
كيف تقرأ لوحة تشكيلية على ضوء المفهوم البَيْني
1 – إلـــــــــــــــــقِ نظــرة:
التعمق باللوحة وعدم إعتبارها جميلة قياساً على مفهومك للجمال. فالفن التشكيلي ليس هدفه أن ينال إعجابك بقدر ما يثير في داخلك التساؤل.
2 – اللوحة عن ماذا؟
يمكن ألاّ يكون لها موضوع (ما يعرف بالفن التجريدي) معتمدة على انسياب الألوان والرائي يعطيها معنى مشتركاً مع عنوان اللوحة الذي أعطاه الرسّــام.
3 – ماذا يعني المحتوى؟
ثلاث خطوات بسيطة تستطيع تكوين شرحاً أومحتوى: عدم معرفتك أي شيء: لا الرسّام، لا تاريخ العمل، لا اسم العمل.
4 – البحث في غوغل عن العمل وصاحبه وسيرته :
إلى أية مـدرسة ينتمي؟
5 – قــراءة المشهـــد:
ثابتأ ومتحرك، والعنوان جزء من العمل.
6 – تحليل الرموز وتأسيس المعنى:
تحفيز الخيال على تأدية دور مهم في تعميق قيمة اللوحة وتأثيرها.
7 – عدم الاعتماد على شرح الفنـان:
أنت تستطيع أن ترتقي بذوقك إلى معرفة الانسجام والتواصل بين الشكل والمضمون.
8 – عدم الخداع بالعنوان أو الموضوع:
كثير من اللوحات تكون متكاملة شكلاً من دون أيّ مضمون فكري.
9 – الوصول إلى التزاوج بين الشكل والتفاصيل في المضمون:
تظل اللوحة آسرة ومدهشة للوصول إلى العمق التشكيلي.
_____________________
1 ) البينية هي إظهار تخالفات كل ذلك وطرح التساؤلات في موضعها ومداخلها المتعددة المشارب والدخول
في عمق التجاذبات اللونيّـة أو الحروفيّـة واستخدام الفلسفة وعلم الدلالة وعلم الإناسة وعلم اللون وعلم الهندسة وعلم النفس في موقعٍ، لتـتــظهّــر الفكرة المقصودة في اللوحة.
2 ) البينية، بنظر ” هلبرت ” ( العالم الرياضي ) هي التي تصف العلاقة بين نقاط المستقيم. مشتقة من كلمة
(بين). فإذا وقعت النقطة x بين النقطتين F – W على قطعة مستقيمة، وعملنا إنعكاساً، فإنّ صورة X تقع بينW و F
-
الرحيل

منزلــق:
تعتمد دراسة الصورة وفق البينيّة الرياضية على التركيب الأسلوبي وصولاً إلى التصوّر الفلسفي وأبنية الأنماط العليا في لوحاته، واكتشاف النقاط الموقعة وبخاصة النموذج التشكيلي الجدلي الذي يعتمد واقع النقطةX بين النقطتين (أ) و(باء) مع خط مستقيم، وعمل الفنّـان إنعكاس خارج عن هذه الجدلية العلائقية بين (أ) و (باء).
تقابله عناصر الثنائية في الأخيلة البنائية اللونيّـة والفضاء اللوني. أما النموذج الدائري الذي يقوم على دائرية الأسلوب تبعاً لدورة الطبيعة، فماثل في الانجذاب الحداثـي، ويظهر من خلالـه البعد البيــنـي في خطوط وجيه نحلة وألوانه وتكويناته وأمثـل على هذه الالتزاميّـة البـيـنيّــة الرياضيّـة في التشكيلات الأرابيسكيّــة الحروفيّـة حيث مصدرها ومعادلها الحسّ. والبـيـنيّـة في ذلك فرضت حداثيـة من حيث مغايرة رسمها في التكوين للوظيفة المألوفـة، المعادلة لمعرفتنا التراثية. وينضم إلى ذلك، التكوينات الخطيّـة الحلزونيّـة والمنحنيـة في الأشكال الأرابيسكيـّـة التراثيّـة، مما أظهر نوعاً من “الديالوج” (dialogue) الحركي في الثقافـة الفنيّـة.
حول لوحة الرحيل:
ليس في مقدورالفنان “وجيه نحله” إلاّ اعتماد الاشارة المكثـفة باللغة اللونية في بنيتها الصراعية، عبر التقابل والتماثل غير التام وعبر التناقضات في إطار وحدة تشكيل واهية تراوغ الدلالـة. هذه التداخــــــــــــــــلات “l’interdisciplinaire” تشكل الصورة الواضحة المعتمدة على مساحة اللوحات الفكرية. كما أنّ ذلك يفرض عليه ألاّ يفرط أو يسهب في استخدام الألوان والتكوينات، حتى لا يفقد الصورة عمق الطابع الرمزي ويفقدها أيضاً التوترالذي تخلقه تقنيات التشكيل الاستعاري والكناية المركبّـة التي تُجمِعُ كلُّها على تحقيق بلاغة الجمال.
فضلاً عمّـا تقـدّم حول الرؤيـة البينيّـة النموذجيّة تلك، فإنّ التكوين في الصورة يتكـىء على الإسناد التشكيلي، حيث تجري عملية خلط الألوان لتعطينا مكـوّنـاً لونيّـاً ذا هويّــة مغايرة لكل لون من ألوان الخليط لخلق وضعية انحراف دلالات التكوين بالتعدّد والتدرّج والتنميط والتبيـيـن يؤدي إلى الخروج عن شيفرة اللون، فيفقـد اللون المنفرد معناه الحسّي ليكسبـه معنى جديداً أو معاني متعدّدة بتعدّد بيـنيّـة اللوحة. وبذلك يتكون اختلاف واضح بين فهم اللوحة وطريقة فهمها بحيث تكون اللوحة هي المدلول وفهمها الدلالة، ومختلفة من متـلـّـــقٍ إلى آخر. من فهم ناقل ومهم يـولّـد الاحساس. فالفنان التشكيلي مثله مثل الشاعر، يصفه “بول فاليري” بأنه في ” حـالـة حلـم دائـم “. البينيّــة اللونيّـة تظهر انكسار الفنّـان لقوانين الدلالات، وعصيانه قواعد البناء التشكيلي، وتترك لقارىء اللوحة، استـنهاض طاقته التأمليّـــة، محقّـقـة اللذّة في مــلء فجوات الفن والمسكوت عنه؛ فالعين التي ترى الصورة هي نفسها التي تعمل على رمزية المسطح وتعبيرية العمق وفق هذا المفهوم المغاير. حروفيّة إنسانية تجاوزية تضرب جذورها في عمق اللوحة غير المحدّدة وتجتاز السماء غير النهائية. فالإنسان برؤيـة “نحله” لا حدود لحلمه وطموحه وإن سلك في أحيان سلالم مرئيّـة متداخلـة في الشكل، موّحـدة في المضمون، هجســه الله والإنسان والكون في ألوان تمسك بالهجس الحروفي والايقاع المنضبط في “لا” التي تشكل جسم الإنسان المتصاعد.
هذه اللوحة تشـفّ عن روحانيّـة أو حالة من التصوّف أو الصفاء الذهني الذي يعيشه “وجيه نحله” في رحلة سياحية مع هذه القماشة (أو الورقة) ذات السمـة الروحانيّـة، وبذلك يحقق التـناسب في التركيب الدلالـي. وهي لوحة تحسب على الرؤية الحلوليـة في المرحلة الثانية من مراحل فنّـه حيث تداخلت الرؤى في إبداعه ما بين المراحــل التي عبّــر عنها. رافقونـــي في التـدرج اللوني والإسناد الحروفــي والتعبير الفكري، لنرى الإنبهار الذي كان يتقّصده في الانسجام ما بين البقع والأشكال الهلاميـّـة اللونيّـة الساخنـة، والبقع والأشكال الهلاميّـة الباردة (الرمـــــــــــــــــــــــــادي والأبيض…) كلّهـا تتمـازج في حالة انسجام بـــيّــنـي ليس لإقامة الفروق إنما لرسم حالة من التلاحم والتماســـك والتوازنـات والإيقاعـات الملحميّـة حيث تـراكبــت الألوان فوق بعضها بعضاً من دون أن يطغى لون على آخر في الأشكال الحروفيّــة الهلاميّــة ما بين تكوينـات هي الأقرب إلى “الأميـبـا” الدائمة الانقسام، المتوالدة في فضاء كوني عريض .
وفي المفهوم الرياضي البيني عند “هلبرت”، نلمس الزوايا المـركبّـة في اللوحة والتي من شأنها إذا رقمتها وحاولت رصدها، تتحصل النتيجة نفسها التي تباينت فيها الألوان. فالحروف المندلقة الممشوقة، تفرض على الرائـــــــــــي تحليلا جيوماتريـاً تـقـصّــده “نحلـه” بحروفيته وصوفيته. فمن أسفل اللوحة حيث نقطة F إلى أعلاها حيث نقطة W في كل مَشْـقـة حـرف ودروشـة إنسان يلتقي في الوسط، في المربع الورقي تحقيق بـيـنـيّ لـه الأولويـة على اللون المتدرّج المتماوج نحو اللانهاية (infini) فـتـتعـدّد التوهّجـات مما يمكّن الإنسان من حرية الاختيار، والبينيّـة تلتزم بالحريّـة والاختيار في الفكر الفني، وإن بدا لنا أنّ حروفه سجينة السياق والقياس، فهو برأيي، يلفت النظر إلى أنّ رقعتنا الجغرافية المتدرّجـة المرتقيـة بالعطاء، تدفع من هم على ظهرها (الإنسان) في إتجاه السمـو حيث البلوغ غير المحدود المفتوح الأفـق. وهذه المندرجات المحروقة البنيـّـة، ترسم السلّـم الإرتقائي للمتصوّف للإنسان الساعــــي للتطهّـــــــــــــــــــــر والتغسّـــل من أسلوبيات الحياة. رفعه الى النسوريّة حيث الشاهق الذي لا يحدّ، سحبه الى فوق الفوق حيث لا أحد يقدر أن يضع حدوداً للسمو، والنسر طائر خرافي اسطوري عجائبي في الديموقة والدهريّة والتحليق والإصابة والحريّة. وهؤلاء الراحلين يمسكون ذواتهم على مربع الحياة حيث الالتقاء وبنشدونه السفر الى حيث النسوريّة الى حيث الاعتماد بماء الروح المصفّاة. وآخرون يحاولون على سلّم الحياة، يتسلقون لام “الله” آملين الخروج من اسلوبياتهم للحاق بمن سبقوهم الى الارتقاء والرفعة واعادة الولادة الجديدة في قلب الأزل. “فاللامات” الممشوقة كلها دروب نحو خالق الصفاء نحو الألف غير المحدودة.
طوّر العنصر الحروفي مستخدماً فرشـاة عريضـة بـدلاً من الأقلام المسنَّـنـة، ضاغطاً على القماش أوالورق، مخفّـفاً مرقـــقـاً، متلاشياً حتى تجسيد الحركة واللون، فتخلق الحركات أشبه ما تكون بأصوات أوبـراليّـة، تتراقص على سديم مضيء، منفّـــراً الأصوات أو الحروف، ماسكـاً تحركهـا، مــدوزنــاً إيقاعاتهـا المتداخلـة، المتخارجـة إلى النور.
النشوة الراقصة
وفي هذه اللوحة تتجلّـى الرؤية الفردية النموذجيّـة من المرحلة الصوفيّـة التي تعشّق جزئياتهــــا “نحلـه”، فسكبها ذوبـاً من فؤاد يدور ويرقص ويتلاعب ويتخفـّـف ويجنـح ويخلـط ويعلـو ويهبـط ويتقاسم ويترجّـــح في إطار درويشـي زخرفي حروفي لونـي، يشغل الفضاء من رأسـه حتى أخمصـه. وتشدّنــا بـيـنيّــة اللوحة في الوجوه المتقاربـة، المتلاصقـة، المتباعـدة، الطائرة، الدائرة في البخور “الـلاّهِــي”. فاليدان المرفوعتان إلى الفضاء تشكــلان حروفيّـة الله بين لاميــن تتسامقـان في العلو والهذيـان إلى التعبير عن النشوة الصوفيّـة الـدرواشيّــة المتراقصة على صفحة من بحيرة الحياة الملموسـة.

هذا التكوين الأرابيسكي متماسك لأشكال دائريـة بيضاء ملتصقة أو كولاجيّـة لظلال تشكـل الصدى لألسنة أشبه بالزوائد على صفحة بعيدة في الحياة مشتهاة التحقيق. وتشكّـل كـلّ من المساحة العليا من اللوحة والمساحة السفلى منها، عالمـاً قائماً بذاتـه. فالتكوين المنعكس على بحيرة التأملات، يظهر الصراط المستعرض الملتوي المتعـرّج المتبـرّم الدائـخ الفاصل بين عالمين متبايـنيـن مختلفيـن . وهو تقسيم وإن كان زخرفياً أرابيسيكيّـــاً حروفيّـاً، فيه تـــزاوج الواقعية المرفوضة والأحلام المستحيلة، إلاّ أنـه من وجهة نظري، يشكّـل حالة فارقـة بين عالـم لـه طابــع شكلـي متوحّـد مع شتــــــات وانفصال، يكشف عنه تكرار الوحدة الحروفيّـة الزخرفيّــة الأقرب شبهاً بكلمة الله هاجس الصوفي وهاجس الفنّــان. وهي تشــّف من حيث الدلالـة الكليّـة على انتشار نمط فكري أو طقسي أو إعتقادي لـم يتبـــق منها سوى ظلّـهـا المتراقـص أو المتـذبـذب في وحـــــدة إيقاعية ساحــــــــــــــــرة حركيّـــة مقابل وحدة لونيّـة متماهيــة تشــّف عن ملحميـة فكـر أو عقيـدة أو إنتهـاج إلتزام ديني عميق عقائدي، يعتمد على القوة المختبئـة طــيّ الحـرف واللـون، وملحميّــة نمـط عقائدي قائـم على دعوة إلى السلم بالحكمة والسماحـة عبر الأزمنة وهو قريب من أسلوب المتتالية الموسيقية. وكأنه يبتكر قالباً في الفن التشكيلي، شبيهاً بالمتتالية الموسيقية وهو قالب المتتالية التشكيلية؛ إدخال العمق الفينيقي بالمفهوم الصوفي بالروح الدينية المصفاة بالهندسة والعقل المنظّـم بالحروفيّــة التي توخـى منها السمو إلى أعلى مراتب اللقاء الإلهي إلى كل التداخلات اللونيّـة الجماليّـة بحيث بات “وجيه نحله ” حالة مستقلة ورؤية خاصة في مسيرة الجمال الفني التشكيلي. هذه اللوحة المعروضة في خاصّـة أحد الأمراء في “جـدّه ” توحي بالأمن والطمأنينة. فاللون هنا، يعطي دلالة إيحائية تبعاً لموضعه في سياق التكوين. الأزرق بتدرجاته يتوزع الكتلة اللونية حيث تنقسم اللوحة إلى قسمين: قسم علوي وآخر سفلي، ويتوازن الفنّـان ما بين صدمات الحروف المتألقـة المعبّـرة عن وجدانه وأفكاره وحالات إنفصاله عن ذلك العالم الواقعي واختلائه بنفسه، مستمتعاً بحركية التواصل والتداور والانشراح، متسلّحـاً بثقافته الموسوعية العميقة محصلّـة تجارب ورحلة حياة. انتفع الفنان “وجيه نحله” بثقافة عصره وفنّه وعلم هندسته حيث ضفرها مع تحصيله الحروفي والديني. لذلك، نجده في المرحلة التي يطيب لي أن أطلق عليها المرحلة الحلوليّة، التي يحلّ فيها سحر الفنون في كيانه، فيشغله عمّـا عداه من هموم المجتمع والسياسة. يكشف عن مضمون ذاته أمام نفسه بعد أن ارتدى عباءة التصوّف الإبداعية ، ووقف متأملاً أمام مرآة نفسه، فانهمك في كشف أثر الحرف واللون على ضميره، وحـلّ الصفاء وحلّـت مرحلة كشفه عن متعته غير المتناهيّة في التعبير عن طموح إبداعه حتى يكون إبداعاً تشكيليّـاً حروفياً لونيّـاً إنسانيّـاً. فالراقصة نصفها كوب ملؤه البحر ونصفه الآخر بلّور يعكس صفاء النفس المطمئنة الى مستقبل مشرق. أراد “نحله” بهذه الهندسة البينيّة إخراج الواقع المضطرب الى اللا واقع الهادىء حيث الحلم الانساني المتسوّق الى عناق الأزل المتجسّد في خارج الخط الذي يحدّد مسطّح الكوب البلّوري، حيث الحياة الصّاخبة بالسلام الداخلي في قلب الله المتأنس بالدوائر الخلفيّة الموحيّة بامراحل الدروشيّة. الواجب سلوكها للوصول الى الصّفاء الإلهي للإنسان المتجدّد الطّامح الى الخروج نحو الأنسان غير المنظور.
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل