
عن هيئة التحرير
العربيّة لغة المستقبل. هذا ما يراه الكاتب الفرنسيّ جول فيرن في روايته الخياليّة “رحلة إلى مركز الأرض” الّتي كتبها في العام 1864. أبطال الرّواية يصلون إلى باطن الأرض عبر فوّهة بركان ويصادفون فيما يصادفون حيوانات ما قبل التّاريخ، وقبل عودتهم إلى سطح الأرض ينقشون بضع كلمات على صخرة لتكون دليلاً على بلوغهم ذلك العمق فيختارون العربيّة ليكتبوا بها تذكارهم. عندما سئل فيرن عن سبب اختياره العربيّة دون غيرها كان جوابه أنّها لغة المستقبل، ولا تغيب عن القارئ المتفكّر رمزيّة وصل الماضي بالحاضر فالمستقبل والتّوثيق لها بلغة واحدة.
إنّ اللّغة ثروة حضاريّة للمجتمع وحارسة هوّيته، واستخدام لغة سليمة في الكتابة مطلب غير قابل للنّقاش. من المؤسف أن نرى العربيّة السّليمة الفصيحة مقصاة أو مهمّشة في أكثر المواقع الإلكترونيّة والمدوّنات والمؤسف أكثر أن لا تسلم بعض المواقع المختصّة باللّغة من أخطاء تُتناقَل نسخاً ولصقاً فتشيع في الكتابة لتنتقل إلى اللّسان. الأخطاء المرصودة في لغة الإنترنت يمكن أن تندرج تحت أربعة مسمّيات: إملائيّة وصرفيّة ونحويّة وأخطاء في الأسلوب، وتشعُّب الأخيرة يستدعي أن نفرد لها حديثاً لوحدها.
الأخطاء الإملائيّة تحدث عندما لا يلتزم الكاتب بالقواعد الّتي اتّفق عليها أهل اللّغة فيجتهد فيخطئ ثمّ تتراكم هذه الأخطاء وتستفحل لتصبح داءً مستعصياً يصيب اللّغة في مقتل. أكثر هذه الأخطاء شيوعاً هو ما يختصّ بكتابة الهمزة والشّدّة، إذ يشيع إهمال همزة القطع في أوّل الكلمة أو وسطها أو كتابتها في ألف الوصل. والأشدّ خطراً من ذلك الخطأ في كتابة الهمزة المتوسّطة أو المتطرّفة ورسمها بشكل يخالف أحكامها الثّابتة والواضحة لينتقل الخطأ إلى مستوى ثانٍ ويصبح مزدوجاً: إملائيّاً ونحويّاً. أمّا الشّدّة فقد ضاعت في الكتابة والطّباعة عموماً حتّى أنّ الكثيرين من أهل الاختصاص الحريصين على اللّغة أنفسهم صاروا يوصون بكتابتها إذا كان غيابها يضيع المعنى ولا يجدون ضيراً في إهمالها إن “لم تكن مهمّة”. عجبي!
ويخلط البعض بين التّاء المربوطة والهاء، والتّاء المبسوطة والتّاء المربوطة، ويخلطون بين الضّاد والظّاء. ولنأخذ كلمة (الضّلالة) مثلاً. كم هو مؤذٍ أن نراها مكتوبة (الظلاله)! لقد استفحل الجهل بأبجديّات الإملاء حتّى ضاعت الشّدّة وقلبت الضّاد ظاءً والتّاء المربوطة هاءً، فيا لها من ضلالة!
والألف لم تسلم من أخطاء فاحشة على الرّغم من سهولة تعرّف إملائها الصّحيح. يشيع الجهل في كتابة الألف الفارقة فيلحقونها –خطأً- بواو الفعل الأصليّة فيكتبون: ندعوا ونرجوا وينموا (للمفرد الغائب) وهلمّ جرّا، أو يلحقونها بالاسم الّذي يأتي بصيغة جمع المذكّر السّالم فيكتبون: كاتبوا النّصوص ومتظاهروا السّاحات وقارئوا المقالة. وأقلّ من ذلك حدوثاً إهمال كتابة الألف الفارقة كما في: يعبدو الله، ويطلبو طلباً. ويشكل على البعض رسم الألف المتطرّفة في الفعل الماضي (المعتلّ الآخر/ النّاقص) فلا يعلمون ما إذا كانت الألف اللّيّنة في آخره تُكتَب مقصورة كالياء أم قائمة كالعصا، وهذا خطأ مركّب أو مزدوج لاشتماله على خطأ صرفيّ أيضاً. ويخطيء نفر من النّاس فيثبتون الألف المنطوقة غير المكتوبة فإذا ب(هذا و هذين) تصير (هاذا و هاذين) والإله يصير (إلاه)، وقس على ذلك من أمثلة سببها الجهل بما يتعلّمه طلبة المرحلة الابتدائيّة الّتي يسمّونها تأسيسيّة لأنّها تؤسّس لعلم لا لجهل.
ولأنّ العربيّة تميّزت عن أكثر لغات البشر الأخرى باستخدامها الحركات، ولأنّ الحركات هي ممّا يتعلّمه دارس العربيّة في المراحل الأوَل من اكتسابه المعرفة، فالخلط بين الحرف و الحركة يعَدُّ خطأً لا يغتفر. ولا تسلم النّقاشات المتبادلة على الإنترنت من خلط بين الضّمّة والواو أو الكسرة والياء. ونرى أحياناً فصل أحرف يوجب القياس المعياريّ وصلها، مثل: (من ما/ ممّا)، (عن ما/ عمّا)، (عن مَن/عمّن)، (أن لا/ ألّا)، وغيرها كثير.
أمّا الأخطاء الصّرفيّة فهي الّتي تقع في بنية الكلمة. ولغة الإنترنت تمتليء بأمثلة يصعب حصرها، وسنتطرّق إلى أكثرها شيوعاً. فمن ذلك اشتقاق اسم الفاعل بشكل خاطئ بسبب الجهل بالقاعدة. فقد يكتبون اسم فاعل الفعل الرّباعيّ وكأنّهم يقيسونه على الفعل الثّلاثي. مثل ذلك: هامّ وناكر والصّواب: مُهمّ ومُنكِر. واستحدثوا اشتقاقات للفعل تذهب به بعيداً عن المعنى المقصود كقولهم (تواجد وتواصل) الّتي تخرج المعنى من الوجود والاتّصال (وُجِدَ و اتّصلَ) إلى الوجد والتّواصل أو الوصال. وفي قولهم جَرَّيتُ ورَدَّيتُ ومَدَّيتُ وعَدَّيتُ (يريدون جَرَرْتُ ورَدَدْتُ ومَدَدْتُ وعَدَدْتُ) خلط بين الفعل المضعّف والنّاقص.
ويخطئون في المطابقة بين الكلمة وملازماتها تذكيراً أو تأنيثاً فيقولون: (أحد المشاكل وإحدى الأسباب) بينما الواجب أن تكون: (إحدى المشاكل وأحد الأسباب). ويكتبون: (تعجبني الكثير من القصائد) حملاً للفعل على القصائد، والأصحّ حمله على (الكثير) وتذكيره (يعجبني).
ويعجزون عن استخدام الفعل بصيغة المثنّى مطابقة لفاعله وهو أمر شائع جدّاً في كتابات المتعلّمين من غير أهل الاختصاص في العربيّة فما بالك بغير المتعلّمين؟ فالطّبيبان عالجوا (عالجا) المريض والصّحفيان قاموا (قاما) بتحقيق صحفيّ. ويهملون المطابقة بين النّعت والمنعوت تذكيراً وتأنيثاً. فيرد كثيراً كلام مثل: النّساء الأبطال والشّاعرة الأفضل. ومثل هذه العجمة كمٌّ جمٌّ.
ويشيع استخدام صيغة جمع غير صحيحة. من أمثلة ذلك جمع مُدير على مُدراء والصّواب مُديرون لأنّ فاء الكلمة (الحرف الأوّل فيها) مضمومة مثل (مُعيل/ مُعيلون، مُنيب/ مُنيبون) وليست مفتوحة (مثل غَريب/ غرباء، سَعيد/ سعداء) ومثلها جمع مُشكلة على مشاكل والصّواب مُشكلات (مثل مُؤمنة/ مؤمنات، مُرضعة/ مرضعات) وهي ليست مثل (مَزرعة/ مزارع ، مَدرسة/ مدارس).
على المستوى النّحويّ ترتكب لغة الإنترنت أخطاء بشعة أكثر بكثير من أن يضمّها مقالنا هذا فالمجال هنا مفتوح للانزياح عن أيّ تركيب أو قاعدة أثبتها القدماء في قواعدهم ليتدفّق فيضان الأخطاء بشكل تصعب مواجهته. فمرفوعات الأسماء ومنصوباتها والمجرور منها قد تتبادل الحركات، والفعل المضارع يُرفَع أو يُنصَب أو يُجزم تبعاً لمعرفة الكاتب بالنّحو أو قُلْ جهله. وبات أمراً عامّاً كتابة العدد رقماً تجنّباً للوقوع في الخطأ لأنّ القلّة هم من يحيطون علماً بأحكام العدد والمعدود.
هذا غيضٌ من فيضِ ما جنته لغة الإنترنت على العربيّة فزادت مستخدميه ومستخدميها رطانةً وعجمة. إنّ تفريط الكاتب بلغته جهلاً منه بأصولها أوإهمالاً لقواعدها لا يعفيه من تهمة الإساءة ولا يجعله أفضل حالاً ممّن يفعل ذلك متعمّداً لتخريب اللّغة العربيّة وإقصائها عن مكان الصّدارة بين أهلها.
وللحديث صلة.