كيف نرى الجمال وكيف نفهم الفنّ؟

إضاءات بقلم: يقظان نعمان ماهر

لوحة بيكاسو التكعيبية

توطئة
في البدء علينا أن نسعى لمعرفة كنه الجمال. هل هو خاطر فكريّ أم فعل تناسبيّ شكليّ أم الاثنان سويّة؟ وهل يتعيّن علينا -لإدراك كينونته- الاعتماد على المدركات الحسّيّة للعقل والعاطفة أحدهما أو كليهما، وما دور الفن في صياغة ذلك كلّه؟

هذه أسئلة اجابت عنها حركة التأريخ ورسمت اتجاهاتها وانبرى لها الفعل الإبداعي المحكوم بالبحث والتجربة. لقد أفرزت الاتجاهات الفكرية المختلفة والتيارات الفنية المتباينة مدارس عدّة أظهرت قدرة الإنسان الفنان وكفاءته في محاكاة الطبيعة والاستلهام من تنوّعها الأخّاذ والتأثير الشخصي والجمعي في تحقيق إبداعات شتّى تفاعلت فيما بينها معلنة عن أنماط جديدة للحياة.
وبتطور تلك المفاهيم والمعارف ظهرت نزعة النقد التي أثْرت الحاجة المعرفية بكثير من البحث والتقصّي وساهمت في تطوير الوسائل التي يعتمدها الفنان بشيء من الفطنة والتركيز.
وجاء عصر التّنوير ومعه زمن الفلاسفة المحدثين. فقد قرر مؤسس الفلسفة المثالية الكلاسيكية الألمانية (إيمانويل كانت) أنّ كل نشاط بشري يعتمد بالأساس على الوعي أوّلاً والتجربة المعرفية ثانيأ التي تكشف عن ذاته وتدرك جدليّته. حدّد (كانت) صفات أربعاً للحكم على قيمة الجمال في التجربة الفنية الخالصة، وهذه الصفات تتبنّى المقاصد الآتية:
*خلو العمل الفني من الغرض، وبذلك يستحق السمو
*عالميّته، وبذلك تتوسع دائرة شموله
*انعدام فنائه
*التسليم بحيازته الإعجاب من الوهلة الأولى،
فإن توفرت تلك الصفات استحقّ العمل الفني أن يكون فعلاً إبداعياً مقنعاً يبعث على الرضا والقبول التام.
ثم يأتي دور الفيلسوف الألماني الشهير (هيجل/ 1770-1831) فيؤيد تلك النّظرة مضيفاً أنّ الفن حاجة من حاجات الإنسان النبيلة تكتشف الحقيقة لتضعها في تغذية الروح بل تجد فيها ذاتها متخذة من سيل المشاعر والأحاسيس مجالاً رحباً و مدياتٍ لا تضيق عندها نزعة الاستنباط والتقصّي. لقد سعى هيجل إلى تقسيم علم الجمال إلى ثلاث مراحل أو ثلاثة عصور وعمل جاهداً على تحديد السمات الجميلة لكل عصر، فاكتشف في الفن الأغريقي القديم مواءمة وتآلفاً بين الشكل والمضمون، كما اكتشف الصلة الكاملة بين مرحلة تطور الذات والقيم الجمالية غير المستقرة، ودأب على تفسير مهمة الفن وتطوره الدائم منذ نشأته الأولى حتى ظهور الرأسماليين بفعل حركة التاريخ مروراً بالحقبة البرجوازية والعقلية التطبيعية التعسفية التي نُعِتَتْ بها.
انبرى هيجل لتفسير علم الجمال ووظيفة الفن فوضعها عند مرحلتين: الأولى مرحلة الديانة الطبيعية والثانية مرحلة الديانة المسيحية ورأى أنّ انحلال الفن الإغريقي يعني وصوله نهايته وابتداء عهد جديد هو عهد السيطرة الروحانية المحضة وحلول القوانين الصارمة بشأن ذلك. ولما وجد أنّ دور الفن في العصر الوسيط لم يكن انهياراً مطلقاً اهتدى الى تقسيم علم الجمال إلى ثلاثة عصور هي:
*عصر الرمزية
*عصر الكلاسكية
*عصر الرومانسية
وبهذا التقسيم أضاف بعداً معرفياً جديداً استعار منه كثيرون واعتمده الفلاسفة والفنانون على حدّ السواء.
أما برجسون الفيلسوف المثالي (1859-1941) الذي تعتمد نظرته المعرفية على الحدس فيرى -هو الآخر- أنّ الفن حالة من حالات الإبداع يستدعي تحقيقها شيئاً من التوهج والانفعال تأخذ ديمومتها منه ويرى في نظرته المعرفية للفن أنّ الحدس هو العامل الحاسم في تقدير الإبداع الذي ينشأ عنه.
ثم يأتي دور العالم الأمريكي (جراهام والاس) الذي عاش في أوائل القرن الماضي، وتحدّد نظريته أربع مراحل تمر بها العملية الإبداعية لا تقتصر على الفن فحسب وهي:
*مرحلة التّهيؤ التي يعدّها فضاء الاستلهام
*مرحلة النضج والاختمار أي التجربة والخطأ
*مرحلة الإلهام وهي حالة التّجلّي
*مرحلة الاستقصاء والتحقيق
لقد استطاع هذا المفكّر أن يثبت أنّ العملية الابداعية ليست محض صدفة والنتاج الفني ليس وليد اللحظة، فضلاً عن ذلك فالعمليّة الإبداعية ليست مرحلة واحدة بل تمر بمراحل عدّة تتطور فيها وفق السياقات التي اقترحها آنفاً.
أمّا المنطق السائد اليوم الذي يتحكّم بلغة الفن الحديث فقد انبرى له العالم الفيلسوف والناقد الإنكليزي الشهير (هربرت ريد) الذي دعا إلى تبنّي نظريات التحليل النفسي، وقد سبقه إليها (فرويد) و (يونغ) العالمان الألمانيان الشهيران، ونظريات الديالكتيك لِعالِمَي الفلسفة والاقتصاد (ماركس) و (إنجلز) و تبنّي فكرة الحدس لدى برجسون كما أسلفنا، كلّ هذا لتمييز الخصائص الإبداعية الملهمة عند التحليل وعند الحكم.
ترى أين موقع الفنان العراقي من هذا كلّه و أين موقفه الإبداعي الفني؟
أهو إبداع محض لردّ فعل تأصّل فيه؟
أم هو اجترار لا تأسيس تحكّم فيه؟

 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply