“ذلك الثوب الّذي…”

لبنى يا سين

كعادتي تماماً، وعند كلّ منعطف قاس للخيبة يباغت مسيرة حزني، أركض إلى الأسواق، أبحث عن التخفيضات في أسعار الملابس الباهظة، عن أي شيء بوسعه أن يغلف كآبتي ليمنح عقلي جواز مرور مزيف إلى الفراغ والتلاشي.

أتجوّل برفقة قائمة من الأحزان لا تخفيضات عليها، أتتني هكذا، وحدها دون طلب مني ولا حتى إذْن، برفقة خدمة التوصيل المجاني، حتى شغاف القلب وحتى آخر شريان للفرح ما زال يكافح من أجل البقاء.

  أتصفح الواجهات الزجاجية الباذخة، أبحث فيها عن شيء يناسب مقاس حزني الذي غدا ثخيناً، يخطر في بالي أنّه عليّ أن أبحث في المتاجر المتخصصة بالمقاسات المنتفخة، فأرداف هذا الحزن -كما أكتافه- تكاد تصبح في مقاس ثلاثة أشخاص معاً.

 تطالعني بنظرات فضولية نساءٌ خشبيات واقفات بوضعيات استعراضية على تلك الواجهات وقد سلطت الأضواء من الأعلى عليهن، يرتدين أثواباً بحلّة الفرح والجمال، تسألني إحداهنَّ بفضول هامسة بصوت لا تدركه أذن غير أذني: ما بك؟ فأتلافى النظر إليها مجدداً لئلا يباغتني هوس الأوجاع المتناثرة في قلبي فأبادلها حديثاً يسمعه من حولي ناعتاً إيّاي بالجنون.

  يسرقني فستان جميل ترتديه امرأة خشبية سوداء بملامح ناعمة وشعر معقوف إلى الأعلى، مصنوع من الساتان والمخمل، تلك الأقمشة التي تمنح جسدي شعوراً خالصاً بأنوثة طاغية أحب أن أجاهر بها نفسي وأن أحتفل بها سراً بيني وبين امرأة أخرى تشبهني تماماً، تقف ساخرة مني في كل مرة.

ثوب أحمر صارخ اللون كغضبي، حوافه مطرزة بخيوط ذهبية باذخة تبدو كمن يتحدى ساعة الصفر لحدث ما، حدث استثنائي جداً في حياة لا شيء استثنائي فيها إلّا مقاس حزنها. يأسرني الثوب بأناقة جماله، أحاول أن أشيح النظر عنه فيأبى انصرافي، يتحداني، يتحدى شجاعتي الهاربة مني، يجبرني على الانشغال به، أعيد عيني إليه خلسة عن نفسي وأسرق منه نظرة أخرى أحاول أن أجعلها تبدو كنظرة وداع إلّا أنّها تعاندني فلا تبدو كذلك بل تظهر لي كمن يرحب بقدوم شخص عزيز.

  لا بأس…لا بدَّ أنَّ حزني يستحق أحياناً أن أغافله بحدث ما وأن أتجاهل صراخه في قلبي.

  ألقي نظرة عابرة على السعر فيتوقف قلبي، أعيد النظر ثانية لعلَّ خطأً ما يعلن ظهوره في قراءتي، فلا يعلن. السعر مرتفع جداً ولم أضع في حسباني أن أشتريَ ثوباً للفرح بثمن كهذا، أنا التي تضنّ عليّ المناسبات بمرور عابر. أحاول ثانية أن أنتزع نفسي من أمامه وأنتشل عينيَّ من الحواف المطرزة إلّا أنّ زواياه تغمز لي، تخبرني أنني أستحق أحياناً -ولأسباب غير مفهومة تماماً- رفاهية المخمل والساتان وغواية اللون الأحمر المطرز بورود ذهبية تسترق النظر إليَّ فيفوح أريج غيّها حتى آخر السوق.

  أفتح حقيبتي، أعد النقود التي في حوزتي، هي كل ما أملكه هذا الشهر وهي أيضاً على قدر السعر المطلوب تماماً. لفرح مزيّف بي رغبة تكتسح قلبي اكتساحاً لشرائه وكأنّما فصل السعر تفصيلاً على مقاس النقود التي في حوزتي.

  أدخل إلى المتجر، ودون أي تردد كان يتملكني قبيل دقائق من دخولي أتجه إلى البائع، أطلب منه الثوب الذي على الواجهة فيفاجئني بتوجهه إلى مكان آخر ليحضر لي من مكان ما في المتجر الثوب ذاته الذي طلبته بمقاس أكبر جعله يفقد أناقة أنوثته الطاغية، أنظر إلى عينيه مباشرة وأعيد طلبي مصرة على كل تفاصيله:

 أريد الثوب الذي على الواجهة.

 فيخبرني وعيناه تنطق بالدهشة:عفواً اعتقدت أنّك تريدينه لك؟ سأحضر لك المقاس الذي على الواجهة.

إلّا أنني أعيد النظر إليه وقد كاد الغضب يفجر عروق رقبتي: قلت لك ذاك الذي في الواجهة ولا شيء غيره، ولا حتى مثله.

يبدو الامتعاض واضحاً على وجه الرجل ويحاول إفهامي ثانية بأنه سيأتيني بالثوب ذاته وبالمقاس ذاته الذي ترتديه المرأة الخشبية السوداء التي تقف على الواجهة ساخرة من حزني، معتقدا أنَّ بي مسّاً ما يعيق فهمي ما يقصد، ويغادرني لينتشله بسرعة عائداً به إليَّ فاُفهمه أنّي اعلم أنَّ هذا الثوب نسخة طبق الأصل عن ذاك إلّا أنّني أريد الأصل ولا أريد النسخة. أريد ما على الواجهة وتحت الأضواء وفوق المرأة الخشبية السوداء.

  كأنّي بنفسي أنتقم من النظرة الساخرة في عينيها بتعريتها من ثوب الفرح، كأنّي أنتقم من تفاصيل الجسد الخشبي الشهي الذي لا تكوره الدهون ولا الكيلوغرامات الزائدة ولا يبدو كمستودع للحوم الفاسدة التي منها تفوح رائحة العرق وتنوء بتفاصيل ثنيات دهنية مترهلة تبدو كدرجات سلّم ينزل بي إلى حضيض اليأس.

  يتّجه البائع -وقد بدا الغضب واضحاً على ملامحه- إلى الواجهة لينزل المرأة الخشبية من عليائها، وأتجاهل غضبه تماماً كأنّني لا ألمح آثاره ترتسم فوق الملامح السمراء لرجل لا يستطيع أن يفهم ما بي وما أغضبني عندما أحضر ذلك المقاس الضخم، فأنا الآن معنية –فقط- بأمر غضبي وخيبتي. مَن غيري يحاول رشوة الفرح بفستان ينتظر يوماً مناسباً لارتدائه؟ يوماً مكلّلاً بشيء أنتظره… ولا يعيرني التفاتاً.

يخلع البائع الفستان بحذر ورفق من فوق المرأة، كأنّي به خائف على الأميرة النائمة من أن توقظها أصابع تقتحم خلوة كبريائها لتنتزع منها فستان الفرح الأحمر. إلّا أنّ الأميرة تغطُّ في سبات عميق لا تستيقظ منه، لا تقلقها وصفات الريجيم التي لا فائدة ترجى منها ولا يهمّها إحصاء عدد أثواب الفرح التي يرتديها جسدها الخشبي البارد ويخلعها دون أن يمرَّ به الفرح فعلاً.

يطوي الثوب برفق حرصاً على الحواف المطرزة، يضعه في كيس ورقي كبير يزهو عليه اسم المحل بطباعة فاخرة تشي بفخامة هذا المكان ورُقيِّه، ويمدُّ يده لي به متمتماً: مبارك.

لا أجد في نفسي رغبة بالرد على تهنئته فأتظاهر بأنّني لم أسمع شيئاً، بينما أحمل غنيمة الفرح منتشية بإنجاز قد يوفّق في جلب شيء منه إلى قلبي ولو من باب الفضول.

أتّجه إلى صندوق المحاسبة، أمدُّ يدي إلى المحاسب براتب شهر كامل، تتخاذل يدي للحظة وتبدو كمن يريد التراجع في اللحظات الأخيرة، ويصرخ عقلي: إنَّه راتب شهر أيتها الغبية، إلّا أنَّ النشوة في قلبي تجبرني على منح الرجل ثمن مرورها العابر. أستدير للخروج فيستوقفني المحاسب قائلاً:

لحظة…الفاتورة.

أتجاهل صوته فليس بي نية لإعادة الفستان أو حتى استبداله، أحمله وفي قلبي أمنية خائفة وأتّجه وقد حصلت على ما حلمت به إلى باب السوق، أوقف سيارة أجرة، أخبر سائقها بعنوان بيتي، وأطير في عوالم أخرى يخرجني منها السائق وقد وصل إلى الشارع الذي همست له باسمه، فأوجّهه نحو البيت قائلة:

انعطفْ يميناً… يساراً… الآن، عند هذا المدخل.

أضع في يده أجرة إيصالي وأهرول إلى بيتي، أصعد الدرجات الخمس بسرعة، أدير المفتاح في قفل باب المنزل وأتسلل بهدوء إلى غرفتي تلافياً لسؤال لا أريد الإجابة عنه حول محتوى الكيس الأنيق الذي أحمل.

أُخرج الثوب الأحمر بحذر… أنظر إليه بفرح… أعانقه… أشمّ رائحته… أرتّبه على علّاقة الثياب الخشبية… وأودعه خزانة ملابسي إلى جانب أثواب أخرى للفرح… لعلَّ ذلك يحدث.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply