
الانتحار كارثة كبرى وجريمة ضد الانسانية بحاجة الى حل
تحقيقات: هيئة التحرير
:الإنتحار
هو إنهاء شخص ما حياته عمداً بطرق متعددة وقيام الإنسان بقتل نفسه بوعيه أو بدون وعي، وهو الفعل المقصود لقتل النفس أو إزهاق الروح عن سابق تصميم. يحتل الانتحار المرتبة العاشرة لأسباب الوفيات حول العالم، وتقدّر الإحصاءات الأخيرة وفاة 800 ألف الى مليون شخصٍ سنوياً من جراء الانتحار في العالم وجلها مرتبط باضطرابات نفسية وضغوطات اجتماعية ومادية كبيرة فاقت احتمال الضحايا، وإذا ما فشل المنتحر في قتل نفسه فإن ما أقدم عليه يُعد محاولة انتحار ويحاكم على وفق القوانين المعتمدة في كل بلد من البلدان.
:حرمة الانتحار
لقد حرمت الاديان السماوية جريمة الانتحار ووردت نصوص بذلك في التوراة والانجيل والقرآن، وهو عمل شائن ترفضه الفطر السليمة وتمجّه العقول الراجحة وتستهجنه الاعراف والتقاليد الحسنة فضلا عن القوانين الوضعية والشرائع السماوية باستثناء بعض الديانات الوثنية والطوطمية، وفي ذلك يقول الباري عزّ وجلّ في محكم التنزيل: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) النساء 29، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمّاً فقتل نفسه فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا).
كما أوصانا صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يتمنى أحدنا الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا فليقل (اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرًا لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيرًا لي) وإن الله تعالى يقول لمن ينهي حياته انتحارًا كما جاء في الحديث القدسي: (بادرني عبدي فحرمت عليه الجنة). وعلى التربويين والباحثين النفسيين والاجتماعيين فضلًا عن وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة أن يأخذوا دورهم في التوعية والإرشاد والتحذير من مغبة الظاهرة التي استفحلت بشكل مخيف داخل مجتمعنا المحافظ لعوامل عدة بعد أن كانت غريبة عليه تماما والى وقت قريب جدا.
:جريمة الانتحار وفق القانون العراقي
لقد نصت المادة (408) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل على عقوبة جريمة التحريض على الانتحار: (يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على 7 سنوات من حرض شخصا او ساعده بأية وسيلة على الانتحار اذا تم الانتحار وتكون العقوبة الحبس اذا لم يتم الانتحار).
:الانتحار تأريخيا وعالميا
لقد عرَّف قانون أورنمو (الّذي سبق قانون حمورابي بثلاثة قرون) وقانون لبت عشتار (وهو قانون مكتوب باللغة السومرية وضعه خامس ملوك سلالة إيسن) وقانون اشنونا (وهو قانون سبق شريعة حمورابي بنصف قرن) وشريعة حمورابي ظاهرة الانتحار ووُضعت بشأنه عقوبات مناسبة للحدّ منه. والحقيقة أن الدعوة إلى الانتحار لإحداث التغيير دعوة باطلة كان قد أطلقها الفيلسوف الروماني سينيكا حين قال: الموت الاختياري جدير بأفاضل الناس دون سواهم! وفي مدرسة هذا الفيلسوف المعتوه تخرج القيصر الروماني نيرون الذي أحرق نصف روما احتفالًا بعيد ميلاده وهو يغني ويعزف على القيثارة لينهي حياته انتحارًا على خطى أستاذه –سينيكا- الذي كان قد انتحر أمام زوجته في مغطس الحمام بقطع شرايين يده. شيخ الفلاسفة سقراط انتحر هو الآخر أو أجبر على الانتحار أمام طلابه بتجرّع السم وهو يبشر بمحاسن الحياة.
جاء في كتاب (الانتحار الخطأ الذي لا يغتفر) لكولين ديلن أن الأميين ينتحرون وقت الظهيرة فيما ينتحر المثقفون ليلًا. مع كل ما تقدّم ذكره، لم تنتشر ظاهرة الانتحار إلاّ على نطاق ضيق جدا بخلاف ما يشهده العالم اليوم لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها تحول العالم الى قرية صغيرة بفعل الثورة التكنولوجية وانتشار وسائل الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي على غير سبق مثال ما اسفر عن اختلاط حابل الافكار والاعراف والعقائد والايديولوجيات بنابلها!
:أعمار الضحايا وأساليب والانتحار وسائله
الملاحظ أن غالبية المنتحرين في العراق والذي يحتل المركز الرابع حاليا على مستوى العالم في حجم الكارثة تتراوح أعمارهم بين 17 – 25 عاماً وهناك ضحايا أصغر من ذلك أو أكبر سنا. تنوعت أساليب انتحارهم بين اطلاق النار من سلاح شخصي، الشنق، إحتساء السم، قطع الوريد، رمي النفس من شاهق الى الأرض أو في مياه النهر والضحية لا يجيد السباحة لضمان إنهاء حياته منتحرا، والحرق وهذا الاسلوب الأخير تستخدمه الإناث عموما أكثر من الذكور!
:حالات أخرى يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار
بعض المنتحرين يقدم على فعلته الشنعاء تلك بعد إخباره بأنه مصاب بمرض لا يرجى برؤه او لإدراكه بأن لا أحد سيرعاه أو يحتمله حتى أقرب المقربين اليه أو أنه لا يمتلك تكاليف علاجه، كالسرطان والايدز والزهايمر والباركنسون. وبعضهم يكون دافعه الخشية من افتضاح أمره بقضية ما أخلاقية أو مالية أو وظيفية أو جنائية، و بعضهم هلعا من المستقبل المظلم، أو نتيجة لصدمات عاطفية ووجدانية مختلفة. بعضهم ينتحر بسبب المخدرات والخمور بغير وعي منه أو بتأثير أمراض نفسية مستعصية وأبرزها الفوبيا والفصام والاكتئاب الشديد. و هناك دوافع أخرى كالإفلاس وتراكم الديون والخسائر التجارية والمادية الكبيرة المفاجئة على اختلاف مسبّباتها كالقمار والمراهنات والروليت والبلاك جاك والكوتشينة والبوكر وسباق الخيل.
وهناك القتل المخطط له سلفاً ليبدو على أنه حالة انتحار ويحلو لي تسميتها بجرائم الانتحار “السقراطية” التي ترغم فيها الضحية على الانتحار بالسم أو بإلقاء نفسها من شاهق ليظن المتابعون لها بل حتى المحققون في تفاصيلها أنها قد انتحرت اختيارا وما هي كذلك، و يمكن أن نسمّيها أيضاً جرائم الانتحار “المارلينية او السعادية” التي يقتل فيها المجني عليه بطريقة محكمة يبدو فيها أنه انتحر مع أنه قد اغتيل عمدا!
ولا يفوتنا أن نؤكد أن بعض الحالات التي تدون في ملفات الشرطة على أنها عمليات انتحار في المناطق الشعبية والريفية وبالأخص تلك التي تذهب ضحيتها النساء الصغيرات في السن إنما هي في الحقيقة جرائم قتل متعمد مع سبق الإصرار والترصد تأخذ صفة الانتحار لتعتيم الحقيقة على جرائم يطلق عليها اصطلاحًا “غسل العار” حيث تقتل المرأة وتعلق في حبل المشنقة أو تجبر على إحراق نفسها أو القفز من أعلى الجسور في نهري دجلة أو الفرات مع أنها لا تجيد السباحة لتبدو الجريمة وكأنها انتحار بملء إرادة صاحبتها فيما هي ليست كذلك أبداً.
أرقام مرعبة.. وأسباب مفزعة
أشارت عديد من التّقارير المرعبة في وقت سابق إلى أن إقليم كردستان سجل أعلى نسب انتحار على مستوى العراق، وبالأخص بين النساء. بلغ عدد النساء المنتحرات في الإقليم 400 امرأة في عام واحد بين منتصف 2010–ومنتصف2011. وقد تباينت طرق انتحارهن بين الشنق وتناول الحبوب المهدئة والحرق في ظاهرة لم يشهد لها الإقليم مثيلاً من قبل. من الحوادث الشّهيرة ما وقع في مدينة قلعة دزة التابعة لمحافظة السليمانية عام 1986 حيث قُتلت امرأة كردية في احدى القرى على يد اقاربها ودُفنت امام معسكر للجيش بعد ان أحبت شابا في الوحدة العسكرية فما كان من الشاب إلّا ان انتحر بعدها في أعلى التلة المقابلة لقبرها فقام آمر الوحدة العسكرية ببناء قبر له هناك اعلى التلة يقابل قبر حبيبته وسمي القبران “بقبر العاشقين” ولا ندري ماحل بهما الدهر بعدها.
وقد نشرت مفوضية حقوق الأنسان في العام 2014 تقريرا عن معدلات الانتحار في العراق تصدرت فيه محافظة ذي قار القائمة بـ 119 منتحرًا ومنتحرة مرتفعة بذلك عن معدلات سابقة بنسبة 60 بالمائة، وتطرّقت لوجود 439 حالة انتحار مسجلة بشكل رسمي في العراق خلال عام واحد فقط أغلب ضحاياها من الشباب توزعت بواقع 119 في ذي قار و76 في ديالى و68 في نينوى و44 في بغداد و33 في البصرة و16 بالمثنى و15 في ميسان و12 في واسط، وتراوحت طرق الانتحار بين الشنق والغرق واستخدام السلاح الناري والحرق.
ويرجع مراقبون للشأن العراقي ارتفاع معدلات الانتحار في الآونة الأخيرة إلى جملة أسباب منها التفكك الأسري وغياب الروابط العائلية وارتفاع معدلات الطلاق الّتي تجاوزت الـ200 % (ويعني هذا أنّ 10 يتزوجون و20 يتطلقون من السابقين واللاحقين وليس من المتزوجين الجدد فحسب سنويا) وتجدر الاشارة الى ان هناك نحو 10 حالات طلاق في العراق تقع كل ساعة وقد سجلت الدوائر الرسمية وقوع 4.500 -4.900 ألف حالة طلاق شهريًا يقابله عزوف الشباب عن الزواج بنسبة 50%؛ أما عن طلاق الزّيجات غير المثبتة في محاكم الاحوال الشخصية في ما يعرف بـزواج السيد والزواج العرفي فحدّث ولا حرج.
ومن العوامل الأخرى لارتفاع معدّلات الانتحار تأثير الإنترنت وما يبثه من برامج تشجع على ذلك بل وبث عمليات انتحار موثقة بالفيديو أولًا بأول والأفلام السينمائية التي تشجع الشباب على العنف والقتل والمخدرات والانتحار، ناهيك عن الاصابة بمرض عضال، البطالة، الاكتئاب، الفصام، القلق، الخوف المرضي من المستقبل، الشعور باليأس والإحباط، ضعف الوازع الديني، العزوبية، العوز، الفاقة وتراكم الديون. وعلى الوجهاء والتربويين والباحثين الاجتماعيين والمسؤولين التدخل السريع وتكثيف الجهود التي تصب في مصلحة التوجيه والإرشاد التربوي والنفسي في المدارس والجامعات ودور العبادة وتحسين الواقع الاجتماعي و الاقتصادي للشباب قبل فقدانهم تباعا.
:الانتحار بتأثير المواقع الشيطانية وبعض الألعاب الالكترونية
هناك من المراهقين والشباب من يقدم على جريمة الانتحار بتأثير مواقع الكترونية شيطانية و إلحادية تحرض على الانتحار بل و تدعو الى تصويره في بث حي الى المشاهدين، أو بتأثير إلعاب إلكترونية خطيرة ومرعبة يعشقها المراهقون وأشهرها تحدي تشارلي، الحوت الازرق، مريم، بوكيمون جو، جنية النار، تحدي مومو، دوكي دوكي والمسلسل الأميركي المثير للجدل 13 ريزنز واي. وﻻ تفوتني هنا الإشارة الى أن بعض هؤلاء الشباب يعاني من فقدان الحنان والتفكك الاسري وهؤلاء عادة ما يلوحون بالانتحار لجلب الانتباه واستثارة العواطف التي يفتقرون اليها فيما هم غير جادين به وأغلبهم يتم انقاذهم في اللحظات الاخيرة بعد حصولهم على الاهتمام المطلوب او المفقود الذي يستجدونه في حقيقة الامر!
:تجريم العمليات الانتحارية وحرمتها
أما بشأن العمليات الانتحارية الارهابية التي تقتل وتصيب مئات الأبرياء عبر السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة التي يرتديها إرهابيون ليقوموا بتفجير أنفسهم في مجالس العزاء والمدارس والمقاهي والأسواق الشعبية والملاعب الرياضية والمساجد، فقد أجمع فقهاؤنا من جميع المذاهب على عصمة الدم وحرمته فضلًا عن تحريم الانتحار كما أسلفنا، وحسبنا أن نسوق فتوى لمشيخة الأزهر نصّها (لا يجوز لمسلم أن يلتف بحزام ناسف لتفجير نفسه ومن حوله لأن قتل نفسه حرام، فما بالك بقتل الآخرين من الأبرياء المدنيين الغافلين، فهذا يعد انتحارًا لا جهادًا).
:وقائع وتفسيرات
إنّ قضية انتحار النساء أو قتلهن بقضايا الشرف والتمرد على التقاليد أو إجبارهن على الانتحار من قبل ذويهن أو محيطهن قضية شائكة ومعقدة جدا في كردستان تحديدا ومنذ عقود وبالاخص في اطراف المدن والقرى والنواحي والقصبات، فمقابل 39 حالة انتحار حرقاً عام 1991، سجلت دوائر الشرطة في عموم كردستان 441 حالة احتراق عام بمعدل فتاة منتحرة كل 20 ساعة في العام 2010 ماتت منهنّ من ماتت وانقذت في اللحظات الاخيرة من انقذت. وقد ارتفعت هذه النسبة منتصف 2011 .
أما عن سبب استخدام النساء الكرديات النار كوسيلة مفضّلة للانتحار أو القتل على يد ذويهن اكثر من باقي المحافظات والقوميات والمكونات العراقية الاخرى فيعود لـقرب النار منهن باستمرار بسبب برد الشتاء القارس وسهولة استخدامها في اي وقت فضلاً عمّا لهذه النار من معنى في معتقدات راسخة في اللاوعي الجمعي للكرد وخير شاهد عليه قصة كاوة الحداد الّذي اشعل النار اعلى الجبل ايذانا بقتل الملك الظالم على يده لتشرق الشمس مرّة أخرى بعد أن غابت عن السماء والانظار بسبب الحاكم الظالم كما تزعم الاسطورة، وبدء عهد جديد عادل عاودت فيه الشمس شروقها من جديد في- نوروز-، او العهد الجديد، وكلها من بقايا الزرادشتية القديمة التي تقدس النيران وتجعلها مع الماء مهمة جدا للطهارة الروحية في الصراع الازلي بين إله النور والخير «أهورامزدا» وإله الشر والظلمة «آهرمان»، وبالتالي فأن الموت بالنار هو تطهير للنّفس من الذنوب والمعاصي والاثام على وفق تصورهم المتوارث كابرا عن كابر حتى صار عرفا مجتمعيا راسخا ومتجذرا.
:حلول ومقترحات للحد من الانتحار
لكي لا نترك الموضوع هكذا على عواهنه من غير وضع السبابة والابهام على جانب من الحل فلابد من التذكير بأن على جميع المؤسسات الدينية والتربوية والتعليمية والصحية ومنظمات المجتمع المدني وبالأخص تلك المعنية بحقوق الانسان -دون إغفال دور الأسرة- التّعاون في اطلاق حملة توعوية وطنية كبرى شاملة وواعية ومدروسة تتظافر فيها كل الجهود الخيرة وعلى المستويات كافة للإحاطة بأسباب الظاهرة وطرق الوقاية منها وعلاجها وكبح جماحها بأسرع وقت ممكن قبل استفحالها اكثر، فضلا عن حظر الالعاب المحرضة على الانتحار والمواقع التي تروج للعنف والمخدرات والجنس لدورها في نشر السادية والماسيوشية والمثلية والاغتصاب والبيدوفيليا “ممارسة الجنس مع الاطفال ذكورا واناثا” والتي كانت بمجملها وراء العديد من جرائم القتل والانتحار سواء من قبل الجاني او المجني عليه
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل