
كُتب الكثير عن النفس البشرية وعن تناقضاتها في الأفعال والإدراك وتقلباتها ما بين المسير في دروب الخير و دروب الشر، وما بين ضروب الدنيا والسعي فيها والعزوف عنها والانصراف إلى الزهد والاعتكاف. ولقد جاء الكثير من التعبير والوصف لمعاني النفس في الكتب السماوية ومنها ما حمله القرآن الكريم من معانٍ وطروحات وافية عنها، فقد خلق الله تعالى النفس وفي الوقت ذاته ألهمها فجورها وتقواها وربط صلاحها و فسادها بأعمال الإنسان وأفعاله، إذ ترك له حرية الاختيار بين ما هو صالح تصلح فيه النفس وما هو طالح يحرف النفس عن تقواها.
إنّ لون الخط الفاصل بين النفس النقية والنفس الأمّارة بالسوء يتغير بموجب الأفعال التي يقوم بها الإنسان فيصبح أكثر إشراقاً بالأفعال الطيبة وأكثر عتمة بالافعال الفاسدة، وبهذا التوصيف للنفس البشرية تتبدل نوازعها في الأقوال والأفعال ما بين الخير والشر، والاعتدال والتطرّف، والإنسانية والوحشية، والصواب والخطأ.
لا يختلف الوصف العام لمعنى النفس في المفهوم الفلسفي عند إفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة اليونانيين كثيراً عن المفهوم العقائدي الذي أطلق على النفس البشرية بأنها العقل واللاوعي والروح التي تسكن جسم الإنسان، فالموت المعنوي للنفس يعني موت ضمير الإنسان وموتها مادّيّاً يعني موت الإنسان جسدياً وانتهاء دوره في الحياة.
وعند الحديث عن صور النفس البشرية نرى أنّ أشكالها قد تتعدّد فنجد فيها النفوس بمعاني التركيب اللغوي الذي جاء به كتاب الله المجيد، فالنفس المطمئنة هي التي تجعل الانسان مطمئنّاّ في حياته ومستقرّاً في تفكيره ونوازعه، والنفس اللوّامة تلقي بصاحبها في أتون صراع الضمير وهو الصراع الأزلي بين النفس وما ترتكبه من الأعمال الشائنة، أمّا النفس الأمّارة بالسوء أو النفس الفاسدة التي احتكم صاحبها لنزواته أو نزوات غيره فانحرفت به عن النواميس الإلهية والمدنية في وقت واحد فلم تكتف بذلك بل شرعت في مخاطبة عقول الآخرين لفعل السيّئات وتدمير صاحبها في الوقت ذاته كما يحدث عند أولئك الشباب الذين يقومون بتفجير أنفسهم في صفوف آخرين لتحقيق مطالب مجموعات إرهابية تلوّنت الخطوط الفاصلة لنفوسها بالعتمة والظلام وغابت عنها قيم الإنسانية والمجتمعات الفاضلة.
ما يحدث اليوم في أنحاء العالم من أعمال إرهابية توقع بالناس قتلاً وتوقع بالمغرّر بهم تفجيراً وموتاً غائباً سببه نفوس أصحابها الشريرة التي تتملك أجساد أولئك الإرهابين الذين تبنّوا أفكاراً متناقضة تدعو إلى إقامة ما يدّعون أنّه شرع الله بوسائل إجرامية بينما تحتفل بقتل الناس وموتهم حتّى أضحت أفكارهم المظلمة هذه ترهب الناس في جانب وتقتلهم من أجل بسط هيمنتها في جانب آخر.
لكن ما هي الجوانب التي تجعل الإنسان يركب موجة العنف إلى درجة التضحية بالنفس فيدفع حياته لموت محقّق إرضاءً لمجموعة وظّفته للقيام بعمل إرهابي لقتل الناس؟ مثل هذا السؤال وغيره من الأسئلة المشابهة أجاب عنه الكثير من المحللين النفسيين والسياسيين وأجمعت الآراء التي صدرت عنهم على وجود عمليات غسيل دماغ أُجريت على المغرّر بهم لكن دون توضيح ماهية الوسائل التي امتلكتها العناصر الإرهابية لتقوم بعمليات الغسيل تلك لتجرّ معها الشباب للقيام بتفجير أنفسهم دون أنْ يرُفَّ لهم طرف. إنّ هذا الموضوع متشعّب وعميق ويحتاج إلى الكثير من الجهد للكشف عن أسراره الغامضة، وما يقوله المفكرون يبقى ناقصاً ما دام الحديث دائراً حول نظريات المؤامرة والنظريات الأخرى التي تشتّت الأذهان وتبقيها بعيدة عن الاستنتاج الصحيح دون أنْ تجرّب الخوض في مسائل أكبر من الاسترسال الإعلامي أو الصحفي ومنها الدراسات المستفيضة حول النفس البشرية التي تقرر الاختيار ثم الارتباط. من هنا كان اختيار أولئك الإرهابيين أعمالهم الإجرامية وارتباطهم بالأفكار الضلاليّة المُظلِمة نسخة شيطانية استنسختها عقولهم.
صعود الفكر الضلالي المُظلِم في المجتمعات الحديثة لم يحل دون ولادة أفكار بنّاءة تحاول النهوض بمجتمعاتها والارتقاء بها إلى حياة جديدة مليئة بالأعمال الطيبة متجاوزة الحالات السلبية التي تجعل من الخطوط حمراء وصفراء ورمادية وتمارس في الوقت ذاته رياضة فكرية تدعو إلى نبذ العنف والتعصب الفكري والمذهبي لتجد نفسها في أحد طرفي الحبل بعد أن اختارت موقعها وارتبطت به للانتصار على الطرف المقابل وسحبه إلى حفرة يستحقها. وستبقى الحبال مشدودة بين الطرفين – بين أتباع الخير وأتباع الشر- ما دامت السموات والأرض فهي حكمة الله في خلقه، في الأرض والإنسان.
إنَّ أختيار نفس الإنسان أن تتبنّى الأفكار البنّاءة وارتباطها بمقارعة الأفكار الضالّة التي تعدّ من أكثر الأمور التي تسبّب هدم الدولة ودمارها كفيل بتقدم المجتمعات وإبعادها عن الفتن والصراعات الدموية الطائفية والتمزّق. ولضمان تحقيق المرجوّ من هذه الاختيارات والارتباطات لا بدَّ من إجراءات تحافظ على الأمن الفكري أي أنّها تبقي العقل والفكر في منطقة الأمان بعيدين عن التفكير الضالّ والسلبي والتطرف. ويتم تحقيق ذلك من خلال توعية المجتمعات بأهمية الأمن الفكري لتجنيب الأفراد التشتت الفكري والانجرار وراء الأفكار المسمومة كي لا يقعوا ضحية ذوي الأفكار المنحرفة ولا ينزلقوا في واحد من أخطر دروب الضلال ألا وهو الإرهاب.
إنّ مسؤولية حماية الأمن الفكري من التطرف والإرهاب مسؤولية مشتركة بين الدولة والأفراد وتستدعي العمل على تأمين جوانبه من الأمن النفسي والأمن الغذائي والأمن السياسي والأمن الأجتماعي، وهذا كفيل بإيصال أفراد المجتمع إلى الأمن والأمان.
تُتّهم المجتمعات أو الحكومات التي لا تسمح للأفكار المنحرفة الهدّامة أن تتسلّل إليها أو إلى أفرادها بوقوفها ضد حرية التعبير أو الديمقراطية وتتعرض إلى هجمات إعلامية طابعها الخطاب البراغماتي الذي يقدّم المصلحة على المبدأ وهو مبدأ الفيلسوف والطبيب الأنجليزي جون لوك Jhon Locke الذي يرفض التسلط والشمولية ولا يبالي بالمثالية والطوباوية والحقيقة المطلقة ولا يفصل بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة والفكر المنغلق على ذاته والمذاهب الأحادية الرؤية و يغلّب الأخلاق العملية والنفعية على الأخلاق المثالية.
لكنّ الحقائق على الأرض في مجتمعاتنا غير ما ذهب إليه لوك فهي مجتمعات كانت منغلقة على نفسها لفترات طويلة من الزمن قبل أن ينال منها المستعمرون فوجدت نفسها تقارع المستعمر وأفكاره أو أفكار علمائه الذي دعاه هذا الرفض إلى أن يقف بوجه من يحاول مقاومة خططه وأهدافه فنشر الفوضى وسلب الأمن والأمان وتدخّل بالأمن الغذائي والسياسي والنفسي فبدأت الأفكار الضارة تتسلّل إلى مجتمعاتنا بتشجيع من الغرباء وبدأ الانحلال يصيب أركان المجتمع وبرزت آفات فكرية نالت من أفراده وحرفته أشد الانحراف عن الطريق القويم والفضيلة.
وبعد أن نجح المستعمر في إيجاد الثغرات في مجتمعنا المغلق أضحى المجتمع منقسماً إلى قسمين هما:
المجتمع المادي وهو مجتمع تحكمه المصالح الشخصية بدرجة أكبر من المصالح المشتركة للأفراد وتغلب عليه النزعة الشخصية في امتلاك كل شيء ويحمل ما يحمل من الأفكار الضلالية خدمة لمصالحه.
والمجتمع الإنساني وهو مجتمع يهتم بمصالح الغير كما يهتم بمصالحه ويدعو إلى علاقات إنسانية أفضل بين أفراد المجتمع وهونقيض المجتمع المادي وتحمل نفوس أصحابه الفكر الإيماني بجميع جوانبه العقائدية والمجتمعية.
لقد ارتبطت نتائج هذا الانقسام في المجتمعات بسياسات دولها، فمن هذه الدول من قبِل بالمجتمع المادي وراح يغذّيه بقوانين خاصة ومنها من تبنّى سياسات تنمّي وبشكل أكبرالافكار الإنسانية عند أفراد مجتمعاتها مع الاحتفاظ بالجوانب المادية لتعزيز الدور الإنساني.
وهكذا أصبحت المجتمعات تعيش صراعاً مستمرّاً بين الأفكار النورانية البنّاءة التي يتبنّاها المخلصون لمجتمعاتهم والأفكار المظلمة الضلاليّة التي جاء بها الطامعون بانتظار المخلّص الذي يسحب الحبل إلى جانبه وينهي اللعبة.