
يُدعى “التّوحّد”. هذا ما فهمته من معنى اسم مرضي: صعوبة في التواصل مع الآخرين. وإلى الآن، وقد أصبح عمري عشر سنوات، لم أجد أيّة رغبة كي أزيد تواصلي مع الآخرين -ضمنًا أسرتي- فأنا أضمّ أمّي إلى صدري وأبتسم لها عندما تأتي إليّ. ألا يكفي هذا؟! وأفعل الأمر ذاته مع أبي وأخي الصغير على الرغم من نشاطه الزائد، فهو لا يكفّ عن التكلّم وتقليد الأصوات والأسئلة والطلبات ومشاكستي.
لماذا لا يفهمون أنّني أجيد الصمت أكثر من الكلام؟ بالتأكيد لم أشرح لهم ذلك، فهو أمرٌ بديهي لا يقتضي الإيضاح. وللحقيقة أشعر بالأسف أحياناً لأنّ الطبيبة المختصّة لا تفهم صمتي على أنّه تواصل من نوع آخر، على الرغم من أنّني عندما أذهب إلى الجمعية الطبيّة التي تهتم بي وبأصدقائي من مرضى التوحّد لا نجد ما يُستغرب في حالتنا.
أقضي معظم وقتي في غرفتي، فأنا أحبّ الرسم؛ الألوان تشبهني وهي لا تريد أن تكون أكثر ممّا هي عليه، وأنا أرسم أشياء جميلة كما تقول لي أمي. إنّها مدرّسة رسم، وربما ورثتُ هذه الموهبة عنها. أمّا بخصوص ما يُدعى مرض التوحّد فأنا الأول في العائلة ولم يسبقني إليه أحدٌ، وقد يحدث أن أورّث هذه الهبة مستقبلاً إلى أحد أولادي أو أحفادي.
عادة ما تضع أمي شطيرة (سندوتش) الجبنة على الطاولة وتنبّهني ألّا أتقاعس عن أكلها، وسرعان ما أتلقفها وأتابع الرسم. لكن هذه المرّة لست أدري لماذا تأخرت قليلاً في تناولها، فوجدت ذبابة قد استقرت على السندوتش، أبعدتها وبدأتُ الأكل وأنا أراقب الذبابة تطير في فضاء الغرفة، فتغافلني وتحاول أن تقترب من السندوتش فأطردها من جديد، ولأنّها بدأت تزعجني قرّرت أن أقتلها! تركتُ نثرة من الشطيرة على سطح الطاولة وانتظرت أن تحطّ عليها، وما إن استقرّت عليها حتّى صفعتها بيدي، فابتعدت بسرعة كبيرة من تحت يدي التي ضربت الطاولة، فسُمع لها صوت يشبه التصفيق الذي يجبروننا عليه عندما تبدأ تلك الأغنية التي لا أحبها في الجمعية.
كرّرتِ الذبابة محاولاتها واستمرّت محاولاتي لقتلها. لا هي نجحت بأن تنال غذاءها ولا أنا ظفرت بها، لكن أعجبتني مهارتها في الهرب بسرعة كبيرة.
فكّرتُ: ربّما لو توقفتُ عن ملاحقتها سوف تعلّمني طريقتها في الهرب؛ هي متوحّدة مثلي ولا يوجد غيرها من الذباب في الغرفة، وهكذا أستطيع الهرب منهم إلى وحدتي التي ما برحوا يحاولون إبعادي عنها.
مددتُ يدي بعد أن وضعت عليها القليل من الطعام وانتظرت. لم تمضِ فترة طويلة حتّى استقرّت على إصبعي وبدأتْ تتناول طعامها إلى أن شبعتْ فطارت إلى النافذة. إنّ ما حدث دفعني إلى التفكير بأنّه ليس بشطيرة واحدة تستطيع أن تكسب ثقة ذبابة، فتكرّرت الشطائر حتّى بدأت تسمح لي بأن ألمسها وأمسح على أجنحتها بلطفٍ، ومن ثم سمحت لي بأن أراقبها بالعدسة المكبّرة، بل إنّها بدأت تأتي إليّ ما إن أمدّ يدي -حتى من دون الطعام- ومن ثم اكتشفت أن لا شيء لديها لتقوله، مثلي! تخلّيت عن فكرة سؤالها عن سرعة هروبها واكتفيت بصداقة صمتها، وهكذا إلى أن وجدتني أمي ذات يوم والذبابة على إصبعي تأكل بعض الطعام وأنا أمسّد لها ظهرها، فغضبتْ وحاولتْ أن تقتلها. لكنّ الذبابة الخبيرة بالهرب من تلك الصفعات طارت بعيداً.
أخذتني أمي إلى المغسلة ونظّفتْ يديّ بالماء والصابون وأعطتنْي محاضرة مملوءة بالحب والحنان عن قذارة الذبابة وما تحمله من أمراض، فاكتفيتُ بصمتي.
أعادتني أمي إلى الغرفة وذهبت لتشتريَ مبيداً حشرياً. خفتُ على الذبابة وكان عليّ أن أخبرها بالأمر كي تهرب، فالمبيد الحشري ليس كالصفعة، فهو ذو رائحة سيئة وينتشر في الهواء وسيصيبها بالدّوار فتسقط على الأرض، ومن ثمّ تموت.
طنّت الذبابة قرب أذني وطارت باتجاه المغسلة واستقرّت أسفل فوّهة الحنفية. غطست في قطرة الماء المتجمّعة في فم الحنفية، فسقطت القطرة كأنّها سنٌّ لبنيٌّ إلى فوّهة المغسلة واختفت الذبابة.
عندما عادت أمي استوقفتها كي أخبرها أنّه لا حاجة لاستخدام المبيد الحشري فقد ماتت الذبابة. أسرعت أمي نحوي وهي تبكي وتحمد الله وتشكره على شفائي. أمّا أنا، فقد تساقطت دموعي لسببٍ آخر.
* نشرت القصة في مجلة الشارقة الثقافية في الإمارات في عام 2020:
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل