قَدْكَ اتّئبْ

اللوحة: د. كريم وحيد 

الشّاعر الألمعيٌّ أبو تمّام حبيب بن أوس بن الحارث الطّائيُّ المولود في مدينة جاسم  إحدى قرى حوران في سوريا في العام 188للهجرة/803 للميلاد والمتوفّى في مدينة الموصل في العراق في العام 231 للهجرة /845 للميلاد- واحد من فحول الشّعراء الّذين جدّدوا في الغرض والوصف والاستعارة والزّخرفة والمعنى دون أن يخرجوا عن المبنى لذا سارت بشعره الرّكبان و بقي إرثه الشّعريّ خالداً في ديوان العرب.

في واحدة من قصائده الجياد يقول أبو تمّام:

 قَدْكَ اَتَّئِبْ أربَيتَ في الغُلواءِ

كَم تَعذِلونَ وَأَنتُمُ سُجَرائي

لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني

صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي

وَمُعَرَّسٍ لِلغَيثِ تَخفِقُ بَينَهُ

راياتُ كُلِّ دُجُنَّةٍ وَطفاءِ

نَشَرَتْ حَدائِقَهُ فَصِرنَ مَآلِفاً

لِطَرائِفِ الأَنواءِ وَالأَنداءِ

فَسَقاهُ مِسكَ الطَلِّ كافورُ الصِّبا

وانحَلَّ فيهِ خَيطُ كُلِّ سَماءِ

عُنِيَ الرَّبيعُ بِرَوضِهِ فَكأنَّما

أَهدى إِلَيهِ الوَشيَ مِن صَنعاءِ

صَبَّحتُهُ بِسُلافَةٍ صَبَّحتُها

بِسُلافَةِ الخُلَطاءِ وَالنُّدَماءِ

بِمُدامَةٍ تَغدو المُنى لكُؤوسِها

خَوَلاً عَلى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ

راحٌ إِذا ما الرّاحُ كُنَّ مَطِيَّها

كانَت مَطايا الشَّوقِ في الأحشاءِ

عِنَبِيَّةٌ ذَهَبِيَّةٌ سَكَبَتْ لَها

ذَهَبَ المَعاني صاغَةُ الشُّعَراءِ

أَكَلَ الزَّمانُ لِطولِ مُكثِ بَقائِها

ما كانَ خامَرَها مِنَ الأَقذاءِ

صَعُبَتْ وَراضَ المَزجُ سَيِّءَ خُلقِها

فَتَعَلَّمَتْ مِن حُسنِ خُلقِ الماءِ

خَرقاءُ يَلعَبُ بِالعُقولِ حَبابُها

كَتَلَعُّبِ الأَفعالِ بِالأَسماءِ

وَضَعيفَةٌ فَإِذا أَصابَتْ فُرصَةً

قَتَلَت، كَذَلِكَ قُدرَةُ الضُّعَفاءِ

جَهمِيَّةُ الأَوصافِ إِلّا أَنَّهُم

قَد لقَّبوها جَوهَرَ الأَشياءِ

وكأَنَّ بَهجَتَها وَبَهجَةَ كأسِها

نارٌ و نورٌ قُيِّدا بِوِعاءِ

أَو دُرَّةٌ بَيضاءُ بِكرٌ أُطبقَت

حَمَلاً عَلى ياقوتَةٍ حَمراءِ

و مَسافَةً كَمَسافَةِ الهَجرِ اِرتَقى

في صَدرِ باقي الحُبِّ وَالبُرَحاءِ

بِيدٌ لِنَسلِ العيدِ في أُملودِها

ما ارتيدَ مِن عيدٍ و مِن عُدَواءِ

مَزَّقتُ ثَوبَ عُكوبِها بِرُكوبِها

وَالنّارُ تَنبُعُ مِن حَصى المَعزاءِ

  أنكر بعض معاصري الشّاعر عليه أنّه في مطلع القصيدة جاء بكلمتين (قَدْكَ اتّئبْ) دون فواصل و كأنّهما كلمة واحدة على وزن (مُسْتَفْعِلُن) ثمّ أتبعهما (أربيتَ في الغُلواء) جامعاً الكلمات الخمس في مصراع واحد* وهو استخدام لم يسبقه إليه أحد، غيرَ أنَّ هذه كلّها ألفاظ صحيحة فصيحة مستعملة فى كلام العرب شعراً ونثراً وإنَّ بناء البيت جرى على ما جرت عليه العرب في أشعارها، ونحن إذ نقرأ هذا المطلع اليوم نلمس جمالاً ورِقّة وجزالة لا تعسُّف فيها ولا هُجنة.

  كما جاء أبو تمّام في أبياته هذه بالكثير من الوصف والتّشبيه واستيلاد المعاني واستخدام الأضداد بطرازٍ لم يكن مألوفاً أو مسموعاً من قبل؛ ممّا عابوا عليه تعبير (ماء المُلام) الّذي ابتكره، فأرسل إليه بعض أهل المجانة قارورة وقال له: ابعث في هذا قليلاً من ماء المُلام، فكان جواب أبي تمّام: لا أبعثُه حتّى تبعثَ لي بريشة من جناح الذُّلِّ، واستُحسنَ تشبيه أبي تمّام فالطائر إذا وهنَ بسطَ جناحَه وخفضَه حتّى يلقي بنفسه على الأرض والإنسان إذا خضع واستكان طأطأ من رأسه وخفض من يديه -وهما جناحاه- فحسُن عند ذلك جعل الجناح للذُّلِّ وصار تشبيهاً مناسباً.

 هذان مثالان على ما جاء به الأوّلون من تجديد لم يهدم بناء البيت الشّعريّ بدعوى التّحرّر من قيود العَروض ولا جاء بقول أعجميٍّ وحشيّ متحذلق، وشتّان بين تجديدٍ يحترم خصائص اللّغة العربيّة والأدب العربيّ وحداثةٍ تستعير من الغرب ما لا تستطيع تطويعَه ليستعربَ فتجهد نفسها سعياً إلى تطويع اللّغة وكسر ما بُني عليه الشّعر العربيّ منذ أن أجرى الله العربيّة على لسان خلقه.

 المصراع نصف بيت الشّعر. يتألّف البيت الشّعريّ من مصراعين هما الصّدر والعجز.∗

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply