وابل من الخيطان

Lubna Yassin

لبنى ياسين

كيف يمكنُ أن أعيش في هذا العالم وحدي؟ هذا السؤال بات يؤرّقني بعد أن اكتشفت ما يحدث، وعندما حاولت تنبيه الناس لم يصدقني أحد، حسبوني مجنونة وابتعدوا عني، لم يعد هناك من يرغب بالحديث معي، وهكذا صرت معزولة كداء معدٍ.  بدأ الأمر كلّه بحكّةٍ غريبة تعتورني في رأسي، لم أعد أذكر كم من الوقت مرّ قبل أن يظهر مكانها ورم صغير كما لو كان كتلة دهنية أستطيع تحريكها قليلاً بأصابعي. أصبح الورم بعد قليل هاجساً لا أستطيع تجاهله بل أن أصابعي تتجه إليه تلقائياً وتحكّه إلى أن يُخدش وتتبلل أصابعي بقطرات الدم الدافئ، عند هذا الحد لم أعدْ أحتمل فذهبت إلى الطبيب. قد يخطر في بالك أن تسأل: لماذا لم أذهب قبل ذلك؟ حسناً، إنه أمر يتعلق بي… لدي رهاب المعطف الأبيض. أشعر أنني إن ذهبت إلى الطبيب فإنني حتماً سأمرض مرضاً شديداً، ولدي قناعة تامة بأن الجسد لديه منظومة دفاع كافية لدرء أي مرض، وذهابك إلى الطبيب يعني أن ثمة عارضاً ما في جهازك المناعي يمنعه من أداء عمله كما يجب، وبالتالي فأنت تمنح جسدك – بذهابك إلى الطبيب- الإذن بالانهيار.  وهذا ما حدث فعلاً، إذ لم ير الطبيب ما يوجب الشكوى بل لم يعثر للكتلة اللعينة على أثر مما أفقد جسدي صوابه. بدأت أورام أخرى تظهر على أطرافي وتسبب لي حكّة لا أستطيع إيقافها قبل أن أشعر بالسائل الأحمر اللزج على أصابعي. تشوّه شكل أطرافي بفعل الندبات والخدوش التي تسببتُ بها لنفسي وأنا أفرك جلدي بجنون، بات الأمر مؤرقاً وبخاصة أنّ تلك النوبات أصبحت مزمنة حتّى لم يعد بإمكاني التوقف مهما حاولت.حولني الطبيب العام إلى طبيب نفسيّ وبدأ الآخر يقنعني أنني أعاني من اضطراب سلوكي/عقلي وأنّ عليّ أن أجد سلوكاً آخر أدرّب عليه أصابعي عند الإحساس بتلك النوبات وأعطاني حجراً لكي أحكّه كلما شعرت برغبة في ذلك موضحاً أنّ بالإمكان أن نغشّ عقولنا بتعويدها على إجراءٍ آخر بديل كردة فعل مخالفٍ لذلك الذي تطلبه منا، وأنّ الأمر يستدعي وقتاً للتدريب لن يتجاوز شهراً أو شهرين على أبعد احتمال. وعندما لم يفلح هذا التكنيك في علاجي بعد شهور من المعاناة مع الحجر الذي أبدله أول الأمر إلى كتلةٍ من المطاط، مفترضاً أن صلابة الحجر تعيق عقلي عن تصديق الخدعة، ثم إلى تمثال على شكل جسد إنسان ليحاكي جسدي بعد أن ظنّ أن شكل الكتلة هو سبب رفض عقلي لها وصف لي أقراصاً جعلتني أهلوس، فتارة أرى أبي -رحمه الله- يحتسي معي كوباً من الشاي وينبهني إلى تلك الأخطاء المطبعية التي اقترفتها في هذا النص أو ذاك، وتارة توقظني جدتي من النوم الذي لم أعد أعرفه لتحكي لي حكاية من حكاياتها الشيقة التي تنتهي دائماً بـ: ” مد إيدو بالطاءة طبست إيدو بالـخـ….، رفع راسو ليدعي ربّو شخ الديك في عينو…”. وأضحك من قلبي على تلك النهايات التي تعيدني طفلة بجديلتين وأسئلة لا تنتهي.  غير أن تلك العقاقير لم توقف النوبات الملحّة التي كانت تعتريني ولا أنهت أمر التورمات البادية على أطرافي وقمّة رأسي. ربما ألهتني عنها قليلاً، قليل بما يكفي للعبث بنهايات حكايات جدتي وتصحيح الأخطاء المطبعية أو ارتكاب أخطاء أكثر فداحة لأتمرّد على كل ما يقال إنّه صواب وحسب، فما الذي سيحدث إن سقطت الهمزة أو هربت الشّدّة أو حتى إن ضَمّت التاء المفتوحة ذراعيها احتفاء بالنص؟!  غيّر الطبيب النفسي العقاقير التي كنت أتعاطاها بوصفته -بعد أن نبش ذاكرتي جيداً وكنس طفولتي ومسح عنها غبار النسيان- ووصف لي عقاقير أقوى منها وهو يقول إنني أعاني من وسواس قهري وإنّ تلك الأدوية هي أحدث ما توصلت إليه العلوم الطبية لمواجهة الوساوس القهرية المزمنة التي لا تستطيع العقاقير الأولى إنهاءها وإنها ستساعدني أيضاً على النوم.  وأخيراً نمت… لكن هذه المرة بدأت الكوابيس تهاجمني بشكل لا يطاق وأصبح بيتي نزلاً لغرباء يخرجون ويدخلون ويأكلون ويتحدثون ويقرؤون ويعترضون على كمية السكر في الشاي وبرودة القهوة وكمية الملح في الطعام، وكان أحدهم، وهو الأعرج بينهم، يكرر كلماته  بصوته الأجش وبشكل مستفز كأن يقول مثلاً: الشاي بارد، الشاي بارد، بارد الشاي، وهكذا إلى أن يفقدني صوابي.عند هذا الحد أخبرت الطبيب بأنني لن أبتلع قرصاً آخر من هذا الدواء اللعين فنصحني بانقاصه تدريجياً لأن أعراض انسحابه ستكون أكثر إزعاجاً من أعراض تناوله.  وهكذا عدت إلى نقطة البداية، بأورام في أطرافي ورأسي وحكّة لا أستطيع إيقافها حتى أدمي نفسي، وفوقها طنين غريب في أذني لا يتوقف، طنين منخفض لكنه متواصل أرجعته إلى تلك الأقراص المهلوسة التي وصفها الطبيب لي. اعتزلت الناس، أقفلت باب بيتي، ولم أعد أخرج إلا للضرورة متحرية ما أمكنني أن أرتدي قفّازاً سميكاً يمنع أصابعي من خدش جلدي عندما تعتريني تلك النوبات. إلا أنّ الحالة تطورت وصارت النوبات أكثر ضراوة من ذي قبل وبخاصة في تلك الكتلة التي على رأسي، وهكذا استيقظت يوماً وقد قررت أن أنهي الأمر مهما كلفني ذلك. أحضرت مشرطاً كنت قد احتفظت به منذ أيام الدراسة الجامعية وبعض القطن واليود للتعقيم وبدأت أحاول فقأ ذلك الورم في رأسي، و على الرّغم من أنّ ذلك أوجعني كما لم أتوجع من قبل فإنّ شيئاً في داخلي كان يقول لي إنّ ما أفعله هو الصواب بعينه وإنّ الخلاص يأتي مؤلماً أحياناً، كاوياً، لكنّه نهائي وحاسم وكما تقول جدتي في مثلها الشائع: “وجع يوم ولا كل يوم”، وهكذا بدأت أعصره بأصابعي بعد أن فقأته، أخرجت ما فيه، كاد الوجع أن يفقدني عقلي إلا أنني صممت على تنظيف تلك البؤرة جيداً ما دام لا أحد سواي يراها.  استخدمت في آخر مرحلة إبرة – بعد أن عقّمتها بالنار- لأتأكد من أنني أفرغت كل ذلك القيح الذي يملأ الكتلة، فسكن رأسي وأصبح خفيفاً هادئاً وصمت ذلك الطنين ثم بدأت أنبش الكتل الأخرى في معصميّ وقدميّ، فتحتها كلها وأخرجت محتواها حتى آخر ذرة، خرج منها شيء كعقدة من خيوط ملتفة على بعضها، سحبته إلى الخارج حتى نهايته وبقي أن أنهي المرحلة الأصعب: الوصول إلى بذرة تلك الخيوط لاقتلاعها إذ يبدو أنها موصولة بطريقة أو بأخرى بالأعصاب لكنني استطعت اجتثاثها كلها على الرّغم من الألم الذي عانيت منه. وأخيراً عندما انتهيت توقف كل شيء دفعة واحدة وسكن الضجيج داخلي وداخلني هدوء رائع لم أشعر به من قبل وأصبحت حركتي خفيفة كما لو أنني أطير ولم يتبق إلّا آلام الجروح التي تسببت بها لنفسي جراء ذلك العمل الجراحي الذي قمت به دون تخدير ولا خبرة.  كان الأمر أشبه بقيادة درّاجة صدئة عليك أن تقوم بمجهود بالغ لتحركها وأنت تستمع إلى صريرها المزعج يحفر رأسك وهي تتحرك غصباً ثم –فجأة- تصبح دراجتك حديثة بمحرك ما أن تدوس بدالاتها حتى تحلّق بك بدلاً من أن تتحرك.  جفّفت الجروح جيداً ووضعت عليها لصّاقة طبية معقمة وغسلت وجهي ويديّ، واستلقيت تاركة الوقت لجسدي وأعصابي لترتاح قليلاً فسقطت في نوم عميق لم أستيقظ منه حتى اليوم التالي، نوم هانئ هادئ بلا كوابيس ولا أصوات… لا شيء أبداً. بدا لي عندما استيقظت أنني كنت قد متُّ ثم عدت إلى الحياة ثانية بطريقة أو بأخرى، عدت إليها خفيفة كالريشة، فبالرغم من أن تلك الكتل التي اجتثثتها لم تكن ذات وزن يذكرفقد كانت ثقيلة بشكل مرعب على روحي… ثقل لم يشعر به أحد سواي!  صبيحة اليوم التالي وبعد أن غسلت وجهي وجففته وفيما أنا أنظر في المرآة اكتشفت أنّ وجهي أضحى أكثر نضارة من أي يوم آخر وأن عينيّ تلتمعان ببريق لم يسبق لي أن شاهدته في عيون أي إنسان. ارتديت ثيابي في نيّة مني للتوجه إلى الطبيب لعلّه يصف لي ما يسرّع التئام الجروح ويمنعها من الالتهاب، وما إن فتحت الباب حتى رأيت الشارع بشكل لم أعهده من قبل، فقد كان البشر على مرمى نظري مربوطين بخيوط  مشدودة إلى رؤوسهم وأطرافهم لتحركهم، ولم أستطع -على الرّغم من محاولاتي- تمييز تلك الأورام الصغيرة التي تسببها عقد الخيوط تحت الجلد. رأيت كمّاً مرعباً منها يتدلى من الأعلى، وعندما رفعت رأسي لم أستطع رؤية ذلك الذي يمسك بها كلها، لكنني كنت أتحرك بحرية تحت وابل من الخيطان يغطي السماء تقريباً… وحدي كنت أتحرك دون خيوط. 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply