نصب الحرية وجواد سليم

أصداء عبد الحميد التحافي

نصب الحرية سجل مصوّر يحكي قصص الشعب العراقي في حقب زمنية مختلفة. ولم يأت اختيار ساحة التحرير موقعاً لتشييد نصب الحرية اعتباطا: فهذا الموقع بالذات يربط أهم شارعين في تأريخ بغداد هما شارع الجمهورية وشارع السعدون، وهو مواجه لجسر التحرير، ذلك الجسر الذي ينقل البغداديين من الكرخ إلى الرصافة وبالعكس. وقد ساهم الشارعان والجسر في تنويع زوايا رؤية النصب مما أضفى قيمة فنية أخرى على النصب. 

في سنة 1959 قام جواد سليم وبمشاركة المعماري رفعت الجادرجي والنحّات محمد غني حكمت في تحقيق (نصب الحرية)، وكان لهذا النصب أثره على المجتمع العراقي في مختلف الثورات والعصور، فلم يتوحد العراقيون برمز يوما كما توحّدوا باتفاقهم بأن هذا النصب هو رمز للتخلص من العبودية والظلم.

قام جواد سليم بصياغة النصب عن طريق الرموز وأراد من خلالها سرد أحداث رافقت تاريخ العراق، مزج خلالها بين القدم والحداثة، حيث تخللت النصب الفنون والنقوش البابلية والآشورية والسومرية القديمة و كثير من الموضوعات التي استلهمها من قلب العراق. ولعل أهم ما يجذب المشاهد عندما يطالع النصب للوهلة الأولى هو الجندي الذي يكسر قضبان السجن الذي يتوسط النصب لما فيه من قوّة وإصرار ونقطة تحوّل تنقل قصة النصب من مرحلة الاضطراب والغضب والمعاناة إلى السلام والازدهار.

لقد كانت هناك بعض الهواجس أو الآراء المتنوعة عن الأولوية أو الفضل الكبير في وضع التسميات الاستباقية: هل هي للنصب، أم للفنان؟ والحقيقة فإن كليهما مكمّل للآخر لبلاغتهما المتناهية في الإبداع، فلولا الثقافة التاريخية والفنية العميقة والواسعة التي يتمتع بها الفنان جواد سليم، لما كان هناك عمل فني شامخ كـ”نصب الحرية” بمفهومه الفكري الإنساني والفني العالي، الذي أنار درب الفن العربي عموما، وأصبح السمة البارزة والمهمة في مسيرة الحركة الفنية في المنطقة، و امتدّ تأثيره للأجيال التي جاءت بعده من الفنانين.

إن “جدارية النصب” بحجمها الكبير (50م × 10م) وانتصابها الهندسي الرمزي الدقيق، تضم بين دفتيها أربع عشرة قطعة فنية برونزية باهرة في أفكارها الإنسانية وخطابها البليغ، مضامينها مستلهمة من عمق تاريخ الحضارات العراقية المتواترة. وقد اختار جواد سليم أسلوب النحت البارز لأنّه السمة الأساسية للفن العراقي القديم، لتكون الجدارية بالتالي خطابا إنسانيا وأخلاقيا وفنيا شاملا في كل زمان ومكان. و قد جمع بين الاتجاه الرمزي والاتجاه الواقعي في فن النحت وأثبت عبقريته الفنية وحضوره الإبداعي والإنساني في تيار النحت العربي والعالمي وألقى ظله الفني والوطني على حركة النحت من خلال رسالة هذه الجدارية العملاقة. 

حينما تنظر إلى مصبوبات النّصب البرونزية المنفصلة فإنّك تقرأ رواية تبدأ من اليمين إلى اليسار كما في الكتابة العربية. الحركة يمين النصب مضطربة  لكنّها تنتظم مع التحرك نحو اليسار وتصبح نابضة بالعزيمة والإصرار بصورة إنسان يتقدم بخطوة واسعة إلى الإمام لترتفع اللافتات والرايات الجديدة في السماء. بعد ذلك يطالعنا رمز البراءة والأمل على هيئة طفل صغير يشير إلى بداية الطريق. تطالعنا بعدها امرأة مشحونة بالانفعال والغضب والحزن، ومن ثم منظر مؤثر حيث تحتضن الام ابنها الشهيد وتبكي عليه، وهذا الأمر كثير الورود في التاريخ العراقي القديم والحديث، تليه صورة الأمومة التي تغمر الحياة الجديدة بالحب والحنان: فقد تكون للثورات والمآسي ضحاياها لكنها تملك في الوقت ذاته أجيالها الجديدة و لعل في ذلك التفاتة جميلة من الفنان لنبذ اليأس.

ثمّ نصل إلى الجزء الأوسط وهو الأهم في النصب حيث يشير إلى نقطة التحوّل ويتألف من ثلاثة تماثيل: على اليمين يطالعنا تمثال السجين السياسي و تبدو الزنزانة على وشك الانهيار تحت تأثير رجل مزّقت ظهره السياط، ولكن القضبان لا تنفصل في النهاية الا بإصرار وقوة وجهد الجندي الذي يظهر في الوسط.

بعد ذلك تنقلب صفحة المعاناة والمآسي لنقرأ صفحة السلام والازدهار والحرية وهنا تظهر لنا امرأة تمسك مشعلاً، وهو رمز الحرية الإغريقي، وتندفع نحو محررها.  وبعد الانفعال يأتي الهدوء فيتوقف الغضب ومواجع الثورة وتحل الراحة والسكينة في القلوب وتتحول بعدها القضبان الحديدية إلى أغصان.

نهرا دجلة والفرات اللذان يعدّان العمود الفقري لحضارة وادي الرافدين لم يغيبا عن النصب حيث تمثلهما امرأتان أحداهما تحمل سعف النخيل والأخرى حبلى، وثمة فلاحان , أحدهما في زيّ سومري والثاني في رداء آشوري, يرمزان إلى العرب والأكراد، يتطلعان نحو رفيقيهما دجلة والفرات ويحملان مسحاة (مجرفة) واحدة تعبيراً عن وحدة البلد الذي يعيشان في كنفه.

بعض من سيرة جواد سليم الذاتية

هو جواد سليم علي عبد القادر الخالدي الموصلي (1921-1961). يعد من أشهر النّحّاتين في تاريخ العراق الحديث وأحد أهم مؤسّسي الحركة الفنية المعاصرة في العراق، وهو أول فنان عراقي بذل محاولات جادة في الرسم الحديث، واستطاع في زمن

img_1826
جواد سليم

قصير أن يضع بصمته الخالدة في الفن وعلى الأرض.

ولد في أنقرة لأبوين عراقيين. اشتهرت عائلته بالرسم، وعند التأمل في شخصيته نتوقف أمام ظاهرة فنية متوارثة عائلياً: الأب قائد مخضرم في الفن والأخوة فنّانون كأنّهم بحارة تمخر سفينتهم في مياه الفن اللامتناهي. ولم يكن اهتمام جواد سليم في الرسم والنحت فقط، بل كانت له اهتمامات  بالسيراميك والكاريكاتير  وتصميم أغلفة الكتب. كان جواد سليم في طفولته يصنع تماثيل من الطين تحاكي لعب الأطفال.  في الحادية عشرة من عمره. حصل على الجائزة الفضية في النحت في أول معرض للفنون أقيم في بغداد سنة 1931. كان يحب الموسيقى والشعر والمقام العراقي ويجيد اللغة الانجليزية والايطالية والفرنسية والتركية إلى جانب لغته الأمّ العربية.

أرسل في بعثة ليدرس النحت في باريس عام 1938، ثمّ رحل الى روما عام 1939 لدراسة النحت في اكاديمية الفنون الجميلة. عاد الى بغداد بسبب الحرب العالمية الثانية ليعمل رئيساً لقسم النحت في المعهد ومدرّساً فيه, وفي سنة 1941 تأسّست جمعية (أصدقاء الفن) و كان  جواد و والده من أعضائها.

في سنة 1946 سافر إلى لندن ثم عاد الى العراق بعد ثلاث سنوات حاملاً دبلوم شرف في الرسم والنحت من مدرسة سليد للفنون. خلال دراسته تعرف على زميلته الرسامة البريطانية لورنا هيلزوتزوج منها في أيلول من سنة 1950 بعد أن لحقت به إلى بغداد. في سنة 1951 أسس (جماعة بغداد للفن الحديث)، وفي سنة 1954 قام برحلة فنية الى أمريكا، ثمّ قام بتأسيس جمعية الفنانين العراقيين عام 1956. في سنة 1959 بدأ دراسات اولية لجدارية (نصب الحرية) ثم سافر إلى فلورنسا بإيطاليا لصب أجزاء النّصب. حينما  تأسّست الفرقة السمفونية الوطنية العراقية عام 1960، اعتُمِدت إحدى رسوم جواد سليم شعاراً للفرقة وهو عمل مستوحى من القيثارة السومرية كان قد رسمه في مطلع الخمسينيات. 

في سنة 1961 عاد إلى بغداد وعكف على وضع قطع النصب في مكانها في ساحة التحرير لكنّ الأجل عاجله قبل إتمام ترتيب المنحوتات فتوفّي في 23/1/1961 بعد عشرة أيام من إصابته بنوبة قلبية أثناء عمله. وفي 16/7/1961 أزيح الستار رسمياً عن جدارية ( نصب الحرية).

له منحوتة شهيرة هي (السجين السياسي) قام بتهريبها الى لندن عام 1953 للمشاركة في المسابقة الدولية مع 3500 نحّات، وقد فاز بالمرتبة الاولى لفناني الوطن العربي وبالمرتبة السادسة بين نحّاتي العالم. استلهم جواد سليم في أعماله حياة الناس البسطاء وعكس عالم الطفولة، كما في لوحة (السقاء) ولوحة (اطفال يلعبون) وغيرها من الأعمال التي تظهر قدرته على التعبير عن بيئته باعتباره جزءاً من مكوناتها وحاجتها ومستقبلها المنشود.


لوحة الشجرة القتيلة

خرج جواد سليم من منزله صباح يوم (عيد الشجرة) من عام 1958 فشاهد رجالاً يهوون بالفؤوس على شجرة معمّرة ليجتزّوها،
بينما ما تزال أغصانها ظاهرة الخضرة وبادية للنظر. فتأثر بالمشهد ورسم عملا يجسد انفعاله فكانت اللوحة التي تُعرف باسم ”الشجرة القتيلة”. 

لوحة راقصة هندية

باعت عائلة الفنان الراحل جواد سليم (ارملته لورنا وابنتاه مريم وزينب) في مزادات لندن لوحة كان الفنان قد رسمها سنة 1949 عندما كان طالبا في مدرسة سليد للفنون بلندن، بمبلغ 170000 باون استرليني (285770 دولار). واللوحة هي (راقصة هندية)، أما المشتري فجهة لم يعلن عنها، لكنّ مصادر ذكرت انها جهة خليجية.

 

من أقوال جواد سليم

• الفن لغة، وهذه اللغة يجب أن نتعرف عليها ولو قليلاً. 

• الفن قطعة لموزارت وقصيدة من المعري وصفحة من موليير، والفنان الجيد يخدم الإنسان.

• الفنان يتابع ما يجري حوله ويعبر عنه بإخلاص، ولكن عليه أن يعرف كيف يحقق هذا التعبير.

• الفن الحديث في الحقيقة هو فن العصر، والتعقيد فيه ناتج عن تعقيد العصر. إنه يعبر عن أشياء كثيرة: القلق، الخوف، التباين الهائل في اكثر الأشياء، المجازر البشرية، وابتعاد الإنسان عن الله، ثم النظرة الجديدة إلى الأشياء بما أحدثته النظريات الجديدة في علم النفس وفي باقي العلوم.

• الفنان الذي ينشد الوصول إلى هدفه يجب أن يكرس له كل قواه وحياته، فيجب عليه أن يهضم كل قديم فيأتي بالجديد، وما هذا القديم إلّا دنيا هائلة.

img_5200

المصادر

• جبرا ابراهيم جبرا: كتاب (نصب الحرية).

• وليد الأعظمي: أعيان الزمان وجيران النعمان في مقبرة الخيزران.

• مجلة العرب: العراق يستحضر النحات جواد سليم ونصب الحرية وما بينهما.

• شيمـــــاء عبدالرحيــــــم محمود: نصب الحرية.

• سهى صباغ: “جواد سليم”..النحّات العراقي، ونصب الحريّة يحكي الأمس واليوم في بغداد.

• عادل كامل: بعد 55 عاما .. جواد سليم ونصب الحرية وثائق وشهادات.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply