الْعَرَبيَّةُ لُغةٌ لا تَشِيخُ

ثريّا نعمان ماهر الكنعاني

احتفل أهل الضّاد ومحبّوه في الثّامن عشر من كانون الأوّل المنصرم باليوم العالميّ للّغة العربيّة وهو اليوم الّذي يصادف تاريخ صدور قرار الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدّة اعتماد العربيّة لغة عمل رسميّة، وكان هذا في العام 1973. وبينما شاخت الكثير من اللّغات ولقيت أخريات حتفهنَّ ما تزال العربيّة في ريعان الصِّبا متربّعة على عرش الجمال، ويبدو أنّها تسير بخطى واثقة لتتربَّع على عرش الخلود وهي أهلٌ لذلك؛ العربيّة الّتي تتفوّق على اللّغات الحيّة والمندثرة جميعها تحتوي على اثنتي عشرة مليون كلمة وستّة عشر ألف جذر لغويّ.

  إنَّ تاريخ اللّغة العربيّة الّتي نعرفها اليوم ونكتب بها متّصل بنزول القرآن، ويتّفق المؤرّخون على أنّه يمتدُّ -على وجه اليقين- إلى مائة وخمسين عاماً قبل ظهور الإسلام  مستندين على ما بين أيديهم من أشعار وصلتنا من ذاك العهد، ويُرجِع بعض المستشرقين تاريخها إلى ما بين مائتين وثلاثمائة سنة قبل الإسلام بحسب ما وجدوا من نقوش، وأمّا غير ذلك من استنتاجات فكلّها اجتهادات مبنيّة على الرّوايات فلا يقطع أحدٌ بدقّتها. وأمّا العربيّة الّتي تكلّمها إسماعيل عليه السّلام، وهي عربيّة جرهم، فهي أمُّ عربيّةِ اليوم أو جدَّتُها وقد تطوّرت على ألسنة ذرّيّته حتّى أفضت إلى العربيّة الّتي نزل بها القرآن وحفظها. *

 تواجه العربيّة في حاضرها من شراسة الأعداء والمتربّصين ما يفوق شراسة جرثومة/فيروس كورونا وتتجدّد محاولات هدمها وتتحوّر أكثر ممّا شهدنا من تحوّر الجرثومة؛ فتارةً يرفع بعض من يسمّون أنفسهم مجدّدين عقيرتَهم بالدّعوة إلى إبدال العامّيّة بالفصحى وتارةً يفتح الله عليهم بالدّعوة إلى حذف حرف الضَّاد من لغة الضَّاد ليتخلّص المتحيّرون من الخلط بينه وبين الظَّاء، ثمَّ يقودهم عجزهم تجاه العربيّة إلى أن يقترحوا إلغاء الإعراب لأنّه صعب ولا يواكب روح العصر، وليتهم يخبروننا كيف سيفهم النّاس الأحكام الشّرعيّة -مثلاً- ويستنبطونها من القرآن الكريم دون النّحو والصّرف.

 وأمّا الشِّعر العربيُّ فما انفكَّ كثيرٌ من هؤلاء (المجدّدين) يحاولون طرده من بيت العَروض وإخراجه عن تفعيلاته إلى أنماط يستوردونها من الغرب واليابان وأسواق أخرى، وبعد أن قالوا للنّثر قصيداً انبروا لتقزيم البيت الشّعريّ في كلمة واحدة يقولون إنّها تختزل فكرة لا يفهمها إلّا كاتبها، وقد لا يفعل. و في سوق الشّعر الكثيرُ من الغثِّ الّذي لا تجد له وصفاً أبلغ من قول الشّاعر: 

سخِرَ الشّعرُ منهمُ و أشاحا         فاستزادوا لجهلهم إلحاحا

هذيانٌ تعافُ ألفاظَه الحُمّى        دَعَوهُ   تجدُّداً  و انفتاحا

دَعوةٌ  أعجميّةٌ  قد  (عرَفنا      ها)  قديماً مسارباً ورياحا

ثمَّ يرموننا بثالثة الأثافي، فبعد أن كنّا نمدح ونهجو ونفخر ونتغزّل ويرْثي المكلومون منّا أحبابَهم بشعر جزل وضع أجدادنا قواعد بيته منذ عهدٍ تقول الأساطير إنّه يمتدَّ لآدم يريدون أن نفعل هذا كلّه بالهايكو اليابانيّ! وليتَ شعري أيُّ كلام منثور -يتوهَّم قائلُه أنّه قصيد- وأيُّ هايكو يجاري رثاء المتمِّم بن نويرة أخاه مالكاً وهو يقول:

أبى الصَّبرَ  آياتٌ  أراها و أنّني       أرى كلَّ حبلٍ بعد حَبلِكَ  أقطعا

وأنّي متى ما أدعُ باسمكَ لا تُجِبْ     وكنتَ جديراً أنْ تُجيبَ وتُسْمِعا

وعُشنا بخيرٍ في  الحياةِ  و قَبْلِنا      أصابَ المَنايا رَهْطَ كسرى وتُبَّعا 

فلمَّا   تفرَّقْنا   كأنّي  و  مالِكاً        لطولِ اجتماعٍ لمْ  نبتْ  ليلةً  معا؟

لعلَّ أحدَ المجدّدين المستعجمينَ يُجيبُ فيُسمِع!

       ∗∗∗∗∗                                        

 اللّغة العربيّة أقدر اللّغات على الوفاء بالمخارج الصّوتيّة بتقسيماتها الموسيقيّة وهي الأوفر عدداً في أصوات المخارج دون تكرار أو لبس وإنَّ فيها من الحروف ما يكفي لإنتاج الأصوات كلّها دون الحاجة للجمع بين حرفين لإنتاج صوت واحد، زد على ذلك تفرّدها بحروف الحاء والضّاد والطّاء والظّاء والعين والقاف. ثمَّ إنَّ العربيّة لغة فخيمة معرِبة شاعرة موجزة معجزة غنيّة بالمفردات والمترادفات تميّز بين المذكّر والمؤنّث وهي قادرة على الاشتقاق ممّا يجعلها تلبّي حاجة العصر إلى كلمات جديدة تستطيع العربيّة أن تستوعبها ترجمة أو تعريباً وهذا ما يجعلها أيضاً كُفأً لأن تكون لغة علم. وهي لغة ثابتة قابلة للزّيادة لا النّقصان ولأجل ذلك اختيرت لغةَ توثيق في الأمم المتّحدة؛ جلُّ النّصوص القديمة من الإرث الحضاريّ الّذي وصلنا لم يعد مفهوماً حتّى ما كتب منها بلغات ما زالت حيّة فيما عدا العربيّة الّتي زادت من رصيدها اللّغويّ دون أن تفقد شيئاً، وما يزال ما وصلنا من أثر لغويّ يمتدّ عمره إلى خمسمائة عام وألف مفهوماً دون لبس. 

  في القرن المنصرم انقرضت قرابة ثلاثمائة لغة ولهجة ويقدِّر المختصّون أنّه ستنقرض لغتان أو لهجتان محكيّتان في كلِّ عام حتّى إذا ما أطلَّ العام 2200 سيتحدّث أهل المعمورة لغاتٍ ثلاثاً لا غيرها: العربيّة والصّينيّة والإنجليزيّة. إذن، فعلى الرّغم من قتامة الحاضر بما فيه من العجمة الّتي تضرب اللّسان العربيّ  ومحاولات بربرة العربيّة والفتك بها الّتي انتهجها مستشرقون ومستعجمون فإنَّ مستقبل لغة الضَّاد يبدو واعداً مشرقاً وعاصفة الاندثار الماضية باقتلاع لغات عدّة لا يبدو أنَّ لها حظّاً مع لغة العرب أو شعرهم.

 ∗يميل أكثر الإخباريّين و الرّواة إلى أنّ أوّل من قصّد القصائد المهلهل عديّ بن ربيعة التّغلبيّ الّذي وصلنا من شعره ثلاثون بيتاً بينما تذكر تصانيف أخرى شعراء منهم المعروف ومنهم المجهول مثل عَبيد بن الأبرص و الأفْوَه الأودّيّ وذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم ودويد بن نهد القضاعيّ وزهير بن جناب الكلبيّ والأضبط بن قريع والمستوغر بن ربيعة وعمرو بن قميئة وابن حَذام الكلبيّ الّذي لم يُسمَع له سوى بيت واحد.

 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply