باب جْدِيد

شارع النجفي، الموصل-العراق

جابر خليفة جابر

 لم يكن شارع النجفي في الموصل قد تعرّض إلى الحريق بعدُ حينَ التقيتُ ضحىً بعبد الحقّ فاضل قرب جامع خنجر خشب. كنّا متّجهَين إلى سوق الكتب ومن مكتبة صغيرة كان صوت سيد مكاوي يردد مع أوتار العود:”الأرض بتتكلم عربي، الأرض الأرض” فتبسّم الأديب والدبلوماسي العراقي وقال: لا شكَّ في أنّ أحدهما، سيد مكاوي أو كاتب القصيدة فؤاد حداد، قد تأثر بكتابي.

أدهشني ما قال وسألته: أستاذنا الكبير، أيَّ كتاب تقصد روايتك (مجنونان) أم قصصك أم مسرحياتك؟

التفت إليَّ مستغرباً وقال: كتابي (تأريخهم من لغتهم).

– وكيف استنتجت هذا؟ هل لكلمات الأنشودة علاقة بكتابك الرائد؟

– لأنّني بيّنت فيه سموَّ العربية على ما عداها وعرضت أدلّة لغوية على أنَّ العربية أمُّ اللغات!

– أمُّ اللغات!

– نعم، ما الغرابة؟ لقد اتّبعت منهجاً علمياً لإثبات ذلك وقمت بما يشبه التنقيب عن الآثار، نقّبت في كلمات العربية ومعانيها وتتبّعتها في اللغات الأخرى قبل أن أصرّح بنظريتي هذه.

  كنّا قد خرجنا من شارع النجفي. أين نحن الآن؟ لا أدري! كنا نتمشى في إحدى (عوجات) الموصل القديمة، ربما في باب جديد. حقّاً لا أدري فقد كنت منشدّاً لحديث الأستاذ عبد الحقّ، لكنّا قبل قليل عبرنا قنطرة جامع القطانين وفوق القنطرة سألته: كيف توصّلت إلى نظريتك يا أستاذ؟

كان على عجل فتحدّث لي عن اسم اليدين عند العرب -اليمين والشمال- مبتدئاً من زجر العرب للطير، التفاؤل عند طيرانها جنوباً تجاه اليمن والتشاؤم إذا طارت شمالاً تجاه الشآم، ثم ربط ذلك باسم اليد اليمنى في الانكليزية (رايت Right  =الصحيحة) واسم اليسرى(لفت Left  =المتروكة) وهكذا في لغات عديدة أخرى منها الروسية والفرنسية ثم ودّعني منصرفاً وأنا استحضر حفرياته اللغوية عن طائر الفينيق الذي يعيش خمسمائة عام وفقاً للأسطورة الغربية المأخوذة عن أسطورة العنقاء العربية التي تنهض من الرماد كلّما تحترق لتعيش سبعين عاماً لسبع مرات، فيكون الناتج أربعمائة وتسعين عاماً ولا أقرب غير الرقم خمسمائة فاعتمدوه دون أن يلاحظوا أنّ الرقم سبعة أو الرقم سبعين في العربية يفيدان الكثرة وليس التحديد.

  معلومات قيّمة ضممتها إلى ما قالته سيدة الاستشراق الألمانية آنا ماري شيمل: “إنَّ اللغة العربية موسيقية للغاية، ولا شكَّ عندي في أنّها لغة أهل الجنّة” وقلت لنفسي: لماذا إذن هذا التركيز الاستشراقي على إقصاء العربية أو محوها؟

– لا شكّ في أنَّها سور الذات العظيم الذي يقف بوجه توسعاتهم -تخيّلت عبد الحقّ فاضل يجيبني- لذا عمدوا في أفريقيا إلى التخلص من ارتباط السواحيلية بالعربية عبر الحروف واستخدموا نفوذهم لاستبدالها بحروف انكليزية. وفي تركيا حصل الأمر ذاته بل في الصين الشيوعية أيضاً والغريب أنّ الراديكالية الماوية المتشددة تجاه الغرب الرأسمالي و بخاصة أمريكا وبريطانيا فضّلت الحروف الانكليزية وفرضت بالقوة استخدامها بدلاً عن الحروف العربية في لغة الإيغور المسلمين في تركستان، وعندنا في العراق ومصر والشام والمغرب العربي شجعوا اللهجات المحكيّة لتحل بدلاً عن العربية.

  تعبت قليلاً فجلست في مقهى قريب، كنت أشرب طاسة عرق السوس وأنظر تجاه الجنوب، تجاه مدن العربية: البصرة، الكوفة  ووريثتها النجف الأشرف. أعدت الطاسة للصبي واستنشقت أريج الموصل الحدباء وقلت له:

– دحّق دقلّك، ما اسم هذا الحي؟

– باب جديد.

– ما في باب جديد للعربية؟ ما في العراق الجديد باب جديد لإحياء لغتنا العربية وتيسير دراستها وتعلمها وجعل أطفالنا يحبونها؟ ورفعت صوتي بحدة : يا مجمع اللغة أين أنت؟ من أغلق أبوابك؟ ولماذا؟ أما زلت قديماً؟ متى تتجدد؟

فتح الصبي عينيه دهشة وقال: ما فهمت عليك أستاذ! تأمرني بشي؟

– شكراً شكراً، كنت أكلم بغداد! عندك كاسيت سيد مكاوي (الأرض بتتكلم عربي)؟

– اعذرني أستاذ، ما عندنا.

– تعرف عبد الحقّ فاضل؟

– لا والله أستاذ، ما يقعد هنا!

 نهضت وأنا أردّد هازئاً بيت الشاعر:

لغةٌ يهون على بنيها أن يروا      يوم القيامة قبل يوم مماتها

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply