التمثال الذي يشحب

عبد الكريم كاصد

حين حدثت نكبة 5 حزيران كنت طالباً في جامعة دمشق. ما زلت أذكر حتى الآن مشاهد الأطفال وهم يمسكون ظهور أمهاتهم الريفيات في الساحة المحاذية لمبنى الجامعة لعلهم يجدون بين وجوه الجنود العائدين من الجبهة وجوهَ آبائهم أو أحبائهم. قصيدتي هذه عثرتُ عليها مصادفة في أرشيف مجلة الآداب لسنة 1967 

أولاً: التمثال البدوي

ها أنذا أرتحل الليلة تمثالاً بدويّا
تتوهج في سيفي الشمس 
أجرحُ جسدَ الصحراء أريقُ دماءهْ 
وأضمّخُ وجهي ويديّا
ها أنذا أرمي فوق الأعداء عباءهْ
وأعلّقُ في رمحي الرأس
ها أنذا أسقط في هزّة سيفْ 
ألفَ ذبابهْ
ها أنذا أضربُ فوق ربابهُ
وأغنّي أغنيةً للخوف 
ها أنذا أتقدّمُ تمثالاً شبحيّا
أفتحُ أبواب المدن المقهورة في إيماة إصبع
وأقود طوابيرَ الجند عرايا 
وأجزّ الأشعثَ والأقرعْ
 
 ثانياً: متاهة الهجير

أنا تماثيلُ الصغار أعولتْ في ساحة الرحيلْ
ظهورُكم تُخيفني 
أبصرُ فيها الماءَ والسرير
وصررَ الأطفال
أبصرُ فيها النارَ والوحولْ
ها أنذا أهتزُّ أجري في متاهة الهجير
أشدّ فوق ظهريَ الرحالْ
تحرقُني النار 
وأعدو عارياً
أُمرّ فوق الرمل وجهيَ المرير 
ألوذ بالحجار 
ها أنذا أجلس في ظلّ رحالي حوليَ الصغار
مرتعشي الوجوه في صرائر النساء 
ها أنذا أرتحل الليلة كالضرير 
أبحث عن عكّازة الهواء 
أضربُ كالجوّال 
رأسي يصفرُّ يصيرُ حجراً


  ثالثاً: ريفية وعائدون من الجبهة

منطفئٌ تمثاليَ الشاحبُ في وجهكِ
والأضواءُ في الساحهْ
ترعش كالورْقْة في الريحِ
ترعش كالدمعة في الريحِ
ترعش كالأضواء في الساحهْ
صغيرتي هل تعرفين السمكَ الراقص في الشارع
والساحةَ الضاجةَ بالجنود 
والنهرَ الذي يبكي 
صغيرتي هل تعرفُ الشارع؟
تمثاليَ الشاحبُ يا صغيرتي 
يرتعش الليلة كالورْقة في الريحِ 
يرتعش الليلة كالدمعة في الريحِ
يرتعش الليلة كالأضواء في الساحهْ
صغيرتي ها أنذا أترك خلفي الضوءَ والساحهْ 
والليلَ والتمثالَ والنهرَ الذي يبكي 
أترك حتى خفَّك الطينيَّ حتى وجهكِ الضائع 
ها أنذا أقتحمُ النيران في صحراء أمواتي 
ها أنذا أبحثُ عن وجههِ في زحمة أمواتي 
صغيرتي مسحتُ وجهه القتيل 
ألفَ مرّة
وما عرفتُ الوجهْ
صغيرتي مسحتُ وجهَهُ المحروق
ألفَ مّرةٍ
وما لمستُ الوجهْ
صغيرتي لا تشددي كفك فوق ظهر أمّك الوحيد 
تفرّق الجنود

رابعاً: التماثيل لا تقرب النافذة

التماثيل خلف النوافذ تحرسُ بِيضَ الكلابْ
وتمطّ الشفاهَ المديدهْ
في وجوه السنين 
التماثيلُ خلف كؤوس الشراب 
تقرأ الجائعين 
ثم تطوي الجريدهْ
التماثيل تقفزُ فوق النوافذ تهتزّ مثل الشرار 
ترتدي خوذةَ الميتين 
وتشقُّ الغبارْ 
التماثيل تهتزّ مثل الشرارْ 
التماثيل تحرسُ داري 
التماثيل تحرقُ داري 
وتُضيءُ المناديلَ فوق الحراب 
التماثيل لا تقرب النافذهْ

 خامساً: التماثيل تنعق كالغربان

كَذبٌ صوتكَ لم تبخلْ تماثيلُ النضار 
أنتَ من أنتَ تقيمُ السلّمَ القشيَّ في ليل الحصار 
كَذِبٌ صوتكَ والريحُ زجاجْ 
أيها الناعقُ في ضجّة مقهى
وشمكَ الأسود في وجهك
لا تنعقْ 
دع الموتى يسيرون بطيئا
لا تنقّرْ صفحةَ الماء
دع الموتى يسيرون بطيئا
آه لا تمددْ خطاك 
أنت ما مرّت على الموتى يداك
سمكٌ وجهكَ والماءُ زجاج
سمكٌ يقفز من فنجانكَ الليلةَ في المقهى 
ومن زحمة شارع 
أيها الوجهُ المخادع 
أيها الوجهُ الذي يصفرُّ في الشمس ويحمرُّ مرارْ 
أيها الحامل في أسنانهِ الحربةَ
والجرح بعينيه عوارْ 
آه لا تمددْ خطاك 
أنت ما مرّتْ على الموت يداك 
حجرٌ وجهكَ والحرفُ زجاج 
أيها التمثالُ في عتمة مقهى

دمشق 
مجلة الآداب اللبنانية العدد التاسع أيلول (سبتمبر) 1967
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply