
1 -حول البصرة ومئويّة تأسيس الدّولة العراقيّة
في مقال تقديمي معرضي السابق بابل1أقيم المعرض بتاريخ 21/11/2017 على كاليري الأندى– عمان ونُشر عنه مقال في مجلة “بين نهرين”– العدد (123)، شبكة الإعلام العراقي، آب- 2019. تناولت فكرة تنوع الأجناس والثقافات في بلاد النهرين وما لهذا التنوع من أثر في تشكيل ملامح المجتمع العراقي وتاريخه من خلال نموذج مدينة بابل (كسُرّة للأرض). ربّما يمكن تطبيق الفكرة ذاتها مع مدينة البصرة وعلى ذات النهج كحاضرة كونية عالمية/ كوزموبوليتانية -كانت أو يمكن لها أن تكون- فالبصرة التي تَسمّى الخليج يوماً باسمها هي نتاج التنوع الثقافي والانفتاح الذي وفّره التقاء طرق التجارة فيها.
في منتصف القرن الماضي، وقد ارتسمت على محيا المدينة بشائر ازدهار، وخلال محاضرة ألقاها مستثمر كان يروّج لفكرة حفر انفاق تربط ضفتي شط العرب تحدّث بأمر طريف عن المستقبل متخيّلاً أنَّ الأمر سيتطلب الاستعانة برجال مرور يرابطون في السماء لتنظيم مساراتها الجوية المكتظة بالطائرات2 سمعت القصة من أحد موظفي الإدارة المحلية الذي عاصر تأسيس مشروع الحكم المحلي ونشاطاته ذات العلاقة في خمسينيات القرن الماضي، وتبدو أهمية موقع البصرة وأجوائها من خلال انتخاب المدينة في سبعينيات القرن الماضي لتكون الميناء الجوي المركزي لعموم منطقة الخليج ومن ضمن الممرات الجوية العالمية من قبل منظمة “أيكاو” التي تُعنى بأنظمة الطيران العالمي..
لكنَّ القدر لم يُطل ابتسامته على ما يبدو فقد لوّثت تقاطعات آيدلوجية الصورة وأهدرت الفرص. ومع حلول الذكرى المئوية لتأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 2021 فلا ضير من وقفة تأمل لتحفيز الذاكرة من خلال مجموعة من الأعمال أُدرج عدد منها ضمن كتاب بعنوان “مقامات”3وهي سبع: مقامة في نهر جاسم1 ، مقامة في نهر جاسم 2، المقامة الانقلابية، المقامة الجواهرية، مقامة في ألقاب الأسد، مقامة في احتجاج الرِّقّ، المقامة البدرية.. تتمحور مواضيع هذه المجموعة حول توثيق تفاصيل من معارك دارت قرب البصرة أو اقتراح نتائج مغايرة لانقلاب أو تمرد حدث في الزمن الماضي أو النظرإلى ظاهرةٍ ثقافيةٍ ما من زاوية مختلفة.
2 عشتار في البصرة
يرد في أسطورة من أدب العراق القديم أنَّ الإلهة عشتار4وهي إينانا السومرية. حازت على نواميس الحضارة يوماً وأبحرت بها إلى أوروك محمولةً على (زورق السماء) وكانت حريصةً على إسعاد شعبها وإشراك الجميع في الرخاء.
“لتزدهر أحوال أوروك ويبتهج
صغار مدينتك.
وليكن شعب أوروك صديقاً
لشعب أريدو”5النصوص التاريخية في المطبوع منتخبة من أكثر من مصدر
ومع رصيد الخصب الكامن تبقى الأحلام حيةً تبحث عن مُخلِّص. من وحي هذه الأسطورة كانت إحدى أعمال المعرض التي تحاكي هذا المنحى وهي لوحة (عشتار في البصرة).
أَقمتُ في هذه المدينة أواسط سبعينيات القرن الماضي و قضيت فيها سنين أعدّها من أجمل سني العمر وأثراها فقد زخرت بتنوع طبيعي وتاريخي وثقافي؛ الحياة في ميناء تولد شعوراً مختلفاً بالتواصل مع العالم.6عام 1987 في أثناء الحرب العراقية- الايرانية عدت إلى البصرة بمرافقة وحدتي العسكرية وكانت قد تحولت إلى مدينة منغلقة بملامح شاحبة وكل ما تفتخر به من بساتين نخيل وقنوات وقناطر وبيوت تراثية وغير ذلك من كنوز بدا في حالة انحدار.
حاولت أن أرسم شيئاً من البصرة فاخترت (مبنى ساعة سورين)7مبنى ساعة سورين الذي يقع على عتبة الجسر المؤدي إلى سوق الهنود وكان يشغله عدد من مكاتب كبار التجار، شُيِّدَ عام 1906 ويعود اسم الساعة إلى المصور الشمسي (سورين) وهو رجل أرمني بدين كان يتخذ من فتحة الجسر محلاً لكاميرته الخشبية وقد أحبه الناس لابتسامته البريئة ولهجته الهجينة الساخرة. أُزيل المبنى عام 1964 من قبل محافظ البصرة آنذاك ويُقال إنَّ من إسباب الإزالة اسم الساعة الذي عُدّ أجنبياً. أحد مبانيها التراثية المطلة على نهر العشار وهو الشاهد الحي على مراحل من تاريخها.8العَشّار اسم أحد الأحياء العريقة في مدينة البصرة الحديثة كان يمثّل المركز التجاري للمدينة خلال النصف الأول من القرن العشرين وفيه نهر العشّار الذي يتفرع من شط العرب ليقسم المدينة طولاً وعلى جانبيه القصور والأسواق والفنادق والبساتين، وتتفرع منه قنوات مائية كثيرة. تشير إحدى الفرضيات إلى أنَّ العشار يمثل موقع (الأبلّة) وهي بلدة قديمة يرد ذكرها في المصادر التاريخية بوصفها إحدى قصبات البصرة القديمة ويختلف المؤرخون اليوم في تحديد موقعها. لتفاصيل أكثر حول الموضوع يمكن مراجعة المقال الموسوم: “تحديد موقع مدينة الأبلّة” لأمل عبد الحسين السعدي المنشور في مجلة سومر، المجلد 53، ص 339، بغداد. رافقت تنفيذ العمل فكرة عنّت لي عن صلة محتملة بين (عشّار) كاسم لمكان 9السائد في أصل تسمية نهر العشار نسبتها إلى اجتماع العشّارين على صدر النهر لأخذ الأعشار من السفن والمارة وقد صادفني رأي مُخالف لما تقدم لكن من دون تقديم تبرير. يمكن مراجعة مجلة لغة العرب، البصرة، ص 199، الجزء 3، السنة 6، مطابع الأديب، بغداد 1928. و(عشتار) إلهة الحب في العراق القديم، ثم تحولت الفكرة إلى بحث تفاعل مع الرسم وتطور الاثنان معاً مما أدى إلى تغيير في تفاصيل العمل.10ستُنشَر تفاصيل البحث مستقبلاً في مقال مستقل.
عشتار حسب المعتقدات العراقية القديمة إلهة مختصة بالحب والزواج ومن اسمها ربما انحدرت كلمة “عاشَر”َ كتوصيف للعلاقة بين البشر، و(عِشار) للعلاقة بين الحيوانات11في أريافنا تُستعمل لفظة (تعشير) للحيوانات التي تحمل بعد السفاد فتوصف البقرة الحامل بأنها معشّرة أي التي حملت برعاية عشار، وقد لاحظ الباحث أولبرايت “أنَّ هذا الاصطلاح ذاته (عشاريم) ورد في كتاب “التثنية” من العهد القديم العبري للدلالة على تسافد القطعان. يوسف الحوراني، البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم، دار النهار للنشر، بيروت، 1978، ص 264.. والأمر ذاته ما يزال سارياً في أرياف جنوب العراق حيث “أن كلمة معشّرة موجودة أيضاً، وتعني الجاموسة أو البقرة التي تلقت التلقيح من الفحل ولم تظهر عليها آثار الحمل. أما حين تظهر عليها آثار الحمل فهي ماخض، وحين يتقدّم حملها وتوشك على الولادة فلها تسميتان: مْنَجّر، وحاطّة، بمبم ساكنة في كلمة مْنجّر” وقد زودنا بهذه المعلومات الأستاذ الأديب سلمان كيوش بعد أن تاكدت له من أكثر من مصدر. وفي تفسير ابن كثير، مثلاً، فان كلمة عِشار التي ترد في الآية (4) من سورة التكوير:{وإذا العِشارُ عُطّلت} تُقرن بمعنى العاشر وتُفسّر على الصيغة الآتية:” العِشار من الإبل وهي خيارها، والحوامل منها التي قد وصلت في حملها الى الشهر العاشر”. والمُلاحظ مما تقدّم أنَّ الآراء تجمع على ربط الكلمة بالزواج والحمل.. وربما يكون البلم العشاري12واسطة نقل مائي لم يعد لها وجود اليوم. يبلغ طول البلم العشاري سبعة أمتار تقريباً وعرضه في الوسط متر واحد وهو ملقوط الطرفين ومحل ركابه في الوسط ولا يصلح إلا للتنزه والعبور من جانب إلى جانب آخر من النهر ولا يسع أكثر من خمسة أشخاص وملّاحَين اثنين أحدهما في المقدمة والثاني في المؤخرة، ويسير بالدفع والجذف وليست له سارية أو دفة، وهو يمثل النموذج الأصغر في عائلة البلم بينما كانت نماذج أخرى أكبر حجماً وفيها دفّة وسارية للشراع مخصصةً لنقل البضائع.، وهو قارب اختصت به البصرة، من إرث عشتارإذ يلاحظ على طرفيه شكل حلزوني يحاكي أحد رموزها القديمة وأقصد بذلك حنيّة القصب.
لأسباب عدّة لايمكن ترجيح ما إذا كان لعشتار وطقوسها وجود في البصرة أو أنَّ للبصرة وجوداً زمن شيوع عبادة عشتار لكنَّ المؤكد أنَّ البصرة مكان مثالي لإحياء طقوس (الخِصْب).
الهوامش
١.أقيم المعرض بتاريخ 21/11/2017 على كاليري الأندى– عمان ونُشر عنه مقال في مجلة “بين نهرين”– العدد (123)، شبكة الإعلام العراقي، آب- 2019.
٢. سمعت القصة من أحد موظفي الإدارة المحلية الذي عاصر تأسيس مشروع الحكم المحلي ونشاطاته ذات العلاقة في خمسينيات القرن الماضي، وتبدو أهمية موقع البصرة وأجوائها من خلال انتخاب المدينة في سبعينيات القرن الماضي لتكون الميناء الجوي المركزي لعموم منطقة الخليج ومن ضمن الممرات الجوية العالمية من قبل منظمة “أيكاو” التي تُعنى بأنظمة الطيران العالمي.
٣.وهي سبع: مقامة في نهر جاسم1 ، مقامة في نهر جاسم 2، المقامة الانقلابية، المقامة الجواهرية، مقامة في ألقاب الأسد، مقامة في احتجاج الرِّقّ، المقامة البدرية.
٤. وهي إينانا السومرية.
٥. النصوص التاريخية في المطبوع منتخبة من أكثر من مصدر
٦. عام 1987 في أثناء الحرب العراقية- الايرانية عدت إلى البصرة بمرافقة وحدتي العسكرية وكانت قد تحولت إلى مدينة منغلقة بملامح شاحبة وكل ما تفتخر به من بساتين نخيل وقنوات وقناطر وبيوت تراثية وغير ذلك من كنوز بدا في حالة انحدار.
٧. مبنى ساعة سورين الذي يقع على عتبة الجسر المؤدي إلى سوق الهنود وكان يشغله عدد من مكاتب كبار التجار، شُيِّدَ عام 1906 ويعود اسم الساعة إلى المصور الشمسي (سورين) وهو رجل أرمني بدين كان يتخذ من فتحة الجسر محلاً لكاميرته الخشبية وقد أحبه الناس لابتسامته البريئة ولهجته الهجينة الساخرة. أُزيل المبنى عام 1964 من قبل محافظ البصرة آنذاك ويُقال إنَّ من إسباب الإزالة اسم الساعة الذي عُدّ أجنبياً.
٨. العَشّار اسم أحد الأحياء العريقة في مدينة البصرة الحديثة كان يمثّل المركز التجاري للمدينة خلال النصف الأول من القرن العشرين وفيه نهر العشّار الذي يتفرع من شط العرب ليقسم المدينة طولاً وعلى جانبيه القصور والأسواق والفنادق والبساتين، وتتفرع منه قنوات مائية كثيرة. تشير إحدى الفرضيات إلى أنَّ العشار يمثل موقع (الأبلّة) وهي بلدة قديمة يرد ذكرها في المصادر التاريخية بوصفها إحدى قصبات البصرة القديمة ويختلف المؤرخون اليوم في تحديد موقعها. لتفاصيل أكثر حول الموضوع يمكن مراجعة المقال الموسوم: “تحديد موقع مدينة الأبلّة” لأمل عبد الحسين السعدي المنشور في مجلة سومر، المجلد 53، ص 339، بغداد.
٩. السائد في أصل تسمية نهر العشار نسبتها إلى اجتماع العشّارين على صدر النهر لأخذ الأعشار من السفن والمارة وقد صادفني رأي مُخالف لما تقدم لكن من دون تقديم تبرير. يمكن مراجعة مجلة لغة العرب، البصرة، ص 199، الجزء 3، السنة 6، مطابع الأديب، بغداد 1928.
١٠.ستُنشَر تفاصيل البحث مستقبلاً في مقال مستقل.
١١. في أريافنا تُستعمل لفظة (تعشير) للحيوانات التي تحمل بعد السفاد فتوصف البقرة الحامل بأنها معشّرة أي التي حملت برعاية عشار، وقد لاحظ الباحث أولبرايت “أنَّ هذا الاصطلاح ذاته (عشاريم) ورد في كتاب “التثنية” من العهد القديم العبري للدلالة على تسافد القطعان.
يوسف الحوراني، البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم، دار النهار للنشر، بيروت، 1978، ص 264..
والأمر ذاته ما يزال سارياً في أرياف جنوب العراق حيث “أن كلمة معشّرة موجودة أيضاً، وتعني الجاموسة أو البقرة التي تلقت التلقيح من الفحل ولم تظهر عليها آثار الحمل. أما حين تظهر عليها آثار الحمل فهي ماخض، وحين يتقدّم حملها وتوشك على الولادة فلها تسميتان: مْنَجّر، وحاطّة، بمبم ساكنة في كلمة مْنجّر” وقد زودنا بهذه المعلومات الأستاذ الأديب سلمان كيوش بعد أن تاكدت له من أكثر من مصدر.
وفي تفسير ابن كثير، مثلاً، فان كلمة عِشار التي ترد في الآية (4) من سورة التكوير:{وإذا العِشارُ عُطّلت} تُقرن بمعنى العاشر وتُفسّر على الصيغة الآتية:” العِشار من الإبل وهي خيارها، والحوامل منها التي قد وصلت في حملها الى الشهر العاشر”.
والمُلاحظ مما تقدّم أنَّ الآراء تجمع على ربط الكلمة بالزواج والحمل.
١٢. واسطة نقل مائي لم يعد لها وجود اليوم. يبلغ طول البلم العشاري سبعة أمتار تقريباً وعرضه في الوسط متر واحد وهو ملقوط الطرفين ومحل ركابه في الوسط ولا يصلح إلا للتنزه والعبور من جانب إلى جانب آخر من النهر ولا يسع أكثر من خمسة أشخاص وملّاحَين اثنين أحدهما في المقدمة والثاني في المؤخرة، ويسير بالدفع والجذف وليست له سارية أو دفة، وهو يمثل النموذج الأصغر في عائلة البلم بينما كانت نماذج أخرى أكبر حجماً وفيها دفّة وسارية للشراع مخصصةً لنقل البضائع.





