متاحف من نوع آخر

عمر المشهداني

من عادتي إذا أردت أخذ الأولاد في نزهة، أن أجلس مع الأولاد وأفتح خرائط جوجل وأكتب كلمة (متحف) بالعربية أو الإنكليزية او غير ذلك، ونختار أحد الخيارات الكثيرة المتاحة في إسطنبول

اليوم فعلنا الشيء ذاته، فلفت انتباهنا مكان اسمه: متحف البراءة

استهوانا الفضول لمعرفة ما في هذا المتحف، ولماذا هذا الاسم الغريب الذي حاولنا أن نجد له تفسيرات متعددة ونحن في الطريق إليه، معظمها لم تكن منطقية

المبنى كان مبنى سكنيّاً صغيراً في أحد الأزقة، ولم يكن على الشوارع الرئيسة كما هو معتاد في المتاحف، كما لم تكن تذكرة الدخول إليه رخيصة الثّمن، بل كانت توازي تذاكر المتاحف الرئيسة في إسطنبول

في بهو المنزل (المتحف) ومباشرة بعد الدخول من البوابة سيلفت نظرك جدار عال ممتلئ بأعقاب السجائر، تجدها معلقة ومرتبة بتنسيق معين وهناك تعليقات مكتوبة على بعض منها، ومؤرخة بخط زمني في الأعلى يبدأ من أواخر السبعينات ويستمر لعدة سنوات، ومرتبة باعتناء ملحوظ كمن يجمع تذكاراته الشخصية أو دفتر يومياته

ثم تصحبك صناديق العرض الواحد تلو الآخر لمقتنيات شخصية عادية مرتبة بأسلوب عرض محترف يضيف الكثير من الواقعية والإنسانية إلى المعروضات، كأنها تروي قصة شخصيات عاشت تلك الحقبة من السبعينات والثمانينات، ويجعلك تتعاطف مع ساكن هذا البيت وصاحب هذه المقتنيات وتتابع حياته (العادية) باهتمام بالغ أدوات زينة، أدوات مطبخ، كتب ودفاتر، مستحضرات تجميل، ملابس، بقايا طعام، علب مشروبات فارغة … أشياء عادية لا يخلو منها أي منزل من منازلنا، كلّ ما في الأمر أنها عرضت بشكل صناديق أنيقة و وراء كل صندوق قصة وحكاية تستمع إليها عبر الحاكي الصوتي الذي تأخذه من إدارة المتحف عند الدخول.

أين البراءة؟ من هؤلاء؟ ما الموضوع…؟

..؟!

القضية يا سادة …

إنّ المتحف يتحدث عن شخصية خيالية في رواية للكاتب التركي (أورهان باموك) عنوانها “متحف البراءة”، يتحدث فيها عن بطل الرواية كمال الذي عاش قصة حب مع عشيقته (المتزوجة) في هذا البيت، وعن هوسه بمعشوقته لدرجة أنه كان يجمع كل شيء عنها او له صلة بها من أعقاب السجائر وبقايا الطعام وكأس الشاي الذي ارتشفت منه بضع رشفات ولم تنهه، وصولا إلى ملابسها وأدوات الزينة التي كانت تستعملها، ثم حول بيته إلى متحف لها ولقصته معها التي دامت 9 سنوات حتى وفاتها، ليقيم هذا المتحف وفاءً وتخليداً لها

ترجمت رواية (متحف البراءة) إلى عدة لغات، وقد عمد الروائي إلى تصميم المتحف بالتزامن مع أحداث الرواية، حتى إن صناديق العرض تتسلسل بتسلسل الفصول في الرواية

قضينا في هذا المتحف ما لا يقل عن ساعة ونصف أو ساعتين ونحن نحاول فكفكة الرموز والاطلاع على المقتنيات (ربما محاولة يائسة لاستنفاذ المبلغ الذي دفعناه للدخول

وعند خروجنا منه سألت الأولاد السؤال المعهود.. ما الذي تعلمناه اليوم؟

لم يشعر الأولاد بفائدة  سوى الاطلاع على مقتنيات منزلية لمرحلة سبقت ولادتهم بعقود، غير أنني خلصت من هذه التجربة بدرسين اثنين

الدرس الأول: إذا صحّ منك العزم هُديت إلى الحيل

لم يكن المتحف سوى وسيلة تسويق ذكية وفريدة للرواية ولأفكار الكاتب (مع اختلافي الشديد معها لأنّها صنعت حالة من التبرير والتعاطف مع الخيانة الزوجية باسم الحب) ولكنه جعل من روايته حقيقة لا يمكن إنكارها، تكاد تجزم أن كل شخوصها حقيقية عاشت هنا وسارت في هذا الطريق وشربت من قدح الشاي هذا ودخنت عقب السيجارة ذاك … حتى إنني عدت لأسأل أمينة المتحف عند خروجي: هل شخصية “كمال” خيالية أم انها عاشت هنا حقّاً؟

إذ لم أصدق ان كل هذا الجهد والتنظيم كان من أجل شخصية روائية غير حقيقية

فلو كان لنا ربع هذا العزم في إيصال رسائل وأفكار بناءة في المجتمع، لأحدث ذلك فرقاً ملحوظاً في مجتمعاتنا بلا شك

الدرس الثاني: حاجتنا إلى نوع آخر من المتاحف

لا أتكلم عن متاحف كبيرة تكون أيقونات للمدن ومعالم سياحية لا يمكن تجاوزها، كالمتاحف الوطنية، والتي غالباً ما ترمز إلى الشخصيات الرئيسة والعهود والأنظمة والسياسة وتاريخ الأمم… (وهي مهمة بطبيعة الحال). وإنما متاحف لحياة أفراد عاديين، أناس عاشوا وماتوا بهدوء ولكنهم تركوا تأثيراً ولو بسيطاً فيمن حولهم، متاحف صغيرة ورخيصة بين البنايات، ترسم أبطالنا الحقيقيين، سائق الباص وبائع الخضرة وصاحب الدكان وخادم المسجد والموظف البسيط  وغيرهم

والديّ ووالديك، أجدادي وأجدادك.. هؤلاء أبطال غابت عنهم أضواء الشهرة ولكنهم كانوا شموعاً لنا ولغيرنا في هذه الحياة… ومن حقهم علينا أن نحفظ إرثهم وتاريخهم و(حياتهم).

متحف البراة
متحف البراة في اسطبنبول، تركيا
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply