في الحسِّ وفي الحدس

يقظان نعمان ماهر

اللوحة للفنان الألماني August Macke أوغست ماكه

“في الحسِّ وفي الحدس تكمن صراعات النّفس وإرهاصاتها وتكمن العلَّة الغائبة ويكمن التّغيير.”

إنَّ الفلاسفة الّذين قالوا إنَّ الفنَّ معرفة حسّيّة، منذ عهد أرسطو حتى زوسكين، أكّدوا جميعهم ضرورة الانصياع المطلق للجمال في الطّبيعة. وفي عالم الفنون التشكيلية كان الحديث عن محاكاة الطبيعة مفهوماً مألوفاً إلى عهد قريب؛ إنَّ القائلين بمبدأ المحاكاة إنّما يعنون نقل شكل الطبيعة عبر التصوير -أي الرسم- وهذا ما ينطبق على الفنون الأخرى كالموسيقى والمسرح.

ولأنَّ الطبيعة لا تدخل في مضامين أفكار الفنّان وانفعالاته ولا تمنحه الكفاية من الأحاسيس التي تكتنفه  تضحي القيم الجمالية التي تتمتع بها الطبيعة قاصرة ولا يمكن التّعاطي معها سواءً بسواء وذلك لاختلاف الأذواق والأمزجة والثّقافات والعواطف. هنا تصبح مهمة الفنّان التعبير عن ذلك كلِّه برؤىً متباينة تحددها قدرته على التَّبصُّر والتَّأمُّل والحدس، وكلما كانت رؤيته ثاقبة كاشفة كان عمله الفني موسوماً بالإبداع والابتكار وتخطَّى القيم الجمالية التي رافقته زمناً طال أم قصر.

إنَّ فضل عقل الإنسان الفنّان إلى جانب حدسه وإحساسه أثمر عن قيم جمالية مبهرة، فانكسار الضّوء وتحلّله إلى ألوان سبعة ودراسة انعكاسه أضاف قيماً عدَّة وأصبح مستندات أساسية لفنّاني المدرسة الانطباعية الذين بإبداعاتهم اللّونيّة المبهرة أرسوَا قيماً وقناعات لم تكن تحدث في الأزمنة المنصرمة وفي عهود الفن الملتزم وعبّدوا الطريق للفنَّانين المحدثين في القرن العشرين إلى يومنا هذا.

 شيئاً فشيئاً بدأ الفنَّان يتخلَّى عن فكرة المحاكاة والتَّقيُّد بمفهوم يكون أسيراً له ولا يغادره، على أنَّ الطبيعة تبقى في المقام الأول لا تبخس حقَّ الفنّان ولاتبخل في مدّه ورفده بأشكال التّوازن والتّناغم اللذَين يستدل بهما و يبقى في المسار الصحيح.

في الحسِّ و في الحدس

قد نغفر لفنّاني القرن العشرين والذي يليه إهمالهم الشكل المألوف الثابت في مخيّلتنا ونبرِّر مغادرتهم الألوان المألوفة وسبل استخراجها وذلك لما تحقّق من تقدُّم تقنيّ مطَّرد فنكون بذلك قد اعترفنا بتجاربهم وكدِّهم الحثيث لتحقيق أعمال لم نكن نألفها من قبلُ رفضناها في البدء واحتضنّاها من بَعدُ وعددناها مقاييس تحقّقها.

هكذا فعل كبار الفنانين كبيكاسو وأوغست ماك وهنري مور وهنري ماتيس وكاندنيسكي وعباقرة آخرون تجلّت في أعمالهم الفذّة ثمرة الإلهام في خيالهم الخصب وعُدُّوا مدارس مهمة تعيد للفنانين بناء تصوراتهم الدفينة، وكانت أعمالهم مدعاة للتطور المستمر الذي نراه حتَّى يومنا هذا. قد يبدو الفن أكثر ارتباطاً بالإنسان عندما يعبّر عن التأريخ والواقع والخيال؛ الفنُّ هو الصيغة التنفيذية للحياة ومهمته تجاوز المألوف ومشاطرة الزمن وهذا من خطرات الفنان بحدسه وأحاسيسه. وتبقى الرؤية البصرية خاضعة لكل ما هو قادم وجديد وتصمد أمام المتغيرات التأريخية والواقعية والاجتماعية، ومن الخطأ أن ننادي بإتلاف اللُّقى والآثار ولوحات المتاحف على أنّها من الماضي كما فعل (المستقبليون) العام 1909، ومن الخطورة بمكان أن ندعو -كما يدعو المتزمِّتون- إلى إحراق أعمال الفن الحديث التي وصفها الصحفي موكلير بأنَّها “سطل من الألوان قُذِف بوجه المتلقِّي” عندما زار معرض (الوحشيين) العام 1905.

حينما دخلت ألوان التكنلوجيا أضحى لزاماً على الفنان أن ينصاع وينضوي تحت مفردات الفتح الجديد واشتراطاته، فالفنان شاهد على عصره لا يمكنه التخلي عنه بأيِّ حال من الأحوال، وفي ذلك أطلق الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر عبارته الشّهيرة: “الاختيار تحت صعيد الأنضواء الحر”. 

في الحسِّ وفي الحدس 

رحلتنا تبتدىء بعباقرة العصر الوسيط الذين أثرَوا عالمنا قبلاً وبعداً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فهم العمالقة وهم الأساتذة وهم الكنوز. ليوناردو دافنشي الأشهر، الذي أتحفنا بالموناليزالشهيرة أو (جيوكاندا) وبابتسامتها المثيرة للجدل، كان عالماً مخترعاً منظِّراً له الكثير من الإنجازات والمخترعات من الأجهزة والمعدّات. لقد كان بحقٍّ سابقاً لعصره و قد عاصر عملاقاً آخر هو مايكل أنجلو النَّحَّات الإيطالي الأشهر 1475-1564الذي عُدَّ بحقٍّ الصانع الأقدر الذي لا يُشَقُّ له غبار، ومن أعماله (موت كليوباترا) متسمِّمة بلدغة أفعى وعمله المذهل (موسى) الذي وصل به إلى حالة من الوجدان تجلّت فيها عبقريته حتى أنَّه ضرب أنف التمثال بعد الانتهاء منه وقال له مستصرخاً: انطق يا موسى! 

أمّا روفائيل الرّسّام المذهل فقد كان يرسم وهو مستلقٍ على ظهره كما كان يفعل مايكل أنجلو خالد الذّكر. 

يظهر أثر الكنيسة في ذلك العصر إذ وظّفت العباقرة لخدمتها فظهرت قدسية المسيحية من خلال إنجازاتهم المذهلة، فذاك الفاتيكان وتلك الكاتدرائية الأشهر في روما فضلاً عن الأعمال الخاصة بالنبلاء والمشاهير من ذلك الزّمان، و كان التّنافس على أشدّه بين الأغنياء فالعائلة التي كانت تتحكَّم بفلورنسا (آل ديتشي) تبنّت ليوناردو دافنشي ومنافساتُها تبنَّت آخرين، فأتت أعمالهم بذاك الكمال الذي يعجز التأريخ عن وصفه أو إنصافه. 

من هنا يبدأ مخاض الفنان يتجذَّر ويتأصَّل، كيف له أن يقنع عصره بعد كل ما حصل من المنجزات العلمية والتَّقدُّم التقني حتى صارت المتغيِّرات السريعة حقائق صادمة تتصدَّى له و تعاديه؟ يقول الفيلسوف الفرنسي الشّهير(روجيه غارودي/رجاء غارودي): “عندما يتحقق مستوى من التَّقدُّم التقني أعلى إلى حدٍّ كبير من المستوى البدائي تنتاب الإنسانَ مخاوفُ وعذابات لا يسبّبها عجزه عن مجاراة الطبيعة التي استطاع أن يروِّضها بشكل كبير بل عجزه عن مواجهة القوى الاجتماعيةَ التي خلقها بنفسه حتى أضحت حقائق صادمة معادية له تهدّد بسحقه؛ فالفقر والأزمات والحروب وأجهزة القمع كلُّها تؤرِّق الإنسان وتنعكس على الفنان كمرآة له.” 

يقول غارودي أيضاً: إنَّ خلق الاسطورة منذ عهد هوميروس صاحب الميثولوجيا (الإلياذة والإنيادة) حتى (دون كيشوت) الميثولوجيا الإسبانيّة عند سرفانتس ومنذ عهد (فاوست) لغوته إلى (الأمّ) لمكسيم غوركي  كلّها مصبّات لخلق الشخصية البطولية المعبّرة عن كلّ عصر يتحكّم بمصير الإنسان ومستقبله. لقد كان بيكاسو من الجسارة بمكان أن يخلّد عذابات الحرب الأهلية الأسبانية التي حدثت في زمن الدكتاتور فرانكو ويترجمها كأفضل ملحمة تناهض الدكتاتورية وتعرّي مسلكها القبيح وتكشف عن زيف ادعائها بقتلها الملايين وتشريدها الملايين. إنّها الكورونيكا الشّهيرة، الكورونيكا الّتي اتصفت بالوحشيّة في تعبيراتها. 

ونجول الآن في السّنوات الّتي اعقبت المائة عام منذ أن عرض الفنان أدوارد مانيه لوحته (أولمبيا) وحتى يومنا هذا وهي بلا ريب إحدى أهم مراحل الفن الحديث إثارة إذ لم يحدث قبلاً أن تغيّر الرسم بتلك السرعة المفرطة على يد أساتذة كبار وفنانين أفذاذ تركوا بصماتهم الواقعية قبل العام 1914 . إنَّ هؤلاء في الواقع هم الّذين تصدّوا للمشكلات الّتي أصبحت الشغل الشاغل لمن أعقبهم إلى عصرنا الراهن هذا.

 فرضت نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأربعة الأولى من القرن العشرين معالجةً مغايرة للمفاهيم التّشكيلية التي كانت معروفة آنذاك وشهدت اتجاهات بالغة التأثير واستطاعت أن تثبت كمدارس إبداعية متميزة. إنَّ كتاب (مائة عام من الرسم الحديث) الذي ترجمه الأستاذ فخري خليل يرشدنا إلى الاتجاهات جميعها وابتكاراتها الفكرية الفذّة. لقد ولد جيل الانطباعيين في المرحلة الممتدَّة بين عامَي 1830-1841، وعلى الرغم من أنَّهم كانوا يختلفون أفراداً في خلفيَّاتهم وتدريبهم وأمزجتهم تماماً كانوا كمجموعة يملكون الإخلاص والاندفاع الحاد ذاته نحو التفرّد، كلهم قدموا إلى باريس حوالي العام 1860 ونشأت بينهم زمالة صادقة في التّوِّ، وتميّزت مجموعتان في تكوينهما إحداهما في الأكاديمية السويسرية تركّزت حول بيسارو والأخرى في ستوديو(غلير) تركّزت حول كلود مونيه. كان ستوديو (غلير) يتمتع بسمعة طيبة نسبيّاً لتحرّره من الأساليب المتزمِّتة في طرائق التدريس وللأجور الواطئة التي كان يتقاضاها من الطلبة والجو الطبيعي الرائق الذي كان يحيط به فكان أن تناوب على الدراسة فيه أكثر من خمسمائة فنّان. ولم يدَّخر مونيه وسعاً للانضمام إليه برفقة عدد من أصحابه الجدد مثل بازيل وسسلي ورينوار. وقد بقي هؤلاء على صلة مستمرة بأصدقائهم الآخرين في الأكاديمية السويسرية بفضل مونيه وبازيل. في ربيع عام 1864 أغلق معهد (غلير) أبوابه نهائياً فانتقل مونيه ورفقاؤه إلى غابة (فونتين بلو) حيث شرعوا يرسمون في الهواء الطلق عن الطبيعة رأساً.

يمثل عام 1863 علامة مميزة في تاريخ الرسم ففيه لحظ كاستنياري التحوّل من (الواقعية) الدرامية التي تلعب بالعواطف إلى (الطبيعية) المتحررة، وكان ذلك مؤشراً كافياً إلى الموقع التاريخي الذي احتله مانيه وانطباعيّو المستقبل. وقد كتب كاستيناري عن اللوحات التي عرضت في (الصالون) الرسمي بباريس وحاول أن يقوّم ما وصفه ب( الاتجاهات الحقَّة التي سلكها الفن في عصره). وفي العام ذاته توفي ديلاكروا تاركاً وراءه أمثولة ثمينة للفردية والحرية الخلّاقة؛ كان تأثيره في الانطباعية كبيراً وقد وصفه سيزان بأجمل (باليت/لوحة مزج ألوان) في فرنسا وكتب بول سنياك دراسة عنه في عام 1899 بعنوان (من يوجين ديلاكروا إلى الانطباعية الجديدة).

كانت الانطباعية غزواً تدريجياً للضوء الذي أضحى يؤلف قاعدة أساسية في الرسم وكان ميدان فعلها وازدهارها المناظر الطبيعية حيث تتلاشى التحديدات في تقلُّبات الجو الحادة المتعاقبة، لكن التجربة مع الضوء واللون لم تكن القصة كلّها مع الحركة الانطباعية فقد وُلدت مشاكل عدة في الشكل والفضاء والتكوين سعى الفنّانون الانطباعيّون لإيجاد الحلول لها فكان ثمرة ذلك نشوء طريقة جديدة لرؤية العالم عزَّزت من جرأتها الموجةُ التي صاحبتها آنئذٍ بذيوع المطبوعات اليابانية وتطور التصوير الفوتوغرافي.

      

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

1 Comment

Leave a Reply