
من المفيد أن نحدد المدّة الزمنية للشعر المعاصر – ما دمنا نتكلم فيه الآن- فنقول – وبالله التوفيق ومنه السداد- إنّ الشعر المعاصر امتداد لمراحل شعرية قبله لا مفاصل بينها، إنّما مرَّ الشعرالعربي بسلسلة من التغيرات التجديدية شملت بُنية الشعر أو مساره وأوجدت أنواعاً جديدة للقصيدة بسبب الحاجة الملحة لهذا النوع من القصيدة أو تلك أو لحاجةٍ نفسية للشاعر القائل لهذه القصيدة المعينة. وأستطيع أن أحدد المرحلة الزمنية للشعرالمعاصر ابتداءً من النصف الثاني من القرن العشرين أو ابتداءً من البدء بكتابة قصيدة النثر في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي/القرن العشرين فيما أراه على أغلب الأمر.
الشعر الجيد هو الكنز الثمين والوجه الحقيقي للواقع الإنساني ولطالما حلم الإنسان منذ أقدم العصور بأن يولد شاعراً أو يصبح شاعراً لذا أستطيع أن أقول إنَّ الشعر حالة روحية أو نفسية تكتنفها العاطفة الإنسانية الحقّة وتتأرجح بين التأمل والإلهام والحدس والخيال، وهو ينتج عن موهبة غرسها الله تعالى في الشاعر فطوّرَها. فالإنسان الحديث ربما كانت له حالة مركبة من المشاعر الرومانسية والألم الواقعي والرموز السيريالية والقلق الوجودي، فهو غير الإنسان العربي القديم الذي كان هائماً في الصحراء ينشد الكلأ والماء ويتغنى بما يجيش في نفسه من مشاعر وأحاسيس في حدود إمكانيته وظروف طبيعته. الإنسان العربي المعاصر ربما تعتريه حالة أو مجموعة حالات قد تكون متناقضة بما تمليه عليه نفسيته والواقع المعيش في الوقت الحاضر وتناقضات المجتمع الإنساني المختلفة المحيطة به.
والشاعر الناجح هو الشاعر الذي تجيء قصائده عفوية حصيلة الثقافة العالية والإلهام المعلّى في إنسانية تحكي مشاعر مركبة معبرة عن طموحات نفسية ومدى تأثيرها في الآخرين وإبداعات خلاقة وطموحة. فالقصيدة الحالية تمثل كائناً حياً أو هي أشبه بالكائن الحي يمثل شكلُ القصيدة أو بنيتُها جسدَه ومضمونُها روحيتَه فهي تمثل الصدى الذي تنبلج منه أسرار روحه الشاعرة وآراؤه ممتزجة بعواطفه وأحاسيسه.
الشاعر الحديث أو المعاصر المطبوع شاعر تتمثل فيه غزارة الثقافة في امتدادات عميقة وكأنه وارث للحضارات الإنسانية كلها ومطّلع على ثقافات الأمم المختلفة ومتبحّر في لغته العربية ونحوها وبلاغتها لذا يكون متمكناً من استخدام مفردات اللغة لتصوير أفكاره وآرائه وعواطفه وخلجات فؤاده أو أحاسيس نفسه دون تأثير من خارج أو أمر من أحد ويرتكز على فلسفة عميقة غنية تحصّنه من القول الضحل الفاني أو الركيك إلى القول العميق والرصين، فهو إذن يمثل فيضاً هادراً وتلقائياً للمشاعر القويَّةِ المنبثقة من أعماقه يأخذ بها من العاطفة المتأملة المتجددة المنطلقة نحو الأسمى متألقة متناغمة تنشد ديمومتها والانتشاء فيها فهو الحب للإنسان المثالي ونحو الأفضل في توليده الأفكار والإبداعات الشعرية الجميلة والمتسقة ومحاولة خلقها من جديد. وأهمية الشعر تتجلى في قدرته على تغيير حياة البشر نحو الأسمى والأفضل فالشعر يمس وجدان كل إنسان يقرؤه فيصبح أشبه بقطرات مطر مكوّنة غيثاً يعيد الحياة إلى الأرض الميتة فتزهو وتزدهر.
ويمكننا تعريف الشعر المعاصر أنّه الشعر الذي كتب أو قيل في الزمن الذي يعاصر القرّاء أو الذي يعاصرنا الآن. و صِفَةُ المعاصرة تدل على مرحلة بعينها في حياة الشعر الحديث وهي المرحلة التي عاصرها أو التي نعيشها الآن دون اعتبار إن كان الشاعر ميتاً أو ما يزال على قيد الحياة زمن وجود هذا النوع من القصيد.
اعتمد الشعرالعربي منذ القدم القصيدة التقليدية العمودية الموزونة على أحد البحورالخليلية إلّا أنّه بمرور الزمن والحقب على الأمة العربية وبالتعايش مع الأمم الأخرى حدث نوع من الانفتاح لدى قسم من الشعراء، بعضهم من أصول غير عربية، سمّي بحركة التجديد كما في العصرالعباسي وقد شمل الأسلوب والمعاني الابتكارية في القصيدة. ثم تغير ثوب التجديد في القصيدة العربية فوُجد التشطير والنهك في الأوزان الشعرية ثم وجد الموشّح ثم أنواع من القصيدة العربية جديدة آخرها قصيدة الشعرالحر(التفعيلة) ثم (قصيدة) النثر في آخر المطاف في الشعر المعاصر. أحدث التجديد نقلة استثنائية فقد طال التغيير البنية العروضية للقصيدة العربية مع حركة الشعر الحر أو شعر التفعيلة الذي يعدُّ الثورة الثانية على العروض الشعرية الفراهيدية التي شهدها تاريخ الأدب العربي بعد الثورة العروضية الأولى التي تمثلت في الموشّحات الأندلسية والأزجال. وقد لمعت أسماء جديدة في فضاء الشعر العربي بشكله الجديد من القصيد في النصف الأول من القرن العشرين مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ويوسف الخال وأدونيس وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، وأمثالهم كثيرون في الأقطارالعربية كلها.
لكن إذا كانت القصيدة الإحيائية والقصيدة الرومانسية حريصتين على التوصيل فإنَّ حركة الشعر الحرّ -أي شعر التفعيلة- تحرص على تكسير هذا التقليد الموجود، فالشعر خطاب إيحائي وترميز يتميز بدلائل الانزياح وكثافة المعنى وتعدد الأبعاد. وإذا كان شعر التفعيلة في بدايته قد اقتصد أو قلّل من كثافة الترميز فإنَّ تطوراته اللاحقة سرعان ما أدخلته في سماء ضيقة عندما استقر في الثقافة الشعرية العربية مفهوم خاص عن الشعر يجرده من كل معنى ورسالة، وربما جاء ذلك بعد سلسلة من التأملات البديهية في ظل النكسات السياسية التي عاشتها الأمة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين إذ تولدت حالة من اليأس النفسي الثقافي والاجتماعي.
والشعر العربي المعاصر يشتمل على ثلاثة أنواع من القصائد يأخذ كلٌّ منها مساراً ويعدّه شعراؤه الأفضلَ، وهذه الأنواع هي:
القصيدة العمودية: وهي الأصول الأصيلة للشعرالعربي فهي القصيدة التقليدية أو التقييدية المقيدة بالوزن والقافية أوالعَروض وهذه القصيدة ما زال صداها قوياً شديد الوقع على الإذن العربية في موسيقاها وتعدّ القصيدة الأسمى والأفضل في نظري وفي نظر أغلب المتلقين وستبقى خالدة. منها هذه الأبيات للشاعرالفلسطيني المخضرم لطفي الياسيني:
أتيت أحني جبيني من فلسطين
لكل قطر وشعب من محبيني
أنا اليتيم بلا أمٍّ ولا أبتٍ
عربيْ انتمائي إلى أهلي الميامين
مصري عراقي سعودي من عناويني
سوري وليبي ولبناني كواشيني
من المغاربة الأحباب جئت أنا
من الجزائر من بربر ويكفيني
من أرض عمّانَ من قطر ومن يمنٍ
من أرض تونس جنّات الملايين
قصيدة التفعيلة أو ما نسميه الشعر الحر الذي تكون أوزان قصيدته أو تفعيلاتها حرّة غير مخلوطة بأخرى، أي من جنس واحد و وزن واحد، وقد بنيت هذه القصيدة على إحدى التفعيلات الحرة أو أحد البحور الشعرية الصافية النقية التالية:
1- البحر الوافر وأصل تفعيلاته:
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
2- الكامل وأصل تفعيلاته:
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
3- الهزج وأصل تفعيلاته:
مفاعيلن مفاعلين مفاعلين
مفاعيلن مفاعلين مفاعلين
4- الرجز وأصل تفعيلاته:
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
5- الرمل وأصل تفعيلاته:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
6- المتقارب وأصل تفعيلاته:
فعولن فعولن فعولن فعولن
فعولن فعولن فعولن فعولن
7- المتدارك، و يسمّى الخبب أو المُحدَث، وهو البحر الذي تدارك به الأخفش أستاذه الخليل الفراهيدي، فقد ثبّت الخليل خمسة عشر بحراً وجاء تلميذه من بعده ليتدارك أستاذه في بحر آخر سمّاه المتدارك وأصل تفعيلاته:
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن
تعتمد قصيدة الشعر الحر على السطر الشعري بدلاً عن الصدر والعجز اللذين تقوم عليهما قصيدة العمود الشعري. فقصيدة الشعر الحر متكونة من سطوركلٌّ منها مكون من تفعلية واحدة تتكرر عدة مرات لا تقل عن واحدة ولا تزيد عن تسع وفي الأغلب يتبع الوزن التفعيلة ذاتها مثل (مفاعلتن) في القصيدة التي تلتزم تفعيلة الوافر، وتسير القصيدة على نسق واحد. غير أنَّ ذلك أخذ يتضاءل في ظل قصيدة النثر فأغلب كتاب قصيدة التفعيلة تحولوا إلى (قصيدة النثر) لأنهم يرونها الأسهل. ومن قصيدة الشعر الحر هذه السطور:
صيحاتك صوت نبيٍّ يبكي تحت الأسوارالمهدومة
شعباً مستلباً مهزوماً
كانت برقاً أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الرّبّات
وقاع الآبار المهجــــــــورة
كانت صيحاتك صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية
أرحل تحت الثلج أواصل موتي …
يقول الشاعر أنور الموسوي البابلي:
(إنَّ التقسيم المعهود للكتابة الشعرية إلى ما يكتب بالوزن و ما يكتب بغير الوزن ما عاد كافياً أمام الزخم الهائل والكثيف للشاعرية المعاصرة وتوسع الفهم للغة الإبداعية و تغير المعارف العامة باللغة وطبيعة استعمالها. وبعد الفهم العميق لتقنيات قصيدة النثر والشكل الذي هي عليه في الأعمال الساعية نحو الشعر الكامل في النثر الكامل صار لزاماً الالتفات إلى أنّ الإيقاع والشعرية بالنثر إمّا أن يكونا بصورة شعر سردي يعتمد تقنيات السرد التعبيري بشكل النثر اليومي أو بشكل شعر صوري يعتمد تقنيات الصورة الشعرية والتوزيع اللفظي الإيقاعي بالتشطير ونحوه. ولأجل هذه الحقيقة -أي وجود شعر سردي وشعر صوري- كان لزاماً على النقد تقديم نظرية متكاملة تستطيع مجاراة هذا التطور وهذا الفهم والواقع الجديد للشعر).
(والمميز بين النثر والشعر ليس الوزن كما يعتقد ولا الصورة الشعرية والمجاز العالي كما أثبته الشعر السردي إنّما هو أنَّ الشعر السردي يشتمل على السردية التعبيرية، فالسرد لا يقصد الحكاية أو التوصيل وهو سرد ممانع للسرد، بينما السرد النثري إمّا قصصي حكائي يقصد الحكاية أو توصيلي بشكل خطاب ورسالة). إذن فالفرق بين الشعر والقصة اللذين يشتملان على السرد أنَّ السرد في القصة حكائي قصصي يقصد الحكاية والوصف بينما السرد في الشعر تعبيري قصده الإيحاء و الرمز لا الحكاية والوصف.
ومن السرد الشعري يقول الشاعر د. أنور غني الموسوي:
(رقيق هو الصباح كقصيدة نثرغرقت في عالم من الضباب. كيف تريدني إذن أن أراها وأنا ذلك الظلّ الكسيح؟ أبحث عن عيوني التي غادرتها البدايات. كلماتي وريثة الأشباح المرهقة تتبعثر في المكان كخيط رفيع جداً. ورقتي الصامتة لا تعلم أنَّها صفراء جداً ولا تعلم أنها تسابق الريح كموت ساحر. هكذا أنا، أعيش مع كلماتي المسكينة في عالم من العمى. القارئ الذي أُثقله بندائي لا يجد قارباً في بركة الضباب هذه. إنّه لا يعيش حكاياتي لذلك فهو لون ميت. حتى صديقي الشاعر الذي يسابق الندى أيضاً صار يجلس في بركة الصمت مهموماً. وأنا ذلك المسكين، في أحيان كثيرة أستغرب أنني ما زلت أتنفس. ليس فقط لأنني لا أرى ورقتي بل لأن كلماتي غريبة جداً إلى حدّ أنها سئمت البقاء بقربي).
هناك نوع آخر من الأدب في بداية حركة تجديدية يسمّى” المتلازمة” أوجده الشاعر المصري أيمن خليل ودعا له كثيراً وأصدر فيه كتاباً، وقد دعاني لمشاركته في إنجاح هذا النوع من الشعر لكني لم أستسغ الفكرة. ولأجل اطلاع القراء على هذه المتلازمة أثبت ما كتبه عنها الأستاذ أيمن الذي يقول في تعريف المتلازمة:
( المتلازمة لون أدبي جديد ولد من رحم الومضة القصصية بما يحمله من صفات وراثية تتمثل في هيكله خارجياً وداخلياً مضافاً إليها تغييرات جوهرية تحقق التوافق مع متطلبات الرمزية والتكثيف بالصيغة التعبيرية لروح الأبيجراما1 كان يقصد بالإيبجراما في النقد الأدبي القصيدة القصيرة التي تتميز على وجه الخصـوص بتركيز العبارة وإيجازها، وكثافة المعنى فيها، فضلًا عن اشتمالها على مفارقة، وتكون إما مدحاً أو هجاءً أو حكمةً. من كتاب “بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث”، د. أحمد الصغير المراغي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠٠٣، هذا النمط الأدبي المنتشر الآن بشكل كبير وكان الدافع من وراء خروج هذا الابتكار الجديد إلى ساحة الأدب البحث عن الصيغة التي تحقق شروط الوميض القصصي من ناحية واتساع مساحة الحدث ليشمل الزمن الحاضر في التعبير من ناحية أخرى والذي خنق في زمنه الماضي كأساس وشرط لا تصلح الومضة القصصية بدونه، خرجت المتلازمة لتقدم لفكر الكاتب صيغة الخروج من حيز الومضة الضيق إلى رحابة الحدث في الوصف والتعبير وقد نجحت في استقطاب الكثير من الكتّاب لما تحمله من دقة المعنى وقوة التكثيف والاختزال بما يضمن سرعة تناول القارئ ودقته. المتلازمة أحدثت التفاعل المطلوب بين الكاتب والمتلقي بشكل كبير إذ جعلت من القارئ ذلك الشخص الذي يتفاعل معنوياً مع الحدث ويعيش بداخله متنقلاً بين الفعل ورد الفعل المتمثلين بشقّي المتلازمة كما أنها حققت الاندماج والتمازج المبتكر بين الكاتب والقارئ بصورة لم تتوفر في أي جنس أدبي آخر أو ربما كانت المتلازمة هي الأقرب لهذا التصور حتى الآن.)
نستطيع القول إنَّ المتلازمة أتاحت للكاتب الولوج في الحدث عن قرب بل أن يتعايش معه بشكل رائع ومعبّر وقد اختلف تركيبها البنائي عن الشكل المعتاد للومضة القصصية وجعلت لها خصوصية شكلية تضاف لخصوصية النوعية في المضمون.
يقول أيمن خليل في بعض متلازماته:
قَصِيدٌ
لأَنّني أَتَكَلّم (بِكُلِّ) لُغَات الْحُبِّ.. تَتَعَانَقُ الأَلْسُنُ.
تَلاَزُمٌ
لأَنّكِ مَلِكَةٌ.. يزيِنُ جَبِينِي تَاجُكِ.
رِحَابٌ
لأَنّكِ حَيَاةٌ.. أَمُوتُ فِيكِ.
أَغْنِيَاءٌ
لأَنَّ التّعَفُّفَ غَالٍ.. يَشْتَرِيهِ الفُقَرَاءُ
طَيْفٌ
لأَنَّكَ عَبِيرَ خَيَالِي.. أَتَنَفَّسُ الحُلمَ
مَسَارٌ
لأَنَّكِ سَفِيَنتِي.. أَعَشقُ التّرْحَالَ
اِتّسَاعٌ
لأنَّ المَشَاعِرَ لا حُدُودَ لَهَا.. يَتَوَارَى الأفْقُ خَجَلاً
وُصُولٌ
لأَنَّ الجَمَالَ عُنْوَانُكِ.. أَتوهُ بِعَينيكِ
تَصَادُمٌ
لأَنّهُم يَتَجَرّعُون إِهْمَالاً.. تَتَقيّأُ الطُّرُق كَوَارِث.
فَسَادٌ
لأَنَّ العَدَالةَ تَائِهَةٌ.. يَجِدُ الظّلمُ ضَالتُه.
بَوحٌ
لأَنَّكِ قَصِيدَتِي.. أَسكُنُ أَبْيَاتَكِ.
شُعُوبٌ
لأَنّنا نَجْترُّ المَاضِي.. يَحتَسِي الحَاضرُ خَيبتَنَا.
دَمْعٌ
لأَنَّ البَشَرَ أَلوَانٌ.. اِبْيَضّت أَعْينُنَا.
وممّا كتب الأستاذ عقيل العبود من هذه المتلازمات:
الصخور التي تحترق في أعماقها الحركة
يعتري أوصالَها الكسل
****
اللانهاية قباب ليس في كهوفها إلّا زرقة مبهمة
الغيوم قطع تتشكل من ألغازها الحركة
الكون ابجدية
معادلاتها تحتاج الى تدقيق.
****
الجغرافية كواكب
تناقضاتها ازمنة
العالم يسوده العنف.
****
النيران
الصخور التي تحترق في أعماقها الحركة
يعتري أوصالها الكسل
المحيطات كتل مائية يجتاحها الخوف.
****
الطفل الصغير صراخه بركان يقبع في أقصى لغة الليل
أمّي نهضت توّاً من نومتها
الأموات مساحات
الصمت يتنفس فيها صعيد الحياة
أملاً في استقبال ولادات جديدة.
****
الليل تحررت عباءته توّاً من الخوف
أمّا النهار فقد تقرر ان تغيب شمسه خلف الأفق
المرجان صخور من نار.
****
الساحل الصخري… من ضفافه
تلك التعرجات تشكّلت
****
الاشجار… تلك الامتدادات الشاهقة
في سيقانها آثار
الأحجار شهيقها ينتظر مسميات جديدة.
****
الأوراق الميتة تتحرك بناء على جريان الساقية
المرأة تلك التي تحمل طفلها الوليد
تماماً جفَّ حليبها
****
الأنفاس قرّرت ان تستعيد صمتها الأزلي
الشيخ الطاعن في السّنِّ
عصاه مسَّها الجنون
لذلك… تلك الجزيرة استغرق أعماقها الصمت
الهايكو وهذا هو النوع الثالث من( القصائد) انتقل الى العربية من الشعرالياباني نتيجة التفاعل العربي الياباني وقد وُجد في الشعرالعربي منذ مطلع القرن الماضي لكن بقلّةٍ وندرة وهناك ترجمات كثيرة من الهايكو الياباني إلى العربية في ستينيات القرن الماضي وما بعدها. وقد نظم بعض الشعراء في الهايكو العربي على غرار الهايكو الياباني أوبتصرّف، منهم نزارقباني من سوريا وعبد ة الكبير الخطيبي من المغرب.
تتمثل أهم خصوصيات الهايكو العربي في وجود نفحات غنائية وقدرة في المجازية وحضور ذات الشاعر بشكل أقوى من باقي تجارب الهايكو عبر العالم، أضفْ الى ذلك خروج الشاعرالعربي عن التوزيع الإيقاعي الياباني نظراً لخصوصية اللغة العربية. يقول شاعر الهايكو سامح درويش من المغرب العربي:
(إنَّ الهايكو العربي لن يكون له موقع ولا معنى ما لم يمنح من ثقافتنا وأرصدة شعبنا العربي الرمزية والجمالية ليلتحم بالثقافة الإنسانية وليس كنسخة مكرورة بل كاقتراح جمالي من ثقافة لها خصوصياتها وصيغها الروحية والمعرفية.)
والهايكو العربي استقطب عدداً من الأصوات الشعرية خصوصاً الأجيال الشابة في الوقت الحاضر وفي ذلك يقول شاعر الهايكو المغربي سامح درويش: (الأمر يبدو لي مؤشّر سلامة شعرية وفنية في أفق تجاوز تمجيد الذات بشكل كابح للإبداع وارتياد آفاق جديدة للتعامل مع مآزق الشعرية العربية). وتاريخ الهايكو في الشعر تاريخ مآزق بامتياز وينبغي أن يظهر في المشهد النقدي للهايكو جيل جديد من النقاد لتتبع وتقويم ومواكبة ما يُنتَج. ومن خلال دراساتنا الهايكو العربي وما تحت أيدينا من نماذج له نلاحظ ثلاث فئات:
– الفئة الأولى تتمثل بمن يحاولون كتابة الهايكو وفقاً لقواعده وملامحه الجمالية المتعارف عليها ويتوقون إلى التجربة الأدبية داخل هذه القواعد وهؤلاء باستطاعتهم مضاهاة كتّاب الهايكو الحقيقيين في الشعريات الأخرى، وقد كتبوا الهايكو عن تجربة وخبرة شعرية سابقة أو تحولوا إليه من تجارب إبداعية أخرى.
– الفئة الثانية من يعتقدون أنَّ الهايكو ليس سوى أسطر ثلاثة –ومن بينهم شعراء لهم أسماؤهم- فتبتعد قصائدهم عن الهايكو لتنتمي إلى أشكال قريبة من الهايكو من حيث الكثافة الشعرية أشبه بالومضة أو الشذرة أو الحكمة في ثلاثة أسطر وغيرها من الأنواع الأدبية القصيرة لكنهم ربما يكون في أنفسهم ريب ويميلون إلى من يرفض الهايكو ولا يستسيغه ضمن الشعرية العربية.
– الفئة الثالثة شريحة عريضة من الشباب تقوم بتلك المحاولات على سبيل اكتشاف لون أدبي جديد (الهايكو) والاقتراب من عوالمه وتقنياته، فهم يكتبون معتقدين أنّ الهايكو جزء من الثقافة العربية والشعرالعربي.
من نماذج الهايكو العربي هذه السطور للشاعر مصطفى الغتيري من المغرب التي يقول فيها:
عين ملتهبة ترمقنا
بدهشة متجددة
شمس الظهيرة
*
تجرُّ أذيالها في خيلاء
تتراقص الألوان خلفها
شمس الأصيل
*
تطل علينا على استحياء
تداعبنا لمساتها الحانية
امرأة دافئة
*
في معبد فرعوني
بخشوع تقدّم القرابين
رع يبتسم
*
حين أشرقتْ
أخفتْ (كل) الكواكب والنجوم
شمسُ حبيبتي
*
وحدها زهرة عباد الشمس
تقدّس القرص السماوي المشرق
عشق صوفي
*
عاشت طويلاً
فاندلقت الحكمة على لسانها
شمس عجوز
*
وللشاعرة العراقية بشرى البستاني هذه السطور:
العصرُ الذي أبدع السكاكينَ
نسي الخيوط
جرحٌ فاغرٌ فاه
*
يصفّق بابتهاج
يحسبُ الرصاصَ في الظلام عناقيدَ فرح
طفلُ الحرب
*
تكذبُ على الجميع
عاتبوها، فصمتتْ
الوسادة
*
قالوا للظلمة
إنَّ الشجرَ يورقُ فيكِ
فصدّقتْ
*
السيارة التي دهستني
ليلةَ أمس
كانت بيضاءَ جداً
*
بلابلُ دجلة
تطلقُ صراخاً في الفجر
المخاض
*
نسيم الشام في مهبِّ الريح
ياسمينةٌ تتلفّت
طيرٌ مذبوح
*
أسمع أنيناً لا أعرف مصدره
آه
هو من قلب جبل
ومن تونس هذه السطور للشاعر محمد أمين إدريس:
موصومٌ بخطيئته الأولى
قضَم التفاحة وحدّق مليّاً
آدمُ وحوّاء
*
بالوادي زنبقة تتثنّى
قسطلةٌ وأناشيد طيور
نيلوفرٌ جوهرهُ الياقوت
*
مات الفهد الآن
سنحصيها أخيراً
رُقط الفروِ
*
المناخ رطب والمشاعر جافة
ألمح الخزامى شارداً
فأغنّي
*
أبِيتُ اللّيل أرقبها
بسمتها العذراء صباحاً
غرضُ أشعاري الوحيد
*
ثانيةَ اليوم الأخيرة
كم سَتَوْسَعِين؟!
الوداع
*
و يتساقط الزيتون
حبّةً حبّة
العنف مبرَّر
*
المراعي واسعة
والإسطبل وضيع
الضّحيّة حرّة
ومن لبنان تقول الشاعرة المغتربة نجوى سالم:
لأنّك مقياسي للأشياء
أرى فيك نور
السّماء
~~~
أحبّك لأحيا
منك الشفاء
يا قلباً له
أخفق
~~~
أنا من عشق هواك
وانتميت لعلاك
أنت بختي
ملاك
~~~
عندما أسقط في
محيط عينيك
أين قانون الجاذبية
هنا؟!
وربما سيلد هذا العصر فنوناً أدبيةً وشعريةً كثيرة وفقاً لمتطلبات التقدم الاجتماعي والثقافي والعلمي.
الهامش
١. كان يقصد بالإيبجراما في النقد الأدبي القصيدة القصيرة التي تتميز على وجه الخصـوص بتركيز العبارة وإيجازها، وكثافة المعنى فيها، فضلًا عن اشتمالها على مفارقة، وتكون إما مدحاً أو هجاءً أو حكمةً. من كتاب “بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث”، د. أحمد الصغير المراغي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠٠٣
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل