
الثقافة العامة لأيّ مجتمع من المجتمعات -كما هو واضح من المصطلح- هي خلاصة الاندماج وثمرة التزواج بين ثقافات الأفراد والجماعات التي تعيش داخل ذلك المجتمع علاوةً على ما يلحق بها من عوامل التأثير التي تتعرض لها المجتمعات، وعوامل التأثير هذه بعضها داخلي وبعضها خارجي وبعضها خاص وبعضها عام، ومن العوامل العامة التي أثرت في المجتمعات تأثيراً كبيراً الانفتاح الثقافي الذي صنعته وسائل التكنولوجيا الحديثة ومنها وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت التبادل المعرفي والانخراط الثقافي بين أفراد العالم وكأنّهم أفراد جماعة صغيرة تعيش داخل مجتمع واحد.
وقد أدلى ذلك الانفتاح الثقافي بدلوه في الثقافات المختلفة داخل المجتمع الواحد فأصبح سمةً واضحة من سمات الثقافة العامة داخل كل مجتمع مع اختلاف المجتمعات في درجة تقبُّلِه وطريقة التعامل معه؛ فالدول المتقدمة تفيد من إيجابياته وتقضي على سلبياته أمّا الدول النامية فتتقبَّل كل شيء ثم يصعب عليها في النهاية مقاومة ما يَنتج من آثار سيئة لا سيّما في ظِل عشوائية الفكر عند بعض الأفراد والجماعات وانسياقهم وراء كل جديد دون تمييز بين ما هو نافع وما هو ضار.
ومعروف أنّ الفئات التي تمتاز بسرعة التأثر بالتّحوُّلات الاجتماعية هي ذاتها الفئات التي تسعى إلى نشر مكتسباتها من تلك التّحوُّلات بهدف إيجاد دورٍ فعَّال لها داخل مجتمعاتها، وذلك الدور لن يخرج بحالٍ من الأحوال عن الأفكار الحقيقية لتلك الفئات مضافاً إليها عوامل الانتشار التي اكتسبتها نتيجة تأثُّرها بالانفتاح الثقافي الذي تُعايشه، ذلك الانفتاح الذي يجعلها تسعى جاهدة إلى فرض آرائها في الأوساط التي كانت بمنأى عنها مِن قبل بحُكم اتِّساع الفجوة واختلاف الأفكار وفي مقدمة تلك الأوساط والبيئات البيئة العلمية، تلك البيئة التي أصبحت تتعرض لآثار سيئة أفرزتها ثقافة عامة متردِّية نتيجة سوء تلقِّي الانفتاح الثقافي وما ترتَّب عليه من تداعيات.
فالبيئة العلمية قبل ذلك الانفتاح كانت قاصرة على أهل العلم من علماء وتلاميذ يجري بينهم تداول الآراء وعرض النظريات والمقترحات بطريقة علمية صحيحة، أمّا بعد ذلك الانفتاح الثقافي فقد نشأت أفكار غريبة لدى بعض العوامِّ الذين يعتقدون خطأ أنَّ أيَّ علمٍ من العلوم مَشاع للجميع -لأهله ولغير أهله- فأصبحوا يشاركونهم في مؤتمراتهم وأمسياتهم ويُدْلون بِدلْوِ أفكارهم العشوائية ومقترحاتهم الهدَّامة التي من شأنها القضاء على خصائص تلك البيئة العلمية وتحويلها إلى تجمُّعٍ فوضويٍّ لا كلمة فيه إلّا لأولئك الهواة.
إنّ هذا يكشف الخلل الكبير في الثقافة العامة وبالتالي في ثقافة الجماعات التي تشكَّلت منها تلك الثقافة العامة ويكشف أيضاً الضَّعف الفكري لدى المنظومة الإدارية القائمة على متابعة العملية الثقافية؛ إذْ إنَّ الدور الوظيفي لهذه المنظومة داخل المجتمع يحتِّم عليها مراقبة ظواهر السلوك الفردي والجماعي ومتابعة أسبابها ودراسة نتائجها المحتمَلة ووضع البرامج الثقافية المضادة التي من شأنها القضاء على أيَّة ظاهرة تعارض قيم المجتمع ومبادئه وأخلاقه.
ومن يتدبَّر آيات القرآن الكريم يجد أنّها وضعت أسساً وقواعدَ للثقافة العامة راعت اختلاف الأمم وطبائع الناس واختلاف الزمان والمكان بما يُستنبَط منه المنهج الصحيح ويُتَّخَذ منه المبدأ العام للسلوك الفردي والجماعي داخل المجتمع، وقد نهى الله تعالى عن الخوض في الأمور العامة بغير علم وأمَرَ بسؤال المختصِّين فيها فقال جلَّ شأنه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وهذا معناه أنّ هناك من يعلم ومن لا يعلم وأنّه يجب على من لا يعلم أن يسأل من يعلم ليتعلم منه، وقال تعالى موضحاً حال من يحبّون أن يتكلموا بغير علم: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فبيَّنت الآية الكريمة أنّهم -بما يفعلونه- يشيعون الفوضى بين الناس، ثم ذكرت الآية سبيل شفائهم من ذلك الدَّاء فأمرتْهم بردِّ الأمر إلى أهله الذين يستشِفُّون خباياه ويقضون فيه بما آتاهم الله من العلم، وفي هذا دليل على أنَّ البيئة العلمية لها ضوابط يجب توافرها حتى يتمكّن العالِم من أداء دوره بطريقة جيدة.
وحين ننظر إلى الدول المتقدمة نجد أنّها تعمل على الفصل بين البيئات المختلفة فكل بيئة لها خصائصها التي تتيح لأبنائها ممارسة دورهم المجتمعي بشكل صحيٍّ آمِنٍ من مثالب التَّغيُّرات، فضلاً عن قدرة المنظومات الثقافية داخل تلك الدول على الحفاظ على هويَّتها ومتابعة أنماط الثقافة المختلفة لديها بهدف التحكم في النمط العام وتوجيهه إلى ما يوافق الشخصية الاعتبارية العامة للمجتمع ولذلك نجد أنَّ كل بيئة من تلك البيئات تؤدي دورها بنجاح وإتقان في ظل توفير المناخ المناسب لها.
نستنتج من ذلك أن خطورة العملية الثقافية في أي مجتمع تكاد تنحصر في فرع الثقافة العامة ووفقاً لذلك تتحدد قابليَّة المجتمعات أو عدم قابليَّتِها على الغزو الثقافي بحسب طريقة تعامُل المنظومة الثقافية وقدرتها وسيطرتها أو ضعفها وانقيادها وراء المؤثرات الداخلية والخارجية التي يتعرض لها المجتمع، فالثقافة العامة في أيِّ مجتمع مثَلها كمثل اللغة الرسمية يجب الحفاظ عليها من المؤثرات التي يمكن أن تؤدي إلى تسرُّب الفساد وشيوع اللحن فيها أو اندثارها بشكل نهائي.
نجد في النهاية أنَّ الثقافة العامة قي الدول النامية قد أخذت بمفهوم الاختلاط المعرفي أي أنَّ كل إنسان له الحق في إبداء رأيه (المعلوماتي) والدفاع عنه وعدّه رأياً (علميّاً) وإن لم تكن له علاقة بالعلم، وهذا الاعتقاد الخاطئ قد أخذ أنصاره في تطبيقه على أرض الواقع فعرفت البيئة العلمية -على اختلاف مجالاتها وتعدُّدها- أعداداً هائلة من الدُّخلاء الذين لا علاقة لهم بهذا المجال، والكارثة أنَّ أولئك الدُّخلاء ينظرون إلى أنفسهم وينظر بعضهم إلى بعض بوصفهم ركناً ركيناً من أركان ذلك المجال الذين هم -في الواقع- لا علاقة لهم به، وهو الأمر الذي تنعكس آثاره بطريقة سيئة على الفكر العلمي ابتكاراً ونقداً.
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل