
سربُ طيورٍ قليلٍ حطَّ على سلك الكهرباء . جوقُ قططٍ تتلمّظ فوق صفحة الاسفلت .
رجلٌ أصلع مرَّ بطيئاً من تحت المشهد . القصة تنمو وتتكامل . ثمة ما سيحدث بعد قليل .
قصَّ عليَّ صاحبي الكهل أحمد الجاحظ ثلاث روايات حتى الآن ، كلها كانت تنطوي على إجابات مائعة ومضببة عن ذلك القصر العتيق المهجور بباب الزقاق مثل تمثالٍ حارس .
قال إنَّ عمر البيت سبعون سنة وكان اعجوبة معمارية من عجائب المدينة ، وقد سكنته عائلة اسحاق القلعاوي لنحو خمسين عاماً قبل أن تهجره لأسباب ظلت مثل لغزٍ صار ملهاة لقصص الساكنين والعابرين والمتلصصين .
في روايته الثانية ثمة جزء فيه الكثير من التشويق والقليل من العقل ، وهو القسم المتصل بليلة مصنوعة أوشالها من صراخ وبكاء مرير ، تبعها صباح حزين حطَّ فيه تابوت أنيق فوق سيارة سوداء لنقل الجنائز الى أمكنتها الجديدة .
كان ذلك هو منظر جنازة اسحاق القلعاوي الذي تقدمته زوجته نرمين وبناته الست .
حاول سميري الجاحظ بطريقته الحكواتية الممتعة الإيحاء بأنَّ القلعاوي قد مات منتحراً ،وأنه سمع في تلك الليلة الماطرة الراعدة البارقة ، صوت طلقة نارية واحدة انطلقت من الطابق الثاني من البيت ، وبعدها تحول المنزل الى متوالية متصلة من البكاء والهلع ، لكنه لم يذكر شيئاً عن سيارة شرطة ممكنة ولا حتى خروجاً متوقعاً للحارس الذي يستوطن غرفة مرفهة تقع في الجزء الخلفي المظلم من البيت .
ثغرات كثيرة وحشو ونفخ اعتور رواية سهيري الطيب ، وكان الأمر يزداد متعة وإثارة بعد كل كأس عرق سمينة يدلقها الكائن الجاحظ بفمه المفتوح مثل مقبرة لا تعيد ميتاً .
ثم جاءت الرواية الثالثة وكانت بحق هي الأضعف من بين الثلاث .
قال إنَّ القلعاوي كان دائم القلق على بناته العانسات ، وانه لم يلحظ غريباً ولا حتى ضيفاً حلَّ على العائلة طوال عيشها الطويل هنا ، وهذا هو السبب الذي جعل الأب اسحاق يكلفه بالأعتناء بحديقة القصر . حدثني عن زراعته لأول شتلة ياسمين نمت بسرعة مذهلة حتى وصلت سياج الشرفة الجانبية التي كانت تؤدي الى غرفة البنت الكبرى سارة ، وقبل انطفاء السهرة الرائعة وقف أحمد على طوله حاملاً بيمينه المهزوزة كأساً أخيرة وصاح : بصحتك سارة حبيبتي !!
رددت عليه الصحة بالصحة والرنة بالرنة ، ثم رسمت على وجهي ابتسامة مواساة ، وكم كانت بي رغبة عظيمة لأن أقول له أن روايته هذه وتفاصيلها الملتبسة ، تشبه تمثيلية تظهر فيها حسناء غنية تعشق بستاني العائلة أو ساعي البريد !!