
مع بدء العام الدراسي الجديد بدت المدرسة المسائية مثل كلّ الأعوام المنصرمة. حضرت من كلّ صف بعض طالباته يتحرّقن شوقًا لبعضهن ويتحدثن عن العطلة وأحداثها، ولم يجدَّ في المدرسة جديد سوى طالبات الصف الأول، يُعرفن من نظراتهن المختلفة عن بقية الطالبات وتخبّطهن بالبحث عن صفهن وعن من يرشدهن إليه وبعض الطالبات من المراحل المتفرقة اللواتي تركن الدراسة وعدن إليها من جديد، ومن ضمنهن غسق طالبة الصف السادس التي تركت الدراسة منذ ثلاث سنوات وعادت إليها من جديد بعد إصرار والديها على الرجوع إلى المدرسة.
وصلت غسق مشتّتة الفكر مع والدها غرفة الإدارة، بدت المديرة تعرفها من غير أن تراها، قالت في خَلَدها: لعلّ والدي أتصل بها ليخبرها قصتي منذ انفصالي عن زوجي لتراعي مشاعري وأحاسيسي المجروحة، يفعلها والدي. احمرت وجنتاها غضبًا.. هذا آخر يوم آتي فيه إلى المدرسة.
أجفلها صوت المديرة تطلب منها أن تلحق ببنات صفها اللواتي سبقنها في المجيء. امتثلت لأوامر المديرة بلا نقاش، سارت في الممر الطويل خجلة وكأنّها طفلة صغيرة تتحاشى فضول النظرات المتسائلة عن الطالبة الجديدة وكأنّها نسيت أن تبتلع حبّة المهدّئ، فالعالم حولها يكرهها ويكره وجودها معه كما كرهها ذلك الزوج فأرجعها إلى بيت أهلها قبل أن تكمل السنة معه.
لامست كفّها قبضة الباب الحديدية بهدوء لتفتح الباب الموصد على عشر طالبات أو أكثر بقليل
السادس العلمي؟
نعم، تفضّلي.
اختارت غسق أن تجلس في آخر رحلة بعد أن شغلت البقية الرحلات الأمامية، وما كانت لتجلس في الأمام إن وجدتها غير مشغولة.
حاولت أن تتدارى عن الأنظار بالانشغال بإزالة الغبار عن صدريتها الزرقاء حتى لا تُسأل عن سبب تركها المدرسة وسبب طلاقها وسبب عودتها…
أحسّت أنّ جلوسها على الرحلة طال أكثر من الوقت الذي يمر على الأخريات بساعاته المعتادة. أخرجت منديلاً من حقيبتها ومسحت الرحلة التي يمحو الغبار معالم كتابات الطالبات عليها، ثم جالت في نظرها بين الخطوط المحفورة على الرحلة تتأمّل عباراتها لتشدّها ذكريات الطالبات المدوّنة عليها: ذكرى ندى مع إيمان، أحبّك إلى الأبد، وفي حافة الرحلة الأيمن: لن أنساك، وبمحاذته A+S.
زاد لغط الطالبات كلّما زاد عددهن ولم يعنِ لها ما يدور حولها شيئاً، فانطمست في ذكرى مؤلمة تطاردها أينما ذهبت، فما زالت فرحة العرس بين ناظريها حين اختلفت مع خالتها في أمور تافهة، وما زال ذلك الحبّ الممتد منذ الطفولة يلاحقها حتى آخر يوم من زواجها الفاشل.
كلّ ما عرفته عن بنات الصف هو أنّ ثماني طالبات منهن فقط من المدرسة المسائية وأربعاً اُخريات التحقن بالدراسة بعد سنوات عديدة من ترك الدراسة.
قطع عليها وحدتها صوتُ إحدى الطالبات يسأل:
هل لديك جميع الكتب؟
نعم، صديق والدي جلبها لي من مدرسة صباحية.
كم سنة تركت الدراسة؟
ثلاث سنوات.
أنا تركتها منذ عشر سنوات.
أخذ الحديث بين الطالبات يسري إلى حياة كل واحدة منهن، فكل فتاة تريد أن تُعرِّف عن حالها وقصة حياتها المؤلمة. وهل تحمل المدارس المسائية غير الألم؟
لم يكن ذلك الشوق للبوح بما عند الفتيات مثل شوق هذه التي تنطّ هنا وهناك تفتح المروحة ثم تزيد في درجتها، تفتح النافذة ثم تغلقها منعًا للغبار من دخول الصف، تتّجه نحو السبورة تجمّل خطّها بكتابة اليوم والتأريخ ثم ترسم “بسم الله الرحمن الرحيم” في الوسط بخطّ تحاول أن تجعله الأجمل.
أخذت حركتها أنظار أغلب الطالبات وهي تدمدم: نام ابني الآن وعمّتي ستضع الغداء لزوجي، ثم استرسلت بالحديث من غير أن تسألها إحداهن عن تميّزها في الدراسة التي تركتها بسبب زواجها المبكر وإنجابها الأطفال، وتحذّر كل من تبغي المنافسة أنّها الأولى لا محالة.
لم تشأ أن تتبارى معها في المنافسة أخرى، فالفتاة تعجّ بالنشاط وتتباهى بأنها عملت في شركة أهلية على الحاسوب سنوات. أرادت طالبة ثانية أن تجاريها في الكلام وهي تبدو أكبر عمرًا، وعينها الشمال تبتعد عن عينها اليمنى فيجذب تخالفهما انتباه كل من ينظر إليها، قالت مكملة لحديث الأولى: ابني يقول لي “ماما عدت طالبة معي”، لكنّه يخشى أن أهمله، فأكّدتُ له بمتابعه واجباته كلّ يوم.
جاء صوت من الرحلة الثالثة: فليتابعه والده.
والده متوفّى منذ كان صغيرًا.
توحّد شعور الطالبات بالحزن والأسى على هذه الشابة الأرملة.
عذرًا، ما كنت أعلم.
لم يمضِ على سكننا في الشقة الجديدة سوى ثلاثة أشهر حين جاء لي بكلّ ما أحتاج.
تتابع من غير مهلة ولا بريق لأيّة دمعة في العينين المتخالفتين:
كان يبغي أن يجعلها جنتي، فحمل آخر ما كنّا نحتاجه -وهي سجادة الصالة- فتركته يبسطها على الأرض وذهبت منشغلة في تنظيف الشقة، ثم جئت لأرى كيف صارت جنتي بعد أن استبطأت مناداته لي، فوجدته يغفو على أرضها من غير فَوَاق.
الله يكون في عونك. تراه حسدًا.
بل لعلّه نفَس عمتي التي بكت علينا طويلاً بعدما سكنتُ معها أكثر كل الكنائن وما كانت تريدنا أن نفارقها لكنّ زوجي أصرّ على الذهاب لشقّتنا بعدما تركناها فارغة مدة طويلة لأجلها.
تتفاجأ غسق من طريقة قصّ هذه المرأة لقصة حياتها المؤلمة وكأنّه حدث عادي، تحدّثها نفسها: من منهما أكثر تعاسة هي أم الأرملة؟ لربّما الأرملة فملابسها قديمة وحجابها متواضع من يدري كيف تعيش في شقّتها مع طفل لا يتجاوز الاثني عشر عامًا.
ثم ينحبس بين فكّيها سؤال: لو تقدّم لخطبتك رجل هل توافقين على الزواج؟
يستحيل على شفتيها أن تنفرجا بكلمة لكنّها تتأمّل في وجه الأرملة التي لم تتعرّف حتّى الآن اسمها، كانت ستغدو من المليحات لولا هذا الخلل في العينين الواسعتين.
ساعة واحدة في المدرسة جعلت غسق تتحرّر من همومها لتعيش هموم الأخريات وصار فضولها يلحّ عليها في معرفة قصّة هذه المرأة التي تجلس في الرحلة المجاورة لها، وسبب عودتها في الخمسين من العمر إلى الدراسة. تتأمّل في الجهوم البادي على وجهها الأبيض وعينيها العسليتين، تحوم غسق بعينيها مع حوم المرأة الخمسينية في مكانها متذمّرة:
لا يجوز أن يبقى الصف من غير مُدرِّسة، فليخبرنا أحد متى ينتهي الدوام. نادتها من أول رحلة فتاة تجلس مستديرة نحو الوراء: أجلب لك ماءً، عصيرًا؟
لا أريد شيئاً.
لابدّ لفضول غسق أن يخرجها من صمتها، فتسألها:
طالبة أنت؟ وخجلت أن تقول لها يا خالة.
ضحكت نافرة من السؤال: لا.
أسرعت الطالبة في الرحلة الأولى بالقول إنها والدتي جاءت معي، فزوجي لا يسمح لي بالقدوم وحدي.
احمرّ وجه غسق وأحرجتها الإجابة، وأُحرجت الوالدة وعلا صوتها: سأذهب إلى المديرة لأستفسر عن نهاية الدوام، وخرجت من الصف غاضبة.
قالت الطالبة التي تجلس خلف ابنتها: والدتك عصبية يا منّة الله.
أبدًا والله، لكنّها تركت البيت في فوضى عارمة ووالدي مع العمّال لأنّ لديهم بناء.
لكنّ والدتك جميلة، لا تشبهك أبدًا.
أخذ جمال منّة الله يسرق أنظار الطالبات نحو العينين السوداوين الواسعتين والوجه الذي يحمل ملامح طفلة، والفم الذي يحلو الحديث بتدويرته المتناغمة مع الصوت الناعم وكأنّه ناي يعزف لحناً:
لا أشبهها لكنّ بنتي الكبرى تشبهها.
فتحت الهاتف المحمول لتري صديقاتها الجديدات صور طفلتيها الجميلتين وصورتها الأجمل بلا حجاب وتروي لهنّ كيف تزوجّت بعمر السادسة عشر من غير حضور والدتها التي كانت في الأردن، فأثّر ذلك على دراستها، لكنّ نيّتها في السفر إلى أستراليا جعلها تعيد التفكير في الدراسة، فأخو زوجها هيَّأ لهما فرصة عمل في شركته مع زوجته الاسترالية نهاية العام.
قالت الطالبة التي تبدو صديقتها وتجلس بعدها: ستتركيني وحيدة من جديد. من يغشّشني في الامتحان؟
ابتسمت منّة الله وقالت: تصوّرن، كنت أغشّشها وهي تنجح وأنا أرسب.
ما كنت أحتاجك يا منّة الله قبل طلاقي من زوجي المتوفّى.
تحوّلت نظرات الطالبات نحو فرقد صديقة منّة الله يَتُقنَ لمعرفة سبب طلاقها من زوجها، تفوقهن غسق في رغبتها معرفة تفاصيل عالم غيرها من النساء الذي فارقته منذ أن خلت مع نفسها في غرفتها وحيدة، فلا تفارق عيناها النظر إلى فم فرقد الواسع تنتظر بفضول ما تتفوّه به، وتطيل النظر بتفاصيل هذه الطويلة جدًا، لها عينان خضراوان وأنف متوسط بين الجمال والقبح وشفتان كبيرتان شكلهما أحدث صرعة في عالم الجمال لكنه غير جميل لولا شامة صغيرة أسفل منهما تسرق النظر إليها لحسنها في هذا الموضع من الوجه المدوّر.
طليق متوفّى؟ تشويق لا يمنع الطالبات من السؤال عنه وما سبب موته، فتجيب بلا حزن أو فرح، بلا كره أو محبة وكأنّ مشاعرها المتناقضة جعلت الأمر عندها سيان.
كان ابن عمي ويحبّني كثيرًا جدًا. يعشق فيَّ شعري، فمي، عيني، ويقول: “لا أرى في الكون امرأة أجمل منك”. وبعد زواجنا بشهور قليلة، حُكم عليه بالسجن، فانتقلت حياتي معه إلى اتّصال، يتّصل بي من السجن كل يوم يحدّثني وأحدّثه ساعات. وبعد مرور سنة صار يتحكّم بي عن بعد، يمنعني من الذهاب إلى بيت أهلي، يمنعني من الدراسة، ويريدني أن ألبس نقابًا. خشي عليّ من كلّ البشر. صار يغار حتّى من أخي إن حدّثته عنه. فمللت الحياة معه وهو بعيد ولا أمل في رجوعه، فانفصلت عنه، وبقي يتفقّد أحوالي من والدته التي تزورني ويبعث لي يهدّدني إن فكرت بالزواج من غيره، حتى جاءتني في يوم تخبرني بأنه قد هرب من السجن ويريد أن يعيدني إلى ذمّته. رفضت ارتباطي بهارب، ثم سمعت بعد شهور بأنّه قُتل في أثناء عملية إلقاء القبض عليه.
هل حزنتِ على موته؟
تُطرِق صامتة قليلًا ثم تقول: كان شهمًا لا يخاف. حزنت على شجاعته. ثم تصمت مُطرِقة مرة أخرى لشيء داخل نفسها يذكّرها بصفاته الحسنة التي ماتت معه بسبب طيشه في حبها.
كلّ هذا الذي تسمعه غسق يهوّن عليها بلواها، وهي التي كانت تتصوّر أنّها أتعس امرأة في الكون لكنّها وجدت أنّ في الكون من هنّ أتعس منها. فهاهي تنسى معاناتها لتعيش معاناة غيرها بكثير من الحزن وتتعجّب من قوة أُولاءِ الفتيات كيف يتعاملن مع الألم.
تعالى من حقيبتها صدى صوت يبدو بعيدًا فتحت سحّاب الحقيبة لتحمل هاتفها وهو يعلو بالرنين فتجيب على والدتها التي تريد أن تطمئنّ على فتاتها المكسورة، فعلمت من صوتها أنها بدأت تجبر لرجوعها للحياة الواقعية من جديد.
دقّ جرس المدرسة من جديد، هدأت المدرسة من الأصوات ثم دخلت إحدى المدرّسات الصف الذي كمل عدد طالباته. رحبّت بهن وحثّتهن على الدراسة والجد ثم فتحت معهن أولى صفحات الكتاب لتؤجّل قصص الأخريات إلى وقت لاحق