
لا شكّ في أنّ التّأثّر والتّأثير المتبادل بين لغة وأخرى يثري ثنتيهما، لكنّ الإفراط في استيراد المفردات يقود -حتماً- إلى غربة اللّغة عن أصولها، واللّغة تقوى وتضعف بما تمرّ به من تجارب.
ومن الشّواهد على مرونة اللّغة العربيّة واستيعابها مفردات استقبلتها من لغات أخرى ما نقله السّيوطيّ في “الإتقان في علوم القرآن” عن أبي بكر الواسطيّ من أنّ القرآن الكريم نزل بخمسين لغة، أربعون منها من لغات العرب -أي لهجاتهم- ويعني هذا أنّ كتاب الله العزيز احتوى كلمات من عشر لغات من غير لسان العرب لكنّها كانت قد دخلت لغة القوم وصارت جزءاً منها قبل نزول القرآن.1ما جاء في الفاصلة القرآنيّة بغير لسان قريش (من العربيّ و الأعجميّ) و أثره في وفاق الفواصل، د. عبد المنعم أحمد صالح، مكتبة دجلة، بغداد، الطّبعة الأولى 2021، ص 42.
وإنّه لمن التّجنّي على العربيّة اتّهامها بالقصور عن مواكبة التّطوّر العلميّ لتبرير قصور مستخدميها عن الإلمام بها وبآلية اشتقاق مفردات مناسبة تقابل ما يجدّ في الحياة وفي اللّغات الأخرى. تحتوي العربيّة ستة عشر ألف جذر لغويّ فتقف أمامها اللّغات الأخرى خرساء بحسب وصف أهل اللّسانيّات؛ فاللّاتينيّة -وهي أمّ اللّغة الإنجليزيّة- فيها سبعمائة جذر لغويّ فقط. وعلى هذا يكون من البداهة أن تستطيع اللّغة العربيّة أن تكون لغة علم مثلما هي لغة أدب ومن البداهة ألّا نستسيغ أن تطغى الإنجليزيّة بوصفها لغة تعليم.
إنّ السّمات الّتي تنفرد بها العربيّة عن غيرها تؤهلّها لأن تكون لغة العلم بامتياز؛ ففضلاً عن سعتها الاشتقاقيّة وتعدّد المترادفات للمعنى الواحد تتميّز العربيّة بالوضوح وسلامة البنيان اللّغويّ والإيجاز والقصد إلى حقيقة الأمور والمنطقيّة والشّموليّة ووحدة المفهوم التّركيبيّ للجملة العلميّة. يعزّز ذلك كلّه اتّصالها الوثيق بالمجتمع وما فيها من قدرة على الّنموّ والحركيّة.2اللّغة العَربيّة والاصطِلاح العِلميّ، د.وليد سَراج، موقع شبكة صوت العربيّة. https://www.voiceofarabic.net/ar/articles/1947
وتطوّر اللّغة لا يعني هدمها، والدّعوات لتبسيط اللّغة قد تكون مقبولة إذا صاحبتها جهود لرفع مستوى مستخدميها والحرص على سيادتها، وإذا لم يتحقّق هذا التّوازن فلن يكون التّلاقح الحضاريّ متكافئاً وسيغدو استعماراً ثقافيّاً سلاحه الكلمة.
وإذا كانت الحكمة ضالّة المؤمن لا يبالي من أيّ وعاء خرجت فعلى العرب الإيمان المطلق بأنّ لغتهم ليست قاصرة بل متفوّقة على غيرها وأنّ لهم أن يغرفوا من وعاء علوم الغرب ما شاؤوا دون أن يعني هذا أن يخاصموا لغتهم ويديروا لها ظهورهم، كي لا يكونوا كمن يصدق عليه القول:
نعيبُ (لسانَنا) والعيبُ فينا وما (للسانِنا) عيبٌ سوانا