العراق مبتكر النافورات الصناعية الأولى في التأريخ البشري

فــواز حمــــيد حمـــوالنيش

العراق -كما يعلم القاصي والداني- أرض الأمجاد الزاهرة وبلاد “ميزوبوتاميا”، أرض الرسل والأنبياء، أرض الحضارات الزاخرة، أرض سومر وأكد وبابل وآشور، الأرض التي علّمت البشرية جمعاء القراءة والكتابة واخترعت حروفها منذ فجر التأريخ البشري، الأرض التي اخترعت العجلة والقوس المزدوج وصاغت بواكير الدساتير والقوانين والنظم في التربية والصحة والأسرة والتعليم وأرست مبادئ حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. إنّه الأرض التي انبثقت منها ملحمة الخلود “كلكامش” ومسلّة حمورابي لتشعّ بنورها الوضّاء على البشرية جمعاء في أرجاء المعمورة، أرض بيت الحكمة أول مكتبة مركزية جامعة على سطح الكوكب، أرض المدرسة النظامية والمدرسة المستنصرية اللتين تعدان من بواكير الجامعات العلمية على وجه الأرض. وما لايعلمه الكثير من القراء والمتابعين والمهتمين أنَّ العراق مبتكر أولى النافورات الصناعية في التأريخ كذلك.

  تفرّدت الحضارة العراقية بابتكار طرق رفع المياه ونقلها حسبما تفرضه طبيعة أرض العراق وعرفت الحضارات التي قامت على أرضه كيف توصل الماء إلى المدن ومناطق سكنى الناس التي كانت تبنى أعلى من مستوى الأنهار خوفاً من الفيضانات إذ كانت المكننة غائبة. كانت المياه تصل الناس بطريقتي الرفع والجرِّ: يتمثل الرفع  بحصر الماء -في منطقة عالية المنسوب- لرفع منسوبه تجاه المنطقة المراد إيصال الماء إليها بواسطة يدوية أو بالنواعير بالاستفادة من خاصية انسيابية الماء أو حركيّته (الهيدروليكية)، أما الجر فيتمثل بأخذ الماء من منسوب عال يتماشى مع مناسيب المنطقة ليترك المجرى المائي ويبتعد عنه ضمن المقطع العرضي له فيصبح الماء بعد مسافةٍ ما أعلى من المنطقة التي وصلها المجرى الأصلي في منطقة المقطع العرضي إذ إنّ الماء ينفتح على الجوانب التي أصبح منسوبها أعلى من المجرى الأصلي وبالتدريج تبدأ عملية السقي في المجرى الجديد صوب مناطق أكتاف الأنهر أو الوديان، والأمثلة هنا كثيرة جداً منها في منعطفات الأنهار كالأنهار الكثيرة التي تبدأ بالتفرع من مدينة سامراء على نهر دجلة ومدينة هيت أو الفلوجة على نهر الفرات، وقد استغلت جميعها ضمن مراحل مختلفة وأزمنة كثيرة قبل الميلاد وبعده وقبل الإسلام وفي العصور الإسلامية وسمّيت بأسماء مختلفة في كل زمن من الحضارة العراقية.
  إنَّ الجنائن المعلقة التي تفرّد بها العراق عن حضارات العالم القديم -والتي اختلف المختصون والعلماء والآثاريون في تحديد موقعها- واحدة من عجائب العالم وتعد أنموذجاً فريداً لرفع المياه ونقلها.
  معلوم أنَّه لا بدَّ من وجود أجهزة لتشغيل نافورة والعجيب والغريب أن تشتغل نافورة في زمن لم تكن المكننة حاضرة أو الكهرباء متوفرة. إذاً كيف تعمل هذه النافورة؟ الشرط الأساسيّ لابتكار النافورة أن تحدِّد الطبيعة -وليس الإنسان- موقع إنشائها كمنطقة انعطاف نهر “الكومل” أحد روافد نهر الخازر الذي يرفد نهر الزاب الأعلى، والأخير يعد واحداً من أكبر روافد نهر دجلة في العراق وسمّي “الكومل” أو “الجمل” لانعطافه الشديد في هذه المنطقة حيث يبدو وكأنه تحدّب ظهر جمل أي سنامه. تقع هذه المنطقة على مسافة تقارب ثمانية وخمسين كيلومتراً شمال شرقي مدينة الموصل وقد أنشئت سنة  690 ق. م نافورة تأريخية ضمن مشروع عرف بمشروع الملك الآشوري سنحاريب ( 705-681 ق. م) لسحب الماء من هذه المنطقة صوب مدينة نينوى الآشورية (الموصل حالياً) خلال سنوات الجفاف (العجاف) كما يذكر الملك نفسه في نصوصه: إنَّ “مدينة نينوى كانت جرداء كالقبر”.وعلى الرغم من أنَّ نينوى تقع على نهر دجلة فإنّها كانت تروى من نهري “الكومل” و”الخوصر” بطريقة الجرِّ آنفة الذكر لأنّها أكثر ارتفاعاً من نهر دجلة  لذا كانت تغذيتها بالماء من مصدر مائي ذي منسوب أعلى من المدينة ذاتها يبعد عنها مسافة ثمانين كيلومتراً تقريباً.

  تنحصر هذه النافورة وراء منعطف خنس، ومعنى خنس اختفى وسكن وهدأ. عندما أقام سنحاريب مشروعه لحصر مياه هذا النهر تجمعت المياه في ظهر هذا المنعطف وتغلغلت تحت الصخور ثم انسابت إلى الأسفل نحو النهر الأصلي من الأمام (مشهد النافورة) وبذلك تكونت مياه شبيه بالشلالات المتدرجة، بأمر من الملك وبمهارة المهندسين المشرفين على المشروع حُفِرتْ حفر متصلة مع بعضها لتنساب منها المياه -كما نلاحظها في الصور المرفقة- وتصب في جهة النهر الأقل ارتفاعاً في الأمام من ظهر المنعطف لتنتهي النافورة إلى عدد كبير من المخارج ضمن حفرة مكعّبة مثقوبة من جهة المكعّب ومنحوتة من الجهة الأخرى على هيئة رأس أسد يخرج الماء من فمه ويحفّ الرأس بجسم الأسد من الجانبين في منظر خلّاب أنتجه  الفن المعماري الآشوري البديع. لقد جاء وصف ما كان عليه أهل نينوى من العيش الكريم الرغيد في آيتين من القرآن الكريم (يونس98 و الصّافّات48)، ولا نشاهد مثيلاً لهذا الترف في العيش أو الإبداع في الفنِّ في أيٍّ من حضارات العالم القديم. 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply