قراءة في كتاب: تحولات الشّعرية في الأندلس

قراءة في التّشكيل والدّلالة

رشا غانم

وبقلمها:

صدر كتاب “تحوّلات الشّعريّة في الأندلس: قراءة في التّشكيل والدّلالة” للناقدة الدكتورة رشا غانم عن دار النابغة في ستمائة واثنتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط في طبعته الأولى 2021م.
يركّز الكتاب الضوء على التحولات الشعرية في مدينة بلنسية -عاصمة شرقيّ الأندلس- حيث برهن الشّعراءعلى إبداعاتهم الشعرية من خلال قصائدهم السامقة التي خلدت ذكر مملكة بلنسية وما مرت به من أحداث فكانت نتاجاً شرعيّاً للبيئة بظروفها الجغرافية والتاريخية.
لقد أسهمت المنهجيات الحداثية في تدشين عصر جديد للدرس النقدي حين قدمت الكثير من التقنيات والآليات والمناهج التي دفعت بالقاريء والمتلقّي إلى التعمق في متاهات النصوص الأدبية لاستجلاء كوامنها.
من مسلّمات النقد الأساسية فهم المصطلحات والمفاهيم لأنها مفاتيح العلوم والمعارف، ولذلك نقف عند مصطلحَي (التّحوّلات) ثم (الشّعريّة) لنقترب منها فنجد أنّ معنى (تَحَوَّلَ) في اللغة:
ح وَّ ل: فعل خماسيّ لازم أو متعدٍّ بحرف. تَحَوَّلْتُ، أَتَحَوَّلُ، تَحَوَّلْ، مصدر تَحَوُّلٌ، تَحَوَّلَ جَارُنَا إِلَى بَيْتٍ آخَرَ: تَنَقَّلَ إِلَيْهِ. تَحَوَّلَتْ أَحْوَالُهُ مِنْ سَيِّءٍ إِلَى أَسْوَأَ: تَغَيَّرَتْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
والتّحوّل في الاصطلاح metamorphism.
تتكوّن كلمة التّحوّل من شقّين: الأول Meta وتعني (تغيّر) والثاني Morph وتعني (شكل)، لذلك كان معنى كلمة التّحوّل تغيّر الشكل أي بمعنى الصيرورة .أما مصطلح (الشّعريّة) فمصطلح ما بعد حداثي لكنْ له جذور ضاربة في التراث النقدي العربي وله مفاهيم كثيرة. نبدأ بالتعريف به في اللغة ثم في الاصطلاح.

(الشعريّة) في اللغة:

بالعودة إلى الأصل اللغوي لمصطلح الشعريّة في العربيّة نجده يرجع إلى الجذر الثلاثيّ “ش ع ر”، فقد جاء في قاموس مقاييس اللغة لصاحبه ابن فارس: “الشين والعين والراء أصلان معروفان يدل أحدهما على ثبات والآخر على عِلْمٍ وعَلَم. شعرت بالشيء: إذا علِمْتُه وفطِنْتُ له. وفي لسان العرب لابن منظور نجد (ش ع ر) بمعنى عَلِمَ وليت شعري: أي ليت عِلْمِي، والشعر منظوم القول غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية. وقال الأزهري : الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها والجمع أشعار وقائله شاعر لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، أي يعلم، وسُمّيَ شاعراً لفطنته.
أما في الاصطلاح “فإنّ مصطلح الشعريّة poétics على الرغم من أنّه من أكثر المصطلحات شيوعًا في مجال الدراسات الأدبيّة والنقديّة، (إلا أنّه) لم يستقر على تعريف واحد فهو يحمل تعريفات عدّة تختلف من ناقد لآخر” ويبقى البحث في الشعريّة محاولة فحسب للعثور على بنية مفهوميّة هاربة دائماً وأبداً، سيبقى دائماً مجالاً خصباً لتصوّرات ونظريّات مختلفة. ويمكن القول إنّ الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء وهي ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض. الشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر. إنّ الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعراً وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق.
وقد اختلفَ النقّاد في الاصطلاح على مفهوم الشعرية فتعددت بينهم المصطلحات إلى أن وصلت إلى ثلاثين مصطلحاً حاولوا أن يحدّدوا من خلالها مقوّمات الشعرية ومرتكزاتها الأساسية إلّا أنّ جميعَها اشترك في تحديد المفهوم على أنّه البحث عن قوانين الإبداع، ومن هذه المصطلحات: الشعرية، الإنشائيّة، الشاعريّة، علم الأدب، الفن الإبداعيّ، فن النّظم، فن الشعر، نظرية الشعر، البويطيقيا، البويتك، الأدبية، والابداعية، ولعلّ أكثرَ هذه المصطلحات شيوعاً كان: الشعرية والأدبية، وعلى الرّغم من اجتماع النقّاد على أنّها تتمثل في قوانين الإبداع الأدبيّ فإن التوسّع في تعريف المفهوم لم يَخْلُ من الاختلاف فيما بينهم.

دراسة تحوّلات الشعرية في شرقيّ الأندلس بوصفها نموذجاً دالّاً على التحولات الزمنية والتشكيلية والموسيقية:

إنّ أول كتاب وصلنا عن مفهوم شرقيّ الأندلس هو كتاب “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” لواحد من أوائل مؤرّخي تاريخ الأدب الأندلسي ابن بسّام الشنتريني (ت542هـ) الذي قسم كتابه جغرافيّاً على ثلاثة أجزاء تخص الأندلس وجزء رابع لمن وفدوا إليها، وقد جعل الجزء الثالث من نصيب شرقيّ الأندلس وفيه – كما يقول هو- سوف نتحدث عن بلنسية وما يُصاقبها. وجاء بعده ابن سعيد المغربي (ت:685هـ) بكتابه “المُغرب في حُلى المَغرب” ففصل القول فيما أجمله ابن بسّام وحدّد لنا ما يتصل بالمملكة البلنسية مدناً وقرى وحصوناً، فقد ذكر من مدنها بَطَرْنَه، بنَّه، شاطِبة ودَانية، ومن حصونها مَتِيطَة، يَانْبَه، مربيطر وجزيرة شُقْر وغير ذلك مما تضمنه الجزء الثاني من كتابه.
وقد مرّ شرقيّ الأندلس سياسياً بمراحل عدّة:
المرحلة الأولى، حين كان جزءً من الإمارة الأموية أو الخلافة من بعدها أو الحجابة من بعد الخلافة، المرحلة الثانية في عصر الطوائف الذي كان من نصيب الفتيان العامريين، ثم المرحلة الثالثة مع آخر عصر الطوائف عندما سقطت بَلَنْسِية في يد السيد القنبيطور عام 1094م واستمر فيها ثمانية أعوام، ومنذ ذلك الحين توالت النجدات من أمير المسلمين “يوسف بن تاشفين” في المغرب فبعث جيشاً من المرابطين لنجدة بلنسية لتعود إلى حوزة الإسلام، وفي المرحلة الأخيرة نجح المرابطون في استردادها عام 1102م وظلّوا فيها، ثم الموحّدون من بعدهم، إلى أن سقطت في يد الإسبان (636 هـ- 1238 م).
وفي ضوء هذا قدمت لنا هذه المنطقة كوكبة من الشعراء الذين وصلتنا دواوينهم وهم ابن اللبانة ت: 507هـ، ابن الزّقّاق ت:521هـ، ابن خفاجة ت: 533هـ، الرصافي ت:572هـ، ابن مغاور الشاطبي ت: 587هـ، ابن حريق ت:622هـ، ابن مرج الكُحل ت:634هـ، وابن الأبَّار ت: 658هـ، والمُطرِّف بن عَمِيرة ت: 659هـ، إلى جانب شعراء آخرين تناثر شعرهم فى مختلف المصادر الأندلسية مغربية ومشرقية منهم أبو جعفر بن البَنِّي، أبو عبد الله بن يربوع الشاطبي، أبو طالب المتنبي، ابن سعد الخير، أبو الوليد بن الجنَّان، أبو الحكم البلنسي. واقتضى هذا البحث دراسته في بابين سبقهما تمهيد.
تضمّنت المقدمة أسباب اختيار الموضوع وتحديد مفهومه ومنهجه وتلا ذلك تمهيد قدّمت فيه تحديداً لمساحة الدراسة جغرافيّاً وزمنيّاً ووضحّت فيه مكانة بلنسية وطبيعتها الساحرة لما لذلك من تأثير في توجيه الشعر وإبداع الشعراء، وجاء الكتاب في محورين: المحور الأول الدراسة الموضوعية “تحوّلات الدلالة” ثم المحور الثاني الدراسة الفنية “تحوّلات التشكيل” ثم نتائج البحث وقائمة بالمصادر والمراجع وفهرس للكتاب.

يختص المحور الأول بدراسة المضامين الشعرية (أغراض الشعر) وينقسم إلى ستة فصول.
الفصل الأول: المدح
الفصل الثاني: الوصف (شعر الطبيعة)
الفصل الثالث: الغزل
الفصل الرابع: الرثاء
الفصل الخامس: الاستنجاد والاستغاثة
الفصل السادس: أغراض أخرى

ويبحث المحور الثاني في الشكل وينقسم إلى أربعة فصول هي:
الفصل الأول: بناء القصيدة
الفصل الثاني: اللغة والأسلوب
الفصل الثالث: الصورة الشعرية
الفصل الرابع: الإيقاع

وقد وقفت على نماذج شعرية كثيرة عند شعراء شرقيّ الأندلس، سواء الموجودة في دواوينهم أو المبثوثة في مصادر الأدب الأندلسي المختلفة، وكشفت من خلالها عن مقدرتهم اللغوية ووضحّت أداءهم الفني سواء في فنون الشعر التقليدية والموسعة أو الفنون المستحدثة كالموشّحات والأزجال عبر تحليل النصوص التي جلت الغبار عن أبهى الصور الفنية إذ تجاوزت صورهم الصور المعروفة في إبداع حقيقي، وترتّبت على هذا الإبداع خصائص مميزة كشفت عن جرأة هؤلاء الشعراء في الاشتقاق والتجديد والبعد عن النمطية والمرونة الشديدة في صياغة الجملة تقديماً وتأخيراً ومخالفة الشائع في الاستخدام اللغوي لدى الآخرين سواء فيما يتعلق بالقواعد النحوية أو الصرفية أو المعجمية، وبرهنت على خيالهم الخصب الذي خضبته الطبيعة الجميلة بشاعريتها التي حباها الله الأندلس ومُدنها الخالدة الذكر.

نماذج من الكتاب من فنون الشعر المستحدثة:

“الموشّحات والأزجال”
أكثر النقاد والدارسين في القديم والحديث يرَون أن الأندلس موطن الموشّحات وأن أصولها تَمّت فيها عند عبادة بن ماء السماء (419 هـ /1028م) وأن بلوغ غايتها في النضج والازدهار حصل بظهور نوابغها في القرن السادس وما بعده من أمثال الأعمى التّطيلي (520 هـ /1251م) وابن بقي (545 هـ/ 1145) وابن زُهر الأندلسي (595 هـ/ 1198م) وابن سهل الإسرائيلي (0649 هـ/ 1251م) وشّاح إشبيلية.1(1) حسني حداد، “في الموسيقا السورية”، منشورات الجيل الجديد ـ 1952 ـ ط 1 ،دمشق ص 32، 38، 82 وانظر محمد زكريا عناني “الموشحات الأندلسية” رقم 31 من سلسلة عالم المعرفة1400 هـ / 1980م ود.سليمان العطار، “نشأة الموشحات الأندلسية” القاهرة، دار العين للنشر، ط1، 2010.
أما المستشرق خوليان ريبيرا والمستشرق جب فيرَيان أنّ الموشّحات متأثرة بالأغاني الشعبية البروفنسية ومبنية عليها ويستدلّان على ذلك بوجود الكثير من الخرجات بلغة الرومانث لغة الإسبان الأصلية مع أن أكثر الخرجات جاء لدى أكثر الوشّاحين بإحدى اللهجات العامية العربية من فتات الأزجال.2(2) إحسان عباس، “تاريخ الأدب الأندلسي: عصر الطوائف والمرابطين” عمان، دار الشرق، ط1،1997، ص38. ويقصد هنا أن الموشحات نشأت تقليداً لبقايا أغاني الرومانث الإسبانية حيث اتخذ الباحثون الإسبان مثل ريبيرا وآنخل بالنثيا موضوع اللهجات في الأندلس حجّة لتغريب أصل الموشح بخاصة بعد اكتشاف الخرجات العجمية في الموشّحات ولا ندري كيف أغفل هؤلاء الباحثون الخرجات المكتوبة بعامية أهل الأندلس.
يرى ريبيرا أن “أهل الأندلس الإسلامي كانوا يستعملون العربية الفصيحة كلغة رسمية يتعلمها الناس في المدارس ويكتبون بها الوثائق وما إليها، أما في شؤونهم اليومية وأحاديثهم فيما بينهم فكانوا يستعملون لهجة من اللاتينية الدارجة أو العجمية وكان هذا الازدواج في اللغة الأصل في نشوء طراز شعري مختلط تمتزج فيه مؤثرات غربية وشرقية، وقد أخذ هذا الطراز الجديد من الأدب الشعبي صورتين إحداهما الزجل والثانية الموشّحة.”3 آنخل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص143.
ويتفق الزجل من حيث الشكل والتقسيمات الفنية مع الموشّحات في المطالع والأغصان والأسماط والأقفال والأدوار والخرجات.
إنّ قيمة الزجل الذي نشأ أصلاً في بيئة الأندلس ثم انطلق إلى البيئات العربية الأخرى ليست في تنويع أشكاله وأوزانه ولا فيما أخذوه أو استعاروه من معاني شعراء العربية وأساليبهم البيانية والبديعية التقليدية وإنّما تكمن قيمته فيما استمده من واقع حياة العامة ممثلاً في الجديد من معانيهم وأمثالهم وفي المبتكر من تشبيهاتهم والمتداول من ألفاظهم وصيغهم العامية و ما تخفيه بيئتهم. ولعل هذا ما أكسب الزجل صفة الشعبية.4 د.جمال اسريفي، الحوار المتمدن-العدد: 3043 – 2010 / 6 / 24.
أبو بكر بن قزمان الذي عاش في عصر المرابطين بالأندلس والمتوفى سنة 554 هـ أول من أبدع في فن الزجل لكنّ الأزجال قيلت في الأندلس قبل زمانه وهذا ما أكّده في مقدمة ديوانه بقوله: “ولقد كنت أرى الناس يلهجون بالمتقدمين ويعظمون أولئك المقدمين و يجعلونهم في السماك الأعزل ويرون لهم المرتبة العليا والمقدار الأجزل وهم لا يعرفون الطريق ويذرون القِبلة ويمشون في التغريب والتشريق يأتون بمعانٍ باردة وأغراض شاردة وألفاظ شياطينها غير ماردة وبالإعراب وهو أقبح ما يكون في الزجل وأثقل من إقبال الأجل.”5() ابن قزمان، ديوانه إصابة الأغراض في ذكر الأعراض تحقيق فيدير يكو كورينتي، تقديم د.محمود مكي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 ،1995، ص17.
والزجل في اللغة “اللعب والجلبة ورفع الصوت، وخص به التطريب…” أما في الاصطلاح فهو ضرب من ضروب النظم يختلف عن القصيدة من حيث الإعراب والتقفية وقد كتب بلغة ليست عامية بحتة بل هي لغة مهذبة وإن كانت غير معربة”6المرجع السابق،ص23،.
ومن أزجال ابن قزمان:7 ابن قزمان، ديوانه، ص26.
يا مدلَّل علي، يا مليح التجنِّي
أش يطيب لي حديثك، وحديثك قتلني
عمداً! يا قلبي اثْبت،لا تزول قط مني
أش يكابد مسيكن! يا اللَّه عينُه وقوَّيِهْ.

ويذكر لنا آنخل بالنثيا بعض جهود ريبيرا في الكشف عن الزجل والموشّح فيقول: “ومن المقطوعات التي استمد منها ربييرا دراسة الموسيقا في العصور الوسطى أغنية العربيات الثلاث في ديوان بلاثيو:8() آنخل بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي، ص629.
في جيان
عائشة وفاطمة ومريم
ثلاث عربيات بائعات الجمال
ذهبن يجمعن الزيتون
فوجدته قد جمع في جيان
عائشة وفاطمة ومريم
ثلاث عربيات فياضات بالحيوية
ذهبن يجمعن التفاح
فوجدته قد جمع في جيان
عائشة وفاطمة ومريم
ويعد تجسيداً فنياً لتأثر الشاعر بالنبض الأدبي عند العرب والمسلمين فأغانيه في هذا الديوان تتسم بعذوبة الحب ورقة الغزل واستلذاذ الشجن، فقد عبر في هذه الأشعار عن حبه لمحبوبته وعن أمله وبأسه وصبّ فيها حزنه العميق لموتها. يقول في مقطوعة “لا سكينة لي في الليل”:
تملك عليّ الحبيبة لبّي
لكني استمد من ذلك راحتي
فمن معين واحد نابض متأنق
ينبع غذائي من حلو ومر
إن بدا واحدة فيها شقوتي وراحتي
وهكذا أجاهد في الحب جهادا غير محدود
فأحس كل يوم ألف موت وألف حياة
ألا ما أبعد الطريق إلى سكينتي وسلامي9() د.صابرعبد الدايم: الأدب المقارن ،نفس الصفحة.

يقول آنخل بالنثيا في حديثه عن أصول الموشّحات: “ولم نوفَّق إلى الآن إلى تعرّف المصدر الذي استوحاه أول واضع للموشّحات، حتى إنّ البعض ردّوه إلى أصل جليقي، ويذهب نفرٌ آخر إلى أبعد (من هذا) فيجعل مصدره رومانياً”.10 آنخل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي ،ص154.
والزجل يتكون من أدوار، كل دور يتكون من مطلع أو مركز ومن ثلاثة أبيات أو أكثر متفقة القافية فيما بينها تسمى الأغصان وبيت آخر أو أكثر هو القفل وقافيته ووزنه من قافية المطلع ووزنه، وظل هذا الطراز الشعري باقياً في صناعة الألحان الموسيقية خلال العصور الوسطى. وقد كشف ربييرا في أثناء بحثه عن ديوان “ابن قزمان” أصول الشعر البروفنسالي الذي ظهر في جنوب فرنسا حيث تأثر الشعر الأوربي بالشعر الأندلسي وبخاصة فن الموشحات والزجل الذي ابتكره شاعر ضرير يدعى مقدم بن معافي القبري (225-299هـ).11 المرجع السابق، د.الطاهر مكي: دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة، القاهرة، دار المعارف ط3، 1987، ص191. وترجم آنخل بالنثيا (1889-1949م) مقطوعات زجلية منها للشاعر البروفنسالي”كونت بواتييه” الذي يعد من أشهر شعراء التروبادور، يقول12 آنخل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسيّ، ص143. :
إنّ لي شوقاً للغناء
ولهذا سأنظم أنشودة أتغنّى فيها بآلامي
ولكنّي لن أكون عاشقاً
وقد استقى الشعراء التروبادور البرفنساليون من الموشحات وانتشر هذا القالب الفني في الأوساط الأدبية في أوروبا فقد صاغوا كلماتهم على موسيقا الزجل الأندلسي وما تزال آثار الموشحات والزجل باقية في ألحان أوروبا وموسيقاها منذ العصور الوسطى إلى اليوم بخاصّة في الأغاني الشعبية الفرنسية المعروفة باسم “الروندو”، وهناك مقطوعات شعرية فرنسية راقصة سارت على موسيقا الشعر الأندلسي مثل مقطوعات الشاعر جيوم التاسع الذي شارك في الحروب الصليبية سنة 1094م ميلادية وعاد سنة 1126 ونظم قصائد على غرار الموشحات والزجل الأندلسي مع تغيير في بعض الأشياء كالغصن والقفل والمركز وكثير من هذه المصطلحات الفنية.
أما الموشّحة “فنظم تكون فيه القوافي اثنتين اثنتين على هيئة الوشاح فالموشّحة هي الطريقة المهذبة للزجل ولكن بإسلوب فصيح”13() ابن منظور، لسان العرب، بيروت ط1، 1955، مادة زجل. . اختلف الباحثون في سبب تسمية هذا اللون بالموشّح، فالوشاح في اللغة حلي النساء، كرسان من لؤلؤ منظومات مخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر، وهو أديم عريض يرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحها.(لسان العرب) والموشّحة في الاصطلاح بمعنى التوشيح كما اتفق أغلب البلاغيين القدماء وهو أن يكون أول الكلام دالّاً على آخره وصدره يشهد عجزه.14 أبو هلال العسكري، الصناعتين في الكتابة والشعر “مختارات” القاهرة، ط.د.ت،ص، 190 تسمية الموشّح تشير إلى طريقة تأليف القوافي وهو يشبه الزجل فيما عدا ذلك، أي أن الموشّح يتألف من فقرات تسمى الأبيات، كل فقرة أو بيت منها يتكون من عدد معين من أشطار الأبيات في قافية واحدة، وتعقب كل فقرة خرجة في بحر أشطار الغصن ولكن في قافية أخرى. ويلتزم الوشاح قافية هذه الخرجة في خرجات موشّحة كلّها، أما الأغصان فقد ركزت كل منها على قافية ولكن من بحر واحد.
هذان النوعان من النظم اللذان ابتكرهما أهل الأندلس هما اللذان أثّرا في نشأة الشعر الأوروبي وأول من قال بهذه النظرية “خوليان ريبيرا” الذي عكف على دراسة موسيقا الأغاني الإسبانية ودواوين الشعراء “التروبادور” و”التروفير” وهم الشعراء الجوّالة في العصر الوسيط في أوروبا فانتهى من دراساته المستفيضة هذه إلى أنّ الموشّح والزجل هما “المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سر تكوين القوالب التي صبّت فيها الطرز الشعرية التي ظهرت في العالم المتحضر إبّان العصر الوسيط” وأثبت انتقال بحور الشعر الأندلسي- فضلاً- عن الموسيقا العربية إلى أوروبا عبر الطريق الذي انتقل به الكثير من علوم القدماء وفنونهم -لا يُدرَى كيف- من بلاد الإغريق إلى روما ومن روما إلى بيزنطة ومن هذه إلى فارس وبغداد والأندلس ومن ثم إلى بقية أوروبا.15() د.محمد عباسة، الموشحات والأزجال وأثرها في شعراء التربادور،الجزائر، دار أم الكتاب للنشر والتوزيع، ط1 ،2012 ،ص،65 .

تتكون الموشّحة من:

1- المطلع ويكون عادة من شطرين أو أربعة اشطر.
2- الدور وهو مجموعة الأشطر التي تلي المطلع ولو كان الموشّح أقرع يقع في أول الموشح.


3-السمط وهو كل شطر من أشطر الدور.
4- القفل وهو ما يلي الدور مباشرة


5- البيت ويتكون من الدور مضافاً إلى القفل الذي يليه.


6- الغصن وهو كل شطر من أشطر المطلع أو القفل أو الخرجة.


7- الخرجة هي آخر قفل في الموشّحة وتكون الخرجة أعجمية. كان أول من انتبه إلى وجود الخرجة16 د.محمد عباسة، الموشحات والأزجال وأثرها في شعراء التربادور،الجزائر، دار أم الكتاب للنشر والتوزيع، ط1 ،2012 ،ص،65 . في اللغة الرومانثية وتناولها بشيء من التفصيل المستعرب الإسباني مينينديس بيلايو في أواخر القرن الماضي.
من الخرجة الأعجمية يقول الأعمى التطيلي:
دمع سفوح  وضلوع حــرار
ماء ونار
ما اجتمعا   إلا لأمــــر كـبار

بئس لعمري  ما أراد  العذول
عمر قصير   وعنـاء   طويل
يا زفـرات نطقت  من  عليـل
ويا دموعاً قد أصابت  مسيـل
امتنع النــوم وشـــــط  المزار
ولا قرار
طرت ولكن  لم أصادف مطـار

يا كعبة حجّت إليــــها القلـــوب
بين هوى داع وشـــوق  مجيب
دعـــوة أوّاهٍ إليـــــها  منيــــــب
لبّيك لا آلو لقـــــول  الرقيـــــب
جُد لي بحج عنــدها  واعتمـــار
ولا اعتذار
قلبي هدي ودموعي جمـــــــار

أهلاً وإن عرض بي المنـــون
بمائس الأعطاف ساجي الجفون
يا قسوة يحسبها الصّـــبّ ليــــن
علمتني  كيف تساء الظنــــــون
مذ بان عن تلك الليالي القــصار
دمعي غزار
كأنمــــا بين جفــــــوني غـرار

حكمــــــت مولى جار في حكمه
أهذي به مفصـــــحاً باسمــــــــه
وأعجب لإنصـــــافي على ظلمه
وأسأله عن وصلي وعن صرمه
ألوى بحظـــي عن هوى واختيار
طوع النفار

لا بد لي منـــه على كــــــل حال
مولى تجنّى وجفا واستــــــــطال
غادرني رهن أســـــى واعتـلال
ثم شــــدا بين الهـــــوى والدلال
مر الحبيب انفـــــــرم
دمــــوار كان دشتار
بنفــــس اميت  كساد مــــواتار

وأظهر المستشرق “بيدال” أن فكرة الحب النبيل التي تسود الغزل في الشعر البروفنسالي نجد أصلها في الشعر الأندلسي إذ يرى أن هذه الفكرة قد عرضها ابن حزم في “طوق الحمامة” وأنها كانت فكرة سائدة عند أهل الظاهر في نظرتهم إلى الحب.17 علي بن بشْشري الاغرناطي: عدة الجليس،عني بتصحيحه ،ألن جُونْز،مطبعة مركز الحسَّابات لجامعة أوكسفورد، ،ط1، 1992،ص151 فالغزل الأندلسي “يصور من أحوال النفوس ما لا يصوره غيره لأنه يكشف عن دخيلة المحب وسريرته، كما أنه لا يمثل عاطفة قائله وحده بل يمثل العاطفة الإنسانية الخالدة فيهز مشاعر القراء من كل جنس وقبيل، وهو – أيضاً- من أقوى فنون الشعر العربي انطباعاً بالبيئة وتمثيلاً لأحوال المرأة كجمالها وتجملها وأخلاقها مما لا تصوره بقية فنون الشعر إلّا ناقصاً وهو إلى ذلك كله أبرز فنون الشعر تأثيراً فيما بعده من العصور معنى وخيالاً وأسلوباً وأبعدها عن النحل والوضع لأنه لا يؤيد عصبية قبلية ولا يعضض نزعة حزبية”18 ( ) د.صابرعبد الدايم، الأدب المقارن بين التراث والمعاصرة، القاهرة، دار الكتاب الحديث، ط1، 2010، ص92.. لقد كانت هذه النظرة متأثرة بنظرة الإسلام للحب الذي يحرص أن يكون طاهراً عفيفاً “فمن أحب فعفّ فمات مات شهيدا”. واتفق بوكاشيو مع بترارك في هذه النظرة المثالية في الحب عند العرب وفي وضع المرأة العربية في ظل الحضارة الإسلامية.19(18) د. أحمد الحوفي، الغزل في الشعر الجاهلي، بيروت، دار القلم، ط1، 1961 ص3- 4.

ختاماً، فقد عرضنا لشذرات من الكتّاب لنبيّن الثراء الإبداعي الذي تميز به هؤلاء الشعراء، وستظل الأندلس مسرحية مأساوية تثير قرائح الشعراء والكتّاب من عرب وإسبان ومن أمم أخرى يلتقطون منها الأحداث ولحظات الانتصار ولحظات الانكسار وينسجون من وحيها شعراً ورواية ومسرحاً وتماثيل ولوحات وأنواعاً من الفنون شتّى محاولين أن يعّبروا من خلالها عمّا تمثّل الأندلس في نفوسهم فهي للعرب الفردوس المفقود ولبعض الإسبان المنصفين حلقة حضارية لا يمكن فهم الحضارة الأوربية-على تشعّبها- إلّا بوضع هذه الحلقة في مكانها الصحيح.

الهوامش:

(1) حسني حداد، “في الموسيقا السورية”، منشورات الجيل الجديد ـ 1952 ـ ط 1 ،دمشق ص 32، 38، 82 وانظر محمد زكريا عناني “الموشحات الأندلسية” رقم 31 من سلسلة عالم المعرفة1400 هـ / 1980م ود.سليمان العطار، “نشأة الموشحات الأندلسية” القاهرة، دار العين للنشر، ط1، 2010.
(2) إحسان عباس، “تاريخ الأدب الأندلسي: عصر الطوائف والمرابطين” عمان، دار الشرق، ط1،1997، ص38.
(3) آنخل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص143.
(4) د.جمال اسريفي، الحوار المتمدن-العدد: 3043 – 2010 / 6 / 24.
(5) ابن قزمان، ديوانه إصابة الأغراض في ذكر الأعراض تحقيق فيدير يكو كورينتي، تقديم د.محمود مكي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 ،1995، ص17.
(6) المرجع السابق،ص23،.
(7) ابن قزمان، ديوانه، ص26.
(8) آنخل بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي، ص629.
(9) د.صابرعبد الدايم: الأدب المقارن ،نفس الصفحة.
(10) آنخل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي ،ص154.
(11) المرجع السابق، د.الطاهر مكي: دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة، القاهرة، دار المعارف ط3، 1987، ص191.
(12) آنخل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسيّ، ص143.
(13) ابن منظور، لسان العرب، بيروت ط1، 1955، مادة زجل.
(14) أبو هلال العسكري، الصناعتين في الكتابة والشعر “مختارات” القاهرة، ط.د.ت،ص، 190
(15) د.محمد عباسة، الموشحات والأزجال وأثرها في شعراء التربادور،الجزائر، دار أم الكتاب للنشر والتوزيع، ط1 ،2012 ،ص،65 .
(16) علي بن بشْشري الاغرناطي: عدة الجليس،عني بتصحيحه ،ألن جُونْز،مطبعة مركز الحسَّابات لجامعة أوكسفورد، ،ط1، 1992،ص151
( 17 ) د.صابرعبد الدايم، الأدب المقارن بين التراث والمعاصرة، القاهرة، دار الكتاب الحديث، ط1، 2010، ص92.
(18) د. أحمد الحوفي، الغزل في الشعر الجاهلي، بيروت، دار القلم، ط1، 1961 ص3- 4.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply