فوضى الأحاسيس ورحلة البحث عن المعنى

قراءة في رواية وداد الحبيب

“محراب في كفّي”

فتحي بن معمّر

من “محراب اللّعنة” مروراً بـ “محراب الموت” تُبحر بنا السّاردة بلا أشرعة لنعتكف في محراب “الحزن المقدس” ونستكنه “حيرة الإله” أمام “طفولة على أرجوحة الزّمن”.
تُبحر بنا، وربّما لنا أو لبعضنا لنكتشف، بل لنستكشف معها قبل أن نكتشف ما تريد أن تكشف بعد تردّد سرديّ ومواربة لا تخفى على القارئ المحتفل بالكلام المضمر قبل الكلام المخطوط على البياض الذي يغريها بالكتابة فترضخ إليه متألمّة صامتة آملة، فتكتب هواجس النّفس وآلامها وآمالها وتنثر بين هذا وذاك في صمت المتعبّد المتبتّل أسئلتها الوجودية عن الموت والحياة ومعنى الكتابة وكنه السّعادة والحياة الموات بلغة شعرية آسرة وتكثيف قصصيّ غامز وأسلوب في الكتابة يقتنص غير المعهود فيجرّب المزج بين فنّ الترسّل والرّواية من ناحية والرّواية والقصّة والشّعر والخاطرة من ناحية أخرى، فيتولّد أمامنا صرحُ نصّ يعلو فيكاد يضاهي صرح “هامان” ونكاد نسمع السّاردة تصرخ وهي تتحدّث عن “حيرة الإله” بصوت جهوريّ حَييٍّ {فأوقد لي يا هامان على الطّين فاجعل لي صرحا لعلّي أطّلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه من الكاذبين} غير أنّها لا تنتظر هامان ليوقد لها وقد أوقدت جذوة السّؤال فافتتن السّرد، كما أنّها لا تريد أن تطّلع إلى إله موسى لأنّها لا تظّنه من الكاذبين وقد أدركت تمام الإدراك أنّ الموت نهاية الطّريق وأنّ السعادة في التوحّد والحلول مع وفي كلّ ما تؤمن به بطريقتها وأسلوبها ونبض السّرد فيها وهيجان الشّعر منها.
فالرّواية على ما يبدو من ملامحها الأولى بحث عن الجنّة الضائعة، جنّة الحبّ، جنّة الحياة، جنّة الأمل. وهي كذلك ارتماء حرّ في حمأة السؤال والحيرة الوجوديّة إذ هي تقع بين مدارين كبيرين يقدّم العنوان الأوّل “في محراب اللّعنة” تلخيصاً مزجياً عنهما وهما:
– مدار الجنّة: “لم يكن ببساطة يعنينا ما يدور خارج عالمنا. لنا حديقتنا، جنّتنا نرويها من شغفنا، ونكونُ. جدار جنّتنا مزدان بشرايين السّعادة النّابضة. بابها النّابض يُفتَح بوهج الحنين، حين نفتحه تنفتح أبواب أخرى. في كلّ غرفة شموع وموسيقى وأنوار الفجر التي تحتضننا وتغرينا بما نريد.”
– مدار اللّعنة والمتاهة التي مسّت السّاردة بمجرّد فتحها باباً مختلفاً عن سائر أبواب جنّتها: “فإذا وراءه لهب وضجيج وبراكين تثور … محاطة أنا الآن بجدران عالية في متاهة بلا نهاية، جسدي يا علّتي الأولى وربّما الأخيرة إلى أين أخذتني وكيف هويت بي؟ لم يبق لي الآن إلّا محرابي، محراب اللّعنة النّابضة من حولي في كلّ ما له أثر أو حسّ أو روح. لم يبق لي غير هذا الخفّاق. أنا اليوم ذكرى تشتعل تحت ركام الأيّام، وتضيء”
وهذه الذّكرى التي تشتعل تحت ركام الأيّام هي التي جعلت الساردة تجلس أما حاسوبها ولا شيء يشغلها “إلّا فكرة واحدة، هاجس واحد، أرق واحد: الموت. لكنّ هذا الموت ظلّ هاجساً وفكرة وأرقاً لم تعبر إليه بل رست بها سفينة الأسئلة على ضفّة اللغة فولدت هذه الرّسائل وانبجس النّص: “ولكنّي لم أمرّ، لم أعبر النّهر إلى ما رواء النّهر. اليوم أرسم بالحروف ما اختلج في النّفس في أيّام الحياد الملتبس التي مضت لأقف عند حدود اللغة وهي ضفّة ثالثة. تلك الضفّة وحدها استطاعت أن تعيد شجرة الحياة لتثمر فيّ من جديد. ومنها ولدت هذه الرّسائل، فاقرؤوني تعرفوني.”
ومن هنا تنبجس إشكالية تجنيس هذا النّص، أهو رسائل باعتبار قولها “ومنها ولدت هذه الرّسائل”؟ أم هو سيرة ذاتية بائحة من خلال دعوتها الصّريحة “فاقرؤوني تعرفوني”؟ أم هو حكاية أم خاطرة أم قصيد أم مجرّد نبض كما أوردت متسائلة: “بأيّ كلمات عساي أبدأ هذه الحكاية .. هذه الخاطرة .. هذا القصيد .. هذا النّبض”؟. والأقرب أنّها رواية كثيفة من حيث المعنى ومخضرمة من حيث الشّكل. فهي رواية تعتمد فنّ التّرسّل كعمود فقري، لكنّه ترسّل في اتّجاه واحد تنطلق فيه الرّسائل من السّاردة إلى مرسل إليه معلن واحد (الشاعر السّوري) ظاهرياً وإلى مراسيل إليهم عديدين مفترضين حيث تغدو لفظة “سيّدي” في خطاباتها متلوّنة حسب السّياق والموضوع والمزاج فهي تارة إشارة إلى المرسل إليه المعلن وطوراً إلى ضمير تجرّده من نفسها فلا نكاد ندركه وحيناً آخر إلى القارئ وفي آحايين أخرى إلى “الإله” أو إلى الموت. وتلك لعبة أتقنتها الكاتبة حين أفلحت في جعل السّاردة تتقمّص الأدوار المسندة إليها كلّها كما جعلت المخاطب المفترض “أنتَ / سيّدي” يتقمّص أدواراً عدة ويتزيّى بأقنعة وظيفيّة ينتفي عنها الحياد لأنّها في الأغلب تجعله خصماً تحتجّ عليه السّاردة بقوّة السؤال وبريق اللّفظ وسحر الصّورة وصدمة الفكرة وعنف الدّليل. وفي جوف تلك الرّسائل تضمين لحكايات عدة:
حكاية السّاردة وخواطرها وقصائدها ونبض حياتها وقلقها وهواجسها. حكايتها هي التي تصرخ: “لكلّ منّا عالمه الخيالي، ينسجه من نُسخ رغباته وعلى نبض شذوذه. وأنا المكبوتة في مجتمع لا يحترف سوى القمع والتّرهيب باسم الدّين والعادات والأخلاق الحميدة .. من تكون حميدة هذه؟ كم أرّقتني.. كم حاصرتني وقتلت ببرود ساخر لحظات السّعادة التي كان من الممكن أن أهرّبها من محراب الزّجر والقمع. لو كانت حميدة امرأة لقتلتها” وعلى هذا فحكايتها حكاية مفرد بصيغة الجمع الأنثوي في هذا المجتمع الشّرقي المستكين لعاداته وتقاليده.
حكاية الزّميل.
حكاية الجارة الحزينة المتّشحة بالسّواد.
حكاية صاحبة الدكّان وزبائنها.
حكاية الإنسان، وسؤال الكينونة والوجود، وأسئلة السّعادة والشّقاء والفرح والحزن.
وهذه الحكايات جميعاً تجثم على صدرها فلا تجد لها من فرج إلّا “الكتابة. ربّما هو القدر المحتوم الجاثم على صدري و(كلّ) كياني” فهي لا تكتب باختيارها ومتى عنّ لها أو متى راق مزاجها بل هي مكرهة لا بطلة “في النهاية أعتقد أنّني لا أكتب. لست سوى أداة لدى الكتابة”. ولأنّها رهينة عند الكتابة فقد انقدحت الكتابة لا برغبة ذاتيّة بل برسالة من شاعر سوري تتضمّن سؤالاً “كيف بدأت الكتابة ولماذا الشّعر بالذّات؟” فانساب القلم لا ليكتب الشّعر بل ليكتب نصّاً جامعاً للأجناس كلّها في خطّة تجريبية بديعة تحاول أن تبني رواية. فهل تُراها أفلحت؟

الرّسالة الأولى:
وهي كغيرها من رسائل الرّواية لا تعترف بالدّيباجة ولا بالشّكل المعروف لبداياتها بل تنطلق مباشرة كإجابة مباشرة على سؤال الشّاعر السّوري “كيف بدأت الكتابة ولماذا الشّعر بالذّات؟” بسؤال مباشر يوجّه إليه ظاهريّاً لكنّه في العمق يطال كلّ مَنْ كنّتْ عنه بسيّدي فوَرَدَ متعدّد الملامح: “أخبرني سيّدي: هل يمكن العودة إلى البدايات؟” وهو سؤال يفتح الباب على أفق الحيرة والتوجّس والرّهبة وربّما على رأي محمّد لطفي اليوسي “مدار الرّعب” الذي عبّرت عنه باستفهامات إنكارية عديدة تتجاوز زمن بداية الكتابة إلى أمور تتّصل بالوجود والكينونة والحياة ليصير السؤال أكثر وضوحاً وأدقّ تصويباً حين تتساءل: “أيّ ثانية لعينة أيقظت فوضى أحاسيسي ورمت بي في بركان الضّجيج الدّاخلي، تلك الثّانية التائهة في بحر الزّمن، تلك الصادقة حدّ اللّعنة، تلك التي سكبت اللّعنات على قدري لأكون الماء والنّار، الصّمت والصّراخ، القلم والممحاة؟” وحين وصلت إلى تحديد ماهية تلك اللّحظة أو الثانية اللّعينة المتلاشية التي حصل فيها التّحوّل قرّرت أن تجعلها “تولد من جديد على أفق الدّهشة علّها تخاطبني ولو همساً علّها تبتسم لخيالي وترسم الإجابة لأسئلتي على حبل الذّاكرة المتعبة”
وهذا القرار، قرار الكتابة واستحياء تلك الثّانية الفارقة على أفق الدّهشة ألقى بها في أتون الحيرة “أنا لا أدري، لا أدري ولا أعي غير عجزي عن الفهم” تلك الحيرة التي تدفعها إلى التمنّي “ليت صديقي الشّاعر يدرك أنّ كلّ ما سأقوله ليس سوى هذيان، استنفار ساذج لأجزاء من لوحة لم ترسم يوماً”. ولأنّ ما ستقوله ليس سوى هذيان فإنّ مواد النّص ومضامينه وأشكاله لم ترد منظّمة مرتّبة بل جاءت متشاكلة متداخلة بشكل يعكس فوضى الأحاسيس في كيان السّاردة في تداعٍ حرٍّ كما يقع دائماً في حالة الهذيان بحثاً عن تشكيل لوحة لا تدرك ملامحها ولا يُنتهى من رسمها. وكما تتداخل الألوان والظلال والضّياء والأشكال والمضامين في اللوحات التجريديّة تداخلت أو ستتداخل الأشكال في هذه اللوحة أو الجدارية الكبرى التي بين أيدينا المسمّاة “رواية” فنجد فيها القصّ والخرافة والحكاية وقاع الأساطير والقصّة والقصّة القصيرة جدّاً والخاطرة والشّعر مقصوداً سافراً أو متوارياً في الصّور والمجازات والاستعارات والانزياحات والّلعب البديع باللّغة والتّركيب.

الرّسالة الثّانية
بعد حيرتها العميقة في الرّسالة الأولى تعود للكتابة مدفوعة صاغرة لا برغبة منها إذ تستهلّها بـ “ها إنّي أعود صاغرة لأكتب إليك من جديد بعد أن مزّقت جميع أوراقي وأحرقت بقايا أقلامي. عدت لأجلس إلى محراب البوح لعلّ الكلمات تعيد رسم الأمنيات وينبجس المعنى من أشلاء الذّكريات” فنحن إذن في هذا المستوى مدعوّون للـ “إبحار بلا أشرعة” معها في “محراب البوح” في محاولة قاسية وشاقّة لرسم الأمنيات وتسوير المعنى والإمساك به. وفي هذه الرّسالة تنبجس حكاية الجارة التي سيصبح هاجس استكشاف تفاصيل حزنها وسببه برنامجاً سرديّاً مركزيّاً يساير برنامجها الأساسي في استكشاف ذاتها بل يشاكله ويداخله حتّى ما عدنا نميّز بين الذّات والموضوع. غير أنّ المهم أيضاً في هذه الرّسالة الكشف عن الجانب الشّكلي لهذه الرّسائل وعن الغاية منها حيث يرد فيها قبل المقطع الشّعري: “أخبرني سيّدي كيف أجعل اللّغة تفتح لي بابها لأغنم من سحرها وأبحر أنا أيضا كراقص على نار أعيد ميلاد الموت من الحياة فأنا …” فالنّص بهذا المعنى عند وداد لحبيب احتفاء بسحر اللّغة ورقص بديع مؤلم على النّار من أجل ميلاد الموت من الحياة لامرأة “تحمل ظلّاً لجسد موءود قبل الميلاد” وعلى هذا فنحن مدعوون معها في هذا المنجز السّردي الأوّل لشاعرة مُجيدة إلى “المشي بالمقلوب” عكس ما يراه النّاس الذين يرومون ميلاد الحياة من الموت والوجود من العدم.

الرّسالة الثالثة
تبتدئ الرّسالة من حيث انتهت الثّانية بعد أن مهّدت لها الأولى في ترابط دقيق ظاهر وخفيّ يُحسب للكاتبة تبتدئ من الحيرة “أجاهد نفسي وتكسرني ألف موجة. تلطمني… ترمي بي في كفّ الحيرة. تغمرني الأسئلة ويتيه المعنى” فتجد نفسها تهرب من الكتابة وتلجأ إليه ثمّ تهرع إليها “صاغرة” كما أسلفت “فكيف بي وأنا أهرب منك إليك لتجدني ههنا على أعتاب الحرف أكتب إليك ولا أدري ما أخطّه ولا إلى أين سترسو بي سفينة الغواية!”. غير أنّنا سنكتشف بسرعة أنّ سفينة الغواية سترسو بها على رمال متحرّكة على ضفاف الكون الغامض لجارتها المتّشحة بالسّواد. تلك الجارة التي سكنتها حتّى تماهت معها “صارت جارتنا تسكنني حتّى في غيابها. غيابها، سيّدي، حضور مفزع بلا مرافئ” وهذا ما جعلها لا تميّز بين ذاتها وجارتها فتلتبس الذّات بالذّات وتنتفي المحايثة وتلك أقصى درجات التقمّص وأعلاها كما يقول أهل المسرح “قصدتُ منزلها ذات حيرة. هل كنت أميّز بين الطّريق إلى منزلها والطّريق إلى منزلي؟ هل كان منزلها مختلفاً عن منزلي؟ وقفت أمام بابها، حدّقت فيه مطوّلاً حتّى بدا لي أكثر طولاً وسمكاً. بابها لا ينفتح إلّا نادراً كأبواب القلاع المهجورة. هو كبيتي إذن. لم أشعر حين دخلته أنّي غريبة في مكان غريب. إنّه بيتي. هذا بيتي. فمن تكون جارتي؟ من أكون أنا وأنا أدخل بيت امرأة كنتُ أراها غريبة في بيت غريب؟” وبهذا تجرّنا السّاردة ومن ورائها نفس الكاتبة الأمّارة بالسّوء إلى متاهة من الأسئلة فنتشبّث بخيط التّشويق لا نريد تركه بحثاً عن الحقيقة وكنه الأشياء واستكشافاً للأسرار التي تعتمد الكاتبة أسلوب التّقتير المفرط في البوح بها وكشفها وكأنّها تتلذّذ بتجرّع القارئ كأس الحيرة كما تتجرّعه حين يقرأ في المقطع الشّعري الذي تُختتم به الرّسالة عبارتيْن مفصليّتين واحدة وردت في وسطه “هي ظلّي الباكي إذن” وواحدة وردت في آخره “قبل أن يستر اللّيل شظايا ظلّي الباكي”. وعلى هذا فالنّصوص الشّعرية ليست حلية أو توشية للنّص بقدر ما هي محامل للسّرد والقصّ على الرّغم من اقتصارها على الإشارة والرّمز.

الرسالة الرابعة
تصبح الرّسالة الرّابعة شكلاً من أشكال التأسّي بعد منسوب الحيرة الكبير في الثّالثة وبعد شدّة الالتباس بين الذّات والموضوع ولذك تصرّح: ” كم هو جميل أن أخطّ إليك! كم هو دافئ أن أخطّ إليك عبق اللقاء! أن أبوح لك بما تدركه أكثر منّي كضياء نُسج من قناديل السّهر وأنا أجلس في هذه السّاعة المبكّرة من صباح يوم شتويّ ألتحف همس أمواج البحر تتكسّر بتغنّج الغجر على ضفاف التوحّد معك.” لكنّها سرعان ما تعود إلى موضوعها وموضوعنا، جارتها الملتبسة بها حدّ التّماهي فنقرأ: “أراها، سيّدي، فأراني وأرى كيف تُغتال الطّفولة الأولى في جسد اكتسحته العلل وشاخ قبل الأوان” فتعود الحيرة ويعود الاضطراب والألم وتنبعث الرّغبة في الانعتاق حتّى لكأنّ هذه الجارة ذات الثّورة الخرساء وطن السّاردة والكاتبة والقارئ والأسياد المخاطَبين في الرّواية ومنها، كينونتهم من كينونتها. ولذلك تخاطبها: “آهٍ يا جارتنا، كوني لأكون. حاولت أن أهمس لها بأنّ القوّة لن تكون لولا الضّعف وأنّ الثّورة لن تكون لولا القهر وأنّ الإنسان لن يكون لولا تصدّع الجبال بين فكّي الرحى” في دعوة صارخة للانعتاق ممّا نعتقد أنّه أقدار مقدّرة وجدران موصدة تسدّ علينا الطّريق في حين أنّ هذه السياجات والسّجون نحن من نصنعها بداخلنا في أغلب الأحيان فنقع بها ونقعد عن الفعل والتحدي: “هرولت أنا إليك وأدبرت هي إلى الجدار تريد المرور منه. آهٍ يا جارتنا، لو أنّك تدركين أنّك أنت الجدار والزّنزانة والباب. فمرّي منك عندها فقط ستدركين البحر” والبحر إبحار وسفر وباب من أبواب الحريّة ربّما.

الرّسالة الخامسة
رسالة ذات أهمّية قصوى في الحركة السّردية ففيها يحصل اللّقاء المنتظر أو لنقل المُشتهى بالجارة الغريبة الأطوار الكثيفة الأسرار العالية الأسوار. ممّا جعلها رسالة تُكتب في غير وقت كتابة الرّسائل الأخرى. فما حصل لا يحتمل التأخير والتأجيل “أعلم أنّني أكتب إليك اليوم في غير موعدنا. لم أستطع الانتظار إلى المساء. هل تعلم ما حصل معي الآن؟ نعم، نعم. لا تنظر إليّ هكذا رجاء. أعلم أنّك تعلم ولكن لا تحرمني متعة البوح إليك. أليست الحياة قصصاً متناثرة على قارعة الذّاكرة. دع قلمي يرسم بحبر شظايا المرأة الجريحة على أوراقي البيضاء فهي مثلي عطشى لمن يسقي حدائقها. الآن وجدت جارتنا عند بابي” وكما تنهال الأسئلة عليها في تلك اللحظة تضعنا كقرّاء في مرمى زخّات أسئلة حارقة حين تضيف: “وجدتها، سيّدي، عند بابي تنتظرني. نعم كانت فعلاً تنتظرني أو ربّما أنا من كانت تنتظرها بشغف منذ أكثر من عام أو ربّما أكثر من عقد، أكثر من عمر.” انتظار من أجل اكتشاف السّر أو الأسرار. ولذلك فقد غمرتها سعادة قصوى، لكنّ تلك السّعادة سرعان ما تتلاشى حين تدرك أنّ الحقيقة أبعد من أن تُنال فتعود إلى الكتابة إليه: “أحسست بالانتشاء، أحسست أنّ الكون توقّف عن الدّوران وأنّه جلس كطفل صغير هادئ يتأمّل نهاية اللّعبة ما أسعدني وما أشقاني بجارتنا فكلّما لملمت نبضي أعادت إليه ثورته الأولى لأهرول إليك من جديد.” فهذه المرأة الغامضة لا تبتسم، لا تتكلّم، تموّه بالمصافحة لتسلّم السّاردة “صورة شمسيّة شاحبة لطفلة صغيرة لم تتجاوز الخمس سنوات، طفلة كالبدر، كالحلم جميل يتغنّج على كفّ القمر” فتذكي حيرتها وتلهب نار السؤال فيها وفينا.

الرّسالة السّادسة
تُستهلّ على غير العادة بما يوحي بالانقطاع عن الكتابة أو عن تلقّي الرّسائل لفترة. ومنطقي أن يحدث هذا بعد الرّجّة التي عاشتها السّاردة في لقائها بالجارة وبعد توسلها إليه في آخر الرّسالة الخامسة “آه لو أنّك تجيبني ولو لمرّة واحدة سيّدي” ، إذْ تبدأ الرّسالة السادسة بسؤال غير معهود عن الشّوق: “هل اشتقت إليّ؟” وهو ربّما شكل من أشكال التعبير عن الشّوق إليه بطريقة حييّة. ولذلك فهي تتراجع: “هل هو الهذيان أم الجنون أم الوحدة أم غير ذلك؟ صدقاً لا أدري.” ثمّ تمضي لرواية حكاية صاحبة الدكّان وزبائنها وحديثهم عن الجارة وموقفهم منها في نقل مباشر أمين له وللقرّاء في محاولة يائسة لاستجلاء حقيقة أمر الجارة. هذه الجارة التي سنعرف بعض أخبارها ونتيقّن من غرابتها كما سنعلم بعض مميّزات السّاردة وعلاقتها بالمطبخ وتربيتها بشكل سلس يمرّ بين حبال من الذّكرى والحوار الباطني والخطاب الموجّه إلى سيّدها الذي تكتب له ومن خلال الشّعر الذي تصرخ فيه:
“فأنا الأنثى
ألا تدركين يا أمّي
أنّ القصيدة أنثى
الكتابة أنثى
اللّغة أنثى
وعلى خصر الأنثى
سيزهر الرّيحان
وستُعزف سيمفونية الخلاص”
ومن هذه النّبرة تتولّد الأسئلة الأخطر – بمعنى الأهميّة – في هذه الرّسالة حين يتماهى السيّد المخاطب مع الرّبّ في احتجاج أنثوي صريح يعضد نبرة القصيد السّابق: “آه سيّدي… لماذا جعلت المطبخ للنساء؟ وتنظيف المنزل من مهام النّساء؟ والإنجاب قدر النّساء؟ لماذا سيّدي لم تمنحنا حقّ الاختيار. لا تقل لي أنّك لم تفرض ذلك. فرضته بصمتك. فرضته واقعاً مقيماً وقيداً يُدمي معصم كلّ أنثى” غير أنّها سرعان ما تعود بنا من شرودها ومن خطابها للرّبّ على نهج “الشيخ علي” في إحدى قصص يوسف إدريس إلى الدكّان وأخباره وما يدور فيه لندرك “أنّ صاحبة الوشاح الأسود الطّويل قد أرّقت الجميع” كما أرّقتنا كقرّاء بغموضها “أرّقتهم بغيابها الصّاخب. لم تفتح كتابها ولم تسمح لأيّ منّا أن يقرأ أخبارها أو يفكّ رموز أحجيتها.” ثمّ تعود بنا مرّة أخرى إلى شرودها وإلى حوارها الباطني مع صاحبة الدكّان لتختم الحديث باحتجاج آخر على السيّد الرّبّ بطرح أخطر سؤال طرحه المتكلمون حول أصل الشّر ومكانته من الله حين تخاطبه: “اللّعنة. لا أدري. حسنا أنا شرّيرة أيضاً. ولكن لماذا جعلت منّا أشراراً وهل هذا يعني أنّك أنت أيضاً …….. لا لن أكتبها. قلتها وسمعتها وهذا يكفيني.” ولأنّ ما رسمته بنقاط متتابعة خطير لأنّه يُترجم حتما بـ “وهل هذا يعني أنّك أنت أيضا شرّير؟” فقد ختمت بسؤال فيه نبرة استجداء واعتذار: “هل أنت غاضب منّي الآن؟ سيّدي، أجبني أرجوك”. وعلى هذا، كما في الواقع، فإنّ عمق المأساة قد يدفعنا إلى عنف السؤال وإلى جرأة سرعان ما نحيد عنها كما فعلت تماماً. ولذا فالرّواية تضرب بسهم في طرح أسئلة عنيفة تدرك الكاتبة أنّها تؤزّ القارئ وتستفزّه فتمتنع عن كتابة العبارة وتستعيض عنها بنقاط متتابعة.

الرّسالة السّابعة
وهي الرّسالة التي تعلن فيها السّاردة الغاية من الكتابة إليه وتجعله ضميراً عارياً من عبارة كلمة “سيّدي” وبذلك يكون قريباً من نفسها سواء كان صديقها أو حبيبها أو الربّ الذي تناجيه وترجو عونه حيث تتبلور ثلاث غايات:
“أكتب إليك (بكلّ) الضّجيج الذي في صمتي ويظلّ اللّيل الكفيف في محرابي.”
“أكتب لأكون، ومعك يزهر البوح على كفّ التجلّي. أغادرني لأجدك ونمضي معاً في سكرة العتمة على ضفاف الفراغ وتخوم الكون حولنا ليعود المعنى إلى رحم اللاشيء، إلى الليل يوقد من ضياء التخلّي.”
أكتب إليك علّ جارتنا تهنأ ببعض الرّاحة أو يزورها طيف الحياة”
ويبدو أنّ الغاية الثالثة هي أمّ الغايات في هذه الرّسالة وفي الرّواية عموماً إذ تتحوّل السّاردة إلى ناطقة نيابة عن الجارة أو متحدثّة رسمية باسمها تستمدّ من عينيها هواجسها وأحلامها وآمالها وآلامها: “من عيون جارتنا الصّامتة حدّ الموت قرأت اليوم” ثمّ تمضي إلى الحديث عن بيت الجارة وإلى سرد تاريخ حياتها من موقع الخبير العليم لكي تصل إلى الكشف عن أهمّ أسرارها وتفهم سرّ حوار الصمّ بينهما عندما تقرأ على بياض الورقة ما خطّته الجارة “خسرت صوتي منذ بضع سنوات” فعمّها الخرس أيضاً ومالت من جديد لتطارد الكلمات التي طارت من عيون جارتها “في عينيها طارت كلمات نافرة” فاستحالت قصيداً مفعماً بالألم والصّمت والأمل والوحدة المطلقة التي جعلت السّاردة تهوي إلى حمأة السؤال والحيرة مرّة أخرى وتحاول إثارة الجارة بصورة الطّفلة لكنّها لا تظفر بشيء بل تكتفي بسماع نبضها يستجدي الأفق: “رحلت جارتنا بفكرها بعيداً، لم تعد معي. سمعت نبضها يستجدي الأفق”. فلا شيء إذن غير الفراغ والتمنّي لتعود من جديد نبرة استجداء السّيد الرّب وتنغلق الرّسالة: “هكذا كنت أرجو .. ولكنّك لم تكن تصغي إلى رجائي. لم تكن هناك”. وهي حتماً نبرة استجداء ممزوجة بكمّ هائل من الاحتجاج حين يرتفع منسوب الحيرة مرّة أخرى فتتوجّه إلى السيّد بالخطاب: “أخبرني سيّدي، كيف يولد الأسى من رحم السّعادة، كيف حطّت السّماء والأرض على أفق واحد لأبعث من بينهما، كيف أرتّق نفسي لحظة التّزاحم تلك؟ هذا التناقض يعرّيني أو ربّما هو الصّدق المجذوب المرتوي من عين العدم”

الرّسالة الثامنة
على امتداد أربعة فصول تمتدّ هذه الرّسالة الأخيرة لتشمل فصلاً أوّلَ معنوناً بـ “من وراء جدار الصّمت، هل تسمعني؟” وفصلاً ثانياً بعنوان “الحزن المقدّس” وثالثاً بعنوان صادم “حيرة إله” ورابعاً به تنغلق الرّواية “طفولة على أرجوحة الزّمن” وهي الفصول الأخطر والأهم في الرّواية. ولذلك فهي تكتب إليه أو تكلّمه وهي على يقين أنّه سواء كان صديقاً أو ربّاً لا يملك إلّا أن يسمعها مذعناً: “أكتب إليك اليوم منتشية من كونك لا تملك إلّا أن تستمع إليّ، لا يمكنك تجاهلي ولا أن تمتنع عن فهم ما أريد البوح به وما تعجز عنه لغتي ويضيق به صمتي. أنا الصّمت والضّجيج. أنا اللّغة .. أنا الحركة والسّكون. بي ومن خلالي شيّدت مملكة التّناقضات، فما ذنبي؟” لا يملك إلّا أن يسمعها لأنّها انبعثت من عالم المتاهة الأبدية واستشعرت حرّيتها وأدركت أنّها في تماهٍ تامّ مع جارتها ومع جاراتها كلّهنّ وبنات جنسها المقهورات لتصير قضيّتها ليست قضيّة فرد بل قضيّة جنس أنثويّ يكابد من أجل الانعتاق “لا تقل إنّني فقدت صوابي وأنّني أتحدّث عن غيري. أنا وجارتنا واحد متوحّد مع ذاته. هي منّي صداي ورجع أيّامي البعيدة .. هي وجهي الباكي. هي صمتي المختنق في حلقي. هي صراخي في شرايينها ودموعي تحرق وجنتيها. سأصرخ بصوتها وأبطش بعجزها وأكتب إليك ألف رسالة بنبض لياليها”. ولذلك ترتفع نبرة الاحتجاج حادة من خلال عبارات “لا تعاتبني” “استمع إليّ” ثمّ سلسلة من الأسئلة الباحثة عن أسباب وجيهة لما هي فيه هي وجارتها ومن يتماهين معهما:

غير أنّ هذا الانفجار الثّوري بالسؤال يوصلها إلى بوّابة التصوّف والتّماهي المطلق حلولاً واتّحاداً وانصهاراً وهي تخاطبه وتتحدث عن جارتها وعن نفسها: “أراها فأراني فأراك ويتلاشى الكون من حولي ولا يبقى إلّا الحرف” لتتولّد نبرة فيها كثير من الإصرار والتحدّي: “أنا وهي سنتوحّد، يوما ًما، كما كنّا دائماً وجهين بملامح واحدة لنكون المحبّ والمحبوب ولن نتذمّر من أيّ شيء” ولا أظنّ أنّ الكاتبة قد غفلت عن ذكر الجارة، بل عوضّتها بشكل مقصود دون شكّ بضمير المؤنّث الغائب: “هي” لأنّها صارت وجهاً لكلّ أنثى كما صارت كلّ أنثى وجهاً لها وما الجارة بكل ما تعانيه إلاّ مطيّة لبلوغ ذلك:
“أعرتها نصف وجهي
وأعارتني نصف وجهها
لنعيد رسم خريطة أنوثتنا المصلوبة
على شفق العدم”
وهذا طبعاً ما يجعلها تعتقد أنّ الحزن قاسم مشترك بين الجميع: “ربّما هذا الإحساس العميق بالحزن هو الخيط النّابض الوحيد بيننا جميعاً” وهذا الحزن الدّفين فيها وفينا، وهذا الحزن المتجلّي سافراً في وجه جارتها هو الذي يجعلها تدرك ذاتها من خلال جارتها فتدرك الإله وتذوب فيه متوحّدة: “أدركت كيف يكون الصّمت صادقاً والحزن نقيّاً والظّلام مشكاة تدلّنا إلى المحراب الحقيقي، محراب الذّات حيث ألقاك سيّدي لأجدني” وحين تتوحّد معه وفيه ستنتقل إليه الحيرة وهو يكتشف معها واقعاً ما يعلمه بالقوّة افتراضاً من معاناة هذه الجارة فيغرق -وهو الإله- في حيرة معتمة. وبذلك تكون الرّواية قائمة على لعبة كشف متدرّج للأسرار، أسرار الذّات والجارة والبيت والبنت والأنت المخَاطَب بأقنعته المختلفة ليعود النّص كما بدأ في بنية دائرية إلى الإقرار عبر استفهام إنكاريّ: “جسدي علّتي الأولى، أليس كذلك سيّدي؟” وإلى الموت بانتحار الجارة واستنكار الضّجيج الذي رافق نقل جثمانها: “مَن هؤلاء؟ يغتالون حتّى الموت. يقتلون حتّى الصّمت ويبعثرون المعنى”. هذا الموت الذي ينغلق به النّص بقصيد مطوّل أهمّ ما فيه هذا المقتبس:
“أيّها الموت
أترحل العتمة عنّي لترتديني كبرنس؟
سأغمض الآن عينيّ لأراك …
فلا أدري إن كنت أسكنك أم كنت تسكنني”
تلك هي إذن رواية وداد الحبيب برسائلها وفصولها وشخصيّاتها اللامسمّاة قصداً، رحلة في عمق الذّات انبجست بقادح خارجيّ وسؤال مستفز حول البدايات، بدايات الكتابة لديها وبخاصة: لمَ كتابة الشّعر بالذّات؟ فكانت الرّواية ردّاً كاسحاً على التّشكيك الذي قد يلوح من السؤال في قدراتها على الكتابة بنصّ يمزج بين فنون عدة ببراعة ويستفز بعنف ويخز الضّمائر بصلف ويزعزع المسلّمات بقوّة ويحتّج بشجاعة،ويتحدّى بوعي من أجل إثبات الوجود واقعاً وكتابة وسرداً بشكل تخييلي ممتع جمع من الأساليب فأوعى. فكان بذلك بديع اللّفظ لطيف الإشارة شديد التّشويق كثيف الدّلالة يستحقّ أن يُقرأ للمتعة والتدبّر والمجاجة.

 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply