
لوحة جنازة الشهيد لمحمود صبري
بالأمس، والأمس حلم ليته يعود، جلستُ بقرب من أحبّتها نفسي أنصتُ لحديثها دون أن أنبس ببنت شفة. أحسست في صوتها بقوة اهتزّ لها قلبي، فَصَلتْ ذاتي عن ذاتي وطارت نفسي سابحةً في فضاء لاحدّ له ولا مدى ترى فيه الكون حلماً والجسد سجناً ضيقاً. سحر عجيب مازج صوت أمي بعمق مشاعري وفجّر فيَّ أملاً كبيراً بمستقبل مشرق طالما تمنّيته. حدّثتني عن الأمل وكيف نستقبل الصباح بابتسامة العاشقين.
لم تمرَّ سوى ساعات قليلة حتى بان نور الفجر وتصاعدت تغاريد العصافير البريئة في سماء وطننا الحبيب. خرجت إلى الشارع وأنا أردّد بأعلى ما فيَّ من صوت:
اليوم فاحت روائح النرجس وعانقت عطر الياسمين، اليوم تشابكت نخيلات الأرض الطاهرة بأرواح الشهداء والمظلومين. ثمّ توقّفتُ لحظة فلم أجد من يردّد الهتاف بعدي سوى صدى صوتي المتفائل. سمعت نواحاً مرّاً وزفيراً متقطّعاً يملأ الضلوع ندباً ورثاءاً. تسارعت تنهّدات الأمّهات المضطجعات على أسرّة الهمّ و اليأس وراعت أحلام العوز قلوب الرجال المقعدين. وقفت أنظر، ومع نظراتي كانت تنسكب حلاوة الشفقة ومرارة الحزن على جوانب القبور الجديدة…
ها هنا قبر فتى دافع بحياته عن شرف عذراء وأنقذها من أظفار ذنب كاسر فقطعوا عنقه جزاء شجاعته وقد أُغمد سيفه في تراب قبره ليبقى هناك رمزاً يشهد أمام وجه القمرعلى مصير الرجولة. هناك قبر فتاة لامس الحب روحها قبل أن تغتصب المطامع جسدها وقد وضع حبيبها باقة ورد فوق جسدها الهامد لتحكي بغنائها الشجيّ عن مصير النفوس التي يقدّسها الحب وسط قوم أعمتهم المادة وأخرسهم الجهل. وذاك قبر رجل وقفت أرملته تصرخ وتنوح: الموت يسير و نحن نتبعه، وكلّما التفت الموت إلى الوراء يسقط منّا ألف، ومن يسقط يرقد ولا يستيقظ، ومن لا يسقط يسير قسراً حالماً أنّه سيسقط ويرقد مع الذين رقدوا، ويبقى الموت يحدّق في الشفق البعيد…
وتذكّرت حديث أمّي عن الأمل…
لن يهزمني الحزن.
لن يهزمني الحزن فلديّ كلمة أقولها.
وسأقولها.
وإذا راجعني الموت قبل أن ألفظها سيقولها الغد لأحيا بمجد المحبة.
فإن سملوا عيني ستصغي أذني، وإن طمسوا أذني تلذّذتُ بملامسة أثير ممزوج بأنفاس الخيّرين.
أين أنت يا أخي العراقي؟ أين أنت يا أخي العراقي؟ انهض ولا تسلّم نفسك للعناصر العمياء. انهض هنا، فالخبز الذي يشبع اثنين يكفي ثلاثة، أمّا الدماء التي احترقت فستجري أنهاراً كوثرية والدموع التي نثرت ستنبت أزهاراً زكية. الفرح آت والحب ليحملا كل قطرة حزن من مآقينا – يا أخي- ويرحلا بها. يا أخي، اجعل نفسك صديقاً يعزّيك فمن لم يكن صديقاً لنفسه كان عدوّاً للناس ومن لم ير خيراً من ذاته مات قانطاً وحيداً. وسيعلم الناس أنّهم باعوا الحق في سوق البؤس و أنَّ من يسعى في سبيل الخير لن يخسر.
لا تلبسوا الحق بالباطل إنّ الباطل كان زهوقاً.
هكذا هي الغربة في الوطن: قسوة قلب ووحشة ضمير.