ماردُ التاريخ.. وقُمقُمنا

ليث مشتاق


عندما نتحدثُ عن التاريخ فنحن نستحضرُ ذلك الغائب الحاضرِ في كل مانُعايشهُ في واقعنا اليوم. ورغم عزوف العَربِ عنه وإنكارهم المستمر لهُ وتململهم من ذكره إلا أنه يبقى ذلك المارد الذي أختاروا عداوتهُ طواعيةً. بالتالي عليهم الأذعانُ لما يسلّطهُ عليهم من عواقب وتراكمات أدواتها الغريب قبل أولئك الذين هُم أولى بالمعروف. 

تكفي أية متابعةٍ للسلوك الجمعي العربي السياسي منه أو الديني أو الاجتماعي للوقوف على العزلة والفصام الذي بلغه القوم من أدنى حدود دراسةِ تاريخهم العربي والإسلامي وفهمه ودراسة حيثياته .. ولن أقول أخذ الدروس والعبرة منه ولاتشكيل ”والعياذُ بالله” رؤية استراتيجية محركها وقوتها الكامنة، ماقد يُستخلصُ من ذلك التاريخ في مواجهِ التحديات المحدقة بوجودهم ككتلةٍ بشريةٍ لها كيانٌ وقيمةٌ بين الأمم في عالمٍ استطاع أحفاد اللصوص والمنفيون والهاربون تشكيل فارقٍ حضاري وقوىً كونية كما هو معلوم.

وبعيداً عن الخوض في المنهجية الأكاديمية في تحليل ”تاريخنا، وطرائق كتابته” ودون الاستعاضة عن الترغيب في التقرُّب من التاريخ ومحاولة الإصطلاحِ معهُ لأغراض الدراسة والفهم، ومع الابتعادِ عن جلدِ الذات، قد تكون الحاجةُ الماسّةُ اليوم لتبسيط الحديثِ عنه أمام الجمهور المتفاوت من حيث الاهتمام به بقدر شغفه ”النفسي” ربما تواريخ أممٍ أُخرى ”بات الألمامُ بها يأخذ أحدنا إلى مصاف النُخَب وعليّة القوم فكرياً”. ولا أتحدثُ هنا عن تاريخ الإغريق أو روما كما لا أُنكِرُ على نفسي أو على أحدٍ ضرورة الإلمام بتاريخ الشعوبِ والأمم؛ لكنني أتحدثُ هُنا عن من أصيبوا بهوس متابعة المسلسلات التاريخية الأجنبية وأصطبروا عليها، مع نفادِ صبرهم أو إنعدامهِ أمام قراءةِ نصٍ تاريخي، في العام!

لكن، كيف نقرأ التاريخ؟ وماهي التحديات التي قد تواجهنا خلال قراءتنا؟ وكيف لنا التوثقُ من صدقية مانقرأ؟

وربما أسترسلُ في وضع المزيد والمزيد من تلك الأسئلة أمامنا .. لكن المقام لايتسع 

كيف نقرأ التاريخ؟

أظنُ أن قراءة التاريخ تتأتى لنا سهلةٍ سلِسةٍ إذا ما أدركنا حاجتنا لمنهجيةٍ واعيةٍ مُدركة مع ما أتيح لنا اليوم من معارف وعلومٍ ترتبطُ بالتاريخ بل هي مِن أدواتُ وآلياتُ دراستهِ وفهمهِ وفقهه؛ إذ لايمكنُ بحالٍ من الأحوال للمطلع على التاريخِ أن يكون جاهلاً باللغة التي كُتب بها، ولا أعني هنا اللغة العربية ”المبسطة” بل لغة العصر الذي كُتبت به النصُوص التاريخية. كما لايمكنُ الفصلُ بين النص التاريخي والواقعُ الاجتماعي والسياسي والديني والعُرفي لتلك الحقبة ”على فرض أن المؤرخ قد عاصر ماقد كَتَبَ عنه وأرخ”.

ولا أعني بالضرورة التفرغ التام لدراسةِ تلك العلوم كُلّها التي قد يحتاج المرءُ لحيواتٍ الى جانبِ حياتهِ كيّ يُلِمَ بها بل بأحداها؛ بل، أعني القدرة على الربط واللجوءِ الى الكُتبِ والمراجع المساعدةِ في فهم النص التاريخي. لكن، لماذا؟ 

لإنّن أخذَ أي نصٍّ تاريخي، أدبي، بل حتى ديني بمعزلٍ عن مُحيطه سيكون لهُ آثارهُ السلبيةُ في فهم النصِ مما قد يؤدي أحياناً الى تشكيل قناعاتٍ خاطئة وربما تشكيل رأي جمعي مغلوط. ولاحاجة لذكر النماذج في واقعنا وواقع الأجيالِ السابقة من أنتشار الأقاويل وتأويلها ألخ ألخ 

لذلك أدرك السلفُ ”وأصطلاحُ السَلَفِ يندرجُ على كُلُ من سَلف” خطورة الأمر مع تقدم الزمنِ وأنتقال العلم وخروجه من دائرة الخاص أيّ العلماء إلى من هم أقلُ علماً فأقل وصولاً إلى العامة، فشرعوا في التأصيل ووضع المناهج والشروح  فيما يتعلق بالتواريخ والسِير، مقتفين أثر علماء الفقه في أستخدامِ أدواتهم الفذة التي لازالت حتى اليوم مثار فخرٍ للمسلمين حيث وضعوا قواعد الأسناد ”علم الأسانيد و”الجرح والتعديل” أيّ النقد الدقيق والمباشر لمن نُقلت عنهم الروايات ”وعلم الطبقات” أي السِير الذاتية وطبقات الرواة والمحققين ومنهجياتهم ومذاهبهم في التوثيق والرواية ” وغيرها من الفنون والأبداعات… كُلّ ذلك لوضع الشروح المصاحبة للنص.

تلك الأدوات كُلها وغيرها وُجِدَت لخلق جوٍ عام يمّكِننا من الإحاطةِ بالنص التاريخي وغيره من أكثرِ من جانب والدوران حوله لفهمه من جوانب متعددة. والأهم، وهنا النقطة الثانية المهمة ”وضعهُ ضمن سياقهِ” من حيث الربط بين النصِّ وظرفه السياسي وذهنية المؤرخ ونزاهته وهواه السياسي أو المذهبي أو الديني وظرف تلك المرحلة التاريخية برمتها، وإعمالُ العقلِ بها تفكيراً وأستنباطاً ”دون أحكامٍ مُسبقة ”

تاريخنا

لايختلفُ تاريخنا كمسلمين عن سوانا من الأمم من حيث الأنفعالات العاطفية وفجاجة وجهة نظر المؤرخ أحياناً وكذا تأثير المناخ السياسي على زاوية النظر للأحداث. وعليه علينا عدم توقع ”العِصمة” من النص التاريخي.

ومن الملفت لأي باحث الصفة البشرية التي تكاد تكون هي هي للجموع وهي تتفاعل مع النص التاريخي شغفاً وحباً وتسليماً، أو عداءً ونكراناً وكراهية ربما لأنّ السواد الأعظم من البشر شُكلت بنيتهم العاطفية على أسس ثنائية القطبية ،حباً وكراهةً، مع ندرة القطب الثالث ”التفهم” —أي تقبّل الموروث أولاً على أنه كنز وصل إلينا بغضّ النظر عن مضمونه،  ثم دراسته وفق منهجية علمية بالنسبة للمعنيين. أما الجمهور فنحتاج لخلق حالة من التقبل ”الحذر” في التعامل مع النصوص التاريخية. وأعني بالتقبّل (هو الإذعان الى حقيقة أننا نتعامل مع بشر لم ولن يتمكنوا الفكاك من طبيعتهم البشرية أبداعاً وسهواً وتدليساً وأفراطاً وتفريطاً). والحذر أعني بها (عدم بناء مواقف متشنجة أو ردود أفعال على إثرِ تلك النصوص قبل التحقق والتيقن ووضعها في سياق). ومن الواضح جداً لمن عاصروا النصف الأخير من القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين، كم من الفلسفات والمذاهب الفكرية والحروب والدماء والتبدلات لمصائر دول ومدن ومكونات بأكملها كان الدافع فيها أحياناً والحُجج أحايين أكثر هو النص التاريخي. فلم تغب عن أسماعنا مصطلحات الحروب الصليبية، والمغول، والعرب والفرس، وسقيفة بني ساعدة، والجمل، وصفين، ويوم الدار، وموقعة الحَرةَ، وكربلاء… إلخ من مئات الأستدعاءات التاريخية التي لم ولن تتوقف لكنها تخبوا وتنشط بحسب ارتفاع وانخفاض مستوى الوعي والإدراك لدى الأمة وكذا بفعل العوامل الأستخرابية (ولا أقول الأستعمارية). وذلك ليس من قبيل الإيحاء والترويج لنظرية المؤامرة بقدر واقعية الأمر الذي لم يغب عن ذهن المعنيين بالبحث والرصد والتحليل للطوابير الخامسة والسادسة والمائة التي أُقيمت على هيئة مراكز بحوث ومنظمات مجتمع مدني غربية حديثاً وقديماً، مستشرقين ودور طباعة ونشر في لبنان ومصر وسوريا أواسط القرن التاسع عشر.

مراجعة أم إعادة كتابة!؟

تذكرني بعض الطروحات التي تُنشر في الصُحُف وصفحات ”الكُتاب” وهم يدعون الى (إعادة كتابة التاريخ العربي الأسلامي) أو (نبذهِ) تذكرني بأيام الصبا ونزعة التمرد التي كُنتُ أعيشها في العراق على كُل شيئ وأي شيئ. الواقع السياسي والاجتماعي والبداوة والميثولوجيا المُقحمة في كُل مناحي الحياة… وعندما كبرنا أكثر وربما (عقلنا قليلاً) ومع قليل من الدراسة والتأمل في بعض مناحي التاريخ وحقبه، تشذبت تلك الدعوة وأصبحت أكثر منطقية لتتحول الى (دعوة إلى إعادة قراءة التاريخ وليس نبذه أو جحوده). نعم، نحتاج لأعادة قراءة وأستخلاص روايات أقل طلسمةً (من طلاسم) وأكثر وضوحاً وبلغة مبسطة. كما نحتاج إلى طروحات تاريخية وسطية تبتعد عن الأورام النفسية لدى الأطراف المتصارعة.. والعناية بنقل الحقائق ”قدر المستطاع” وبأقرب صورة ممكنة للمتلقي معززةٍ بشروح، وأحد أهم الدواعي لذلك هو الهجمة الشرسة ”الممنهجة” على تراث الأمة بحجة ”الحداثة والتنوير” وهي حجة كلاسيكية منذ حقبة جورجي زيدان وما بعده… وأيضاً لتكرار حالة (الأستدعاءات المشوهة والمجتزئة عن عمد) من قبل ذوي الطموحات السياسية والمغامرات الظلامية، وقد نجح الطرفان في ذلك، للأسف، منذ ثمانينات القرن الماضي، مع ضعف صوت (العقلاء) أو من لديهم القدرة على التفنيد، أو اقصاءهم تماماً كي يُبعدوا هُم ولحنهم النشاز وسط عالمية وأقليمية المسيرة العسكرية والتجييش الذي يحتاج إلى صوت الجهل والجاهلية، لا العقل 

من الأستحالة بمكان الخوض في عالم التاريخ الجميل في سطور ولاصفحات ولامجلدات، إلاّ أن شدّ الأنتباه بين الفينة والأخرى لعظمة ذلك العلم تستدعي تخصيص وقفاتٍ وبضع مقالات لتقول على رأي أحبابنا المصريين في دارجتهم (من فات قديمه.. تاه عن جديده). وليتنا نُدرك سحر وعظمة ذلك التاريخ بكبريائه وعنفوانه، حلوهُ ومُره. ومن ذاقَ عَرَف، ومَن عَرَف أغترف

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply