي ليس له إسماً، وهو الأدب الرجالي، أو الذكوري كمقابل مناسب ومنطقي للأدب النسائي أو النسوي، مكتفين بتوصيف شامل هو الأدب، الأمر الذي أتخيله كجذع مبتور بذراع ناحلة وحيدة، رُكّبت عليه لاحقاً، ولم تتفرع منه، وهذه الذراع بالطبع هي الأدب الذي تكتبه كلّ النساء على هذه الارض.

منطلقات هذا الفهم المقولب للفعل الإبداعي تتفنن في طرح تساؤلات عن الطفل المعجزة المسمى بالأدب النسائي، منها تساؤل حول شرعية وأصالة اللغة نفسها من قبيل: هل الكاتبات العربيات يكتبن بلغة الرجل وهي لغة مجتمع ذكوري لم تكن لديهن مساهمة في تشكيلها؟ أم أن اللغة لا جنس لها؟ وهل الكاتبة تسعى من خلال الكتابة الى تأكيد اختلافها عن الرجل؟ هذان السؤالان طرحا عليّ بالفعل ، لذلك اخترت أن تكون مساهمتي في هذا العدد من المجلة هي إجابة على ما ظننت أنه غير قابل للتساؤل :

القول بأن الكاتبة العربية تكتب لتحقق اختلافها عن الرجل يختصر الكتابة من فعل إبداعي، إنساني، قيمي، جمالي، معرفي وتساؤلي إلى حيّز ضيق جداً من صراع تصنيف الجنس، ويحيلنا بالتالي إلى سؤال لا بدّ أن يطرح نفسه هو لماذا يكتب الرجل العربي إذن؟ هل ليؤكد ذكوريته؟ تمايزه عن المرأة؟ بالتأكيد ليس الأمر كذلك، وغنيّ عن القول أن الكتابة هي خارج هذا المآل تماماَ. لا بدّ أن يسعى النص بغض النظر عن جنس وهوية كاتبه إلى فرادة خاصة وتأكيد اختلاف عن كل نص آخر لأي كاتب آخر بالمطلق، وهذا لا يتحقق إلا بانحياز مخلص للذات العميقة، واستنباط أدوات خاصة قادرة على التعبيرعن رؤية شخصية للعالم وتجارب معرفية وحسّية، وبحث في الأنا والآخر بمجسّات التفرد، أما مدى نجاح الكاتبات العربيات في تحقيق هذه الوصفة السحرية فأمر يعود الى الموهبة والقدرة، الخيال، الجرأة، والتجربة، والتراكمات المعرفية والاجتهاد الشخصي لدى كل منهن، وليس من الممكن اعتبار الكاتبات العربيات كياناً واحداً كجدار مرصوص، في ظل وجود تباينات هائلة في القيمة، والكثير من التجارب الإبداعية اللافتة في مجالات مختلفة حققت تمايزها وريادتها لغوياً وفنياً.

أما القول بذكورية اللغة وأن الكاتبات العربيات يكتبن بلغة لا دور لهن حقيقياً في بنائها، فهو بمثابة القول بأن منجز الكاتبات العربيات برمّته، ليس أكثر من انتحال، اختلاق، أو تنويع سقيم يسير على خطى ما سبق للكاتب الذكر أن اجترحه في عالم الأدب. وإلاّ فكيف لأي نص أن يمتلك طزاجته وجدته، ويطرح سؤاله الخاص، ويغويك في دهاليزه، ويسرقك من واقعك لتجري معه في فضاءات خيالاته، ما لم تكن لديه الوسيلة الأولية للتعبير، ما لم يجد تقمص اللغة، وتفكيكها، وإعادة إنتاجها بحيث تصبح للكلمات أبعاد أخرى وللعبارات إحالاتها الخاصة؟

ليكون للكتابة قيمة لا بد من الدخول في عمق الاختلاف الفردي.

اللغة كيان خارج التوصيف الجنسي، ولدت وتشكلت مع صرخة الإنسان الأولى، وتطورت مع رغبته العميقة في التواصل مع الاخر، وحاجته المتنامية للتعبير عن نفسه، وإذا كان لا بد من تصنيفها، فهي لغة الأنثى، الأم، “اللغة الأم”؛ أليس هذا الوصف الذي يطلق على اللغة التي نطقنا بها أولى كلماتنا؟ وإذا كان لا بدّ من التسليم بواقع الهيمنة الذكورية في المجتمعات العربية، فهذا لا يعني أنّ الحياة برمتها عالماً ذكورياً صرفاً، ولا يجعل من النساء كائنات هامشية مسحوقة تعيش على هامش إنجازات الذكور، وتلتقط ما سقط منهم سهواً.

وبالعودة إلى اللغة في عالم الكتابة، فمخزون اللغة والحساسية للكلمات وموسيقاها الداخلية الخفية، أشياء تبدأ في التشكل في مرحلة مبكرة جداً من الطفولة، من تهليلات ما قبل النوم، من حكايات الجدات والأمهات والخالات سيدات السرد الأُوَل، اللواتي يفتحن الكوة البدء في عالم المخيلة، كما تساهم الطبيعة وأصواتها وألوانها، وروائحها وكل ما يميز البيئة جغرافياً واجتماعياً في رفد نبع المفردات ودلالاتها الإيحائية وإغناء القاموس الشفهي الذي لا يغيب تأثيره لاحقاً في لغة الكتابة، وإن كانت تصقل في ما بعد بالإشتغال والإنشغال الشخصيين والموهبة والقراءات.

إذا كان بإمكاننا أن نقبل بتعميم مثل فكرة ذكورية اللغة، فهل يمكن القول مثلاً أن نزار قباني، ومحمود درويش، وأنسي الحاج، وعارف حمزة، ونجبيب محفوظ، ومنذر مصري، وعماد أبو صالح، وعاطف عبد العزيز، وخالد خليفة، ويوسف زيدان يكتبون بنفس اللغة انطلاقاً من جنسهم؟ وبالتالي فإن فاطمة المرنيسي، ورشا عمران ورجاء عالم، ومريم شريف، وهدى بركات، وأحلام مستغانمي يكتبن بلغة واحدة؟ مع تباين مستوى ونوع الإنتاج الأدبي في الأمثلة السابقة. هل يمكن القول أن لغة رشا عمران مثلا المحبوكة، الزجلة، المتوترة، المشغولة بعناية إبداعية خصوصية هي نفس لغة أحلام مستغانمي المنمقة بمفرادتها الرومانسية المستهلكة ونسيجها الأملس، الذي لا يدخل في العمق حفراً ولا يرتفع محلقاً؟

قد تكون مقاربة المرأة العربية في الكتابة في شكل عام مختلفة، وقد تكون أكثر جنوحاً نحو دواخلها واهتماماً بتفاصيل دقيقة، وأكثر جرأة في الكشف ورغبة في البوح، وأكثر شفافية في اقترابها من الجسد، ولها انشغالاتها المختلفة عن انشغالات الرجل (وهو أمر نسبي إلى حد كبير). لو قبلنا بهذا التعميم المتسرع والمجحف في وصف ما تجري تسميته بالكتابة النسوية، نكون قد اقتربنا إلى حد كبير من ملخص صورة ما تكتبه النساء في معظم الدراسات النقدية عن الكتابات النسوية في العالم العربي. أليس كذلك؟

إذن، فمن فمك أدينك، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف تستقيم إذن استعارة لغة الآخر (اللغة الذكورية) في كتابات على هذا القدر من الحميمية والذاتية؟

في النهاية، اللغة نهر واحد أبدي الجريان، لكنّ الكاتب الحقيقي بغض النظر عن جنسه، هو الذي يصنع منه شلالاته المدهشة الخاصة.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply