إنكلترا والحِراك الثقافي العربي

BBC Arabic

إياد أبو شقرا.

أعتقد أنكم تشاركونني الرأي في أن الخوض بموضوع الحراك الثقافي العربي في بريطانيا، حيث أقيم، يحتاج إلى غير محاضرة، ولعله يغطي ساعات عديدة قبل أن نفيه حقه. كذلك سيكون الجزء الأول من المحاضرة توثيقيًا مكتوبًا، بينما سيكون الباقي جولة تفصيلية عامة، مع أملي بالتوسع أكثر عبر التفاعل مع أسئلتكم في جزء الأسئلة والأجوبة.

لا يخفى عليكم أن العلاقات بين بريطانيا وعالمنا العربي علاقات ضاربة في القدم، لها تشعبات وامتدادات، قد تبداً من زيارات الحجيج الأوروبيين إلى الديار المقدسة في فلسطين ودور الجزر البريطانية في “حروب الفرنجة” (المسماة غربيًا بـ”الحروب الصليبية”) ولا تنتهي بتشابك العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية.

ومن ثم، فما أود قوله هو أنَّه لا بريطانيا في علاقاتها الثقافية مع عالمنا العربية قوة عادية، ولا التأثير البريطاني في مجتمعاتنا العربية كان تأثيرًا عابرًا ومحصورًا بمرحلة زمنية أو مساحة مكانية محدودتين.

وبناءً عليه أزعم أنه لا بد من تناول المناخ الثقافي البريطاني – العربي في الاتجاهين: الاتجاه الأول يتصل بالاتجاه البريطاني شرقًا، والثاني التوجه العربي غربًا.

لعل الحجيج الأوروبيين إلى الديار المقدسة كانوا في طليعة مَن درسوا الشرقين الأدنى والأوسط وكتبوا عنهما وجالوا في  أصقاعهما. ورحلات الرحالة إلى المشرق والصور التي نقلوها معهم إلى الغرب كانت من أبرز ملامح التلاقح والتفاعل بين المشرق العربي والغرب البريطاني.

ولا بدَّ هنا من التمييز بين دوافع رواد الانفتاح الغربي على شرقنا أنفسهم. فمن هؤلاء من كان من الإكليروس وأفراد الجماعات التبشيرية، ومنهم مَن كان من الموظفين السياسيين والعسكريين، ومنهم أيضًا جماعات وأفراد من الرومانسيين الحالمين الذين فتنوا بأسرار الشرق وسحره بعد كل ما قرأوه عنه. وفي الكثير من الأحيان كانت هذه الدوافع تتداخل وتتدخل المصالح السياسية لتجنّد هذا الخبير أو ذاك بفضل إلمامه باللغة العربية والتراث العربي أو معرفته الوثيقة بجغرافيا المناطق العربية. وبالفعل، أسهم عدد من هؤلاء وأولئك في رسم خرائط الشرق الأوسط وكياناته من أمثال السير مارك سايكس في بلاد الشام و”الخاتون” غيرترود بل في العراق. وطبعًا لا ننسى تي إي لورنس “لورنس العرب” في الحرب العالمية الأولى.

الجامعتان البريطانيتان العريقتان أوكسفورد وكمبريدج – اللتان أبصرتا النور في القرن الثالث عشر الميلادي– هما أقدم المراكز التي خرّجت المستشرقين ورجال الدين البريطانيين الذين زاروا المشرق وكتبوا عنه وترجموا آثاره. ولئن كانت أوكسفورد قد أدّت دورًا ضخمًا في توثيق التراثين العربي والإسلامي جنبًا إلى جنب مع مراكز تنوير وطباعة أوروبية كبرى كباريس ولايبزيغ ولايدن وبرلين- فإن كمبريدج خرّجت مثل شقيقتها بعض أعلام الباحثين والمستشرقين، بينهم آرثر جون آربري مترجم القرآن الكريم إلى الإنكليزية عام 1955.

وبعد هاتين الجامعتين القديمتين العريقتين سُرعان ما اهتمت بالشرقين الأدنى والأوسط جامعات أخرى، منها جامعات اسكوتلندية قديمة تلت أوكسفورد وكمبريدج في تاريخ التأسيس وعلى رأسها سانت آندروز وإدنبره. بيد أن القرن الـتاسع عشر شهد نقلة نوعية في التعليم العالي في إنكلترا التي ظلت حتى ذلك القرن مكتفية بجامعتيها العريقتين، مقابل أربع جامعات في اسكوتلندا وجامعة خامسة في أيرلندا أسست كلها قبل عام 1600م.

النقلة النوعية هذه التي حدثت مع اتساع رقعة الأمبراطورية البريطانية أثمرت واقعين اثنين: الأول تزايد عدد الجامعات، والثاني تطوّر تخصصاتها وتوجهاتها التطبيقية وبالتالي قاعدة جذبها.

خلال القرن الـتاسع عشر أسست في إنكلترا مجموعة من الجامعات التي دعيت بجامعات “الآجرّ الأحمر” غطت حاجات المدن الصناعية الكبرى مثل مانشستر وبرمنغهام وليدز وشيفيلد وبريستول. وبفضل التخصصات التطبيقية والعملية في هذه الجامعات الكبيرة، فإنها غطت نسبة عالية من حاجات البلاد. أما الجامعة الأبرز من هذا الجيل – وهي ثاني أقدمها بعد جامعة درام – فكانت جامعة لندن.

هذه الجامعة كانت لها الريادة في توسيع رقعة التخصصات وقاعدة الجذب لأنَّها أسست عام 1836 كي تؤدي مهمة هيئة لمنح  الشهادات وإجازتها للكليات الجامعية المنشورة على مستوى الأمبراطورية كلها، بما في ذلك المستعمرات الأفريقية والآسيوية. ولكن في ما يخص بحثنا اليوم، فإنَّ من أهم مكوّنات هذه الجامعة “معهد الدراسات الشرقية والأفريقية الذي أسس عام 1916 ليؤمن حاجات وزارات الخارجية والمستعمرات والدفاع والأجهزة المتخصصة بخبرات إدارية وسياسية في شؤون آسيا وأفريقيا. وحقًا، بات هذا المعهد واحداً من أهم مراكز دراسات آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط في العالم، وهو يدرّس ما لا يقل عن 40 لغة آسيوية وأفريقية.

في حقل التربية والتعليم أيضًا لا بد من الإشارة إلى أن المدارس البريطانية (ضمن مدارس الإرساليات الأجنبية المختلفة) التي أسست في المشرق العربي – وبالذات في مصر وفلسطين ولبنان والعراق – أمّنت لبِنةً مُهمة لجسر التلاقي الثقافي. ولم يلبث هذا الجسر أن أسهم في سفر كثيرين من أبناء العالم العربي اللامعين للدراسة في بريطانيا. وجلّ هؤلاء عادوا لتبوء مواقع سياسية وإدارية بارزة في أقطارهم مثل محمد محمود باشا والدكتور أحمد حسن الزيات في مصر، ومحمد حديد في العراق، وأنور نسيبة وخلوصي الخيري في فلسطين والأردن، ونجيب علم الدين في لبنان.

في مجال مواز، كان للإعلام دوره الكبير في رفد العلاقات الثقافية العربية، ولعل المحطتين الأبرز على هذا الصعيد كانتا:

أولًا، تأسيس القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) عام 1938، وهو أهم أقسام الخدمات الإذاعية للهيئة بلغة غير الإنكليزية.

وثانيًا، ظاهرة الإعلام العربي المُهاجر، وبالذات في النصف الثاني من عقد السبعينات. وهو ما حوّل لندن – وإلى حد ما باريس أيضًا – إلى عاصمة للثقافة العربية والإعلام العربي المكتوب والمرئي والمسموع.

القسم العربي في “البي بي سي” كان عامل تعريف مهمًا جدًا على صعيد ترويج مناحي مختلفة من الحياة اليومية البريطانية، من تعليم اللغة الإنكليزية إلى خلق متابعين للرياضة البريطانية ككرة القدم وكرة المضرب في البيئات العربية المنفتحة. بل إن هذا القسم استفاد من استقرار الكثير من الكفاءات الإعلامية والثقافية العربية في بريطانيا، سواءً بعد نكبة فلسطين التي أتاحت مجال التوظيف لإعلاميين فلسطينيين لغتهم الثانية الإنكليزية، أو بعد الخضَّات والثورات في أقطار عربية، كالعراق ومصر والسودان، التي قدم منها هؤلاء أساسًا إما كلاجئين سياسيين أو كطلبة جامعيين يتابعون دراساتهم العليا.

وبطريقة أو بأخرى، وفّر الوجود الثقافي والإعلامي العربي في بريطانيا، وبالذات في لندن، المحفّز للمحطة الثانية، أو قل الظاهرة الثانية، التي تمثلت بالإعلام العربي المهاجر.

في الحقيقة، بريطانيا ما كانت يومًا – بالمعنى الدقيق للمصطلح – “بلد هجرة” أو “وجهة اغتراب” كحال الأميركتين، على سبيل المثال. ومن ثم، لم يكن في بريطانيا ما يوازي زمنيًا ونشاطًا “الرابطة القلمية” في أميركا الشمالية و”العصبة الأندلسية” في أميركا الجنوبية. ولم تكن فيها صحف كبرى مؤثرة مماثلة لصحف العرب في الأميركتين.

غير أن استمرار حالات الاضطراب الأمني، والاضطهاد السياسي، والتضييق الإعلامي، وصولًا إلى الحرب اللبنانية (1975 – 1990) التي هزّت ما كان واقعيًا أهم منبر إعلامي وثقافي حرّ في العالم العربي، عوامل أوجدت المناخ المؤاتي للهجرة الإعلامية.

هذا ما حدث في النصف الأول من عقد السبعينيات من القرن الماضي. وكان من أوائل الصحف التي أسّست في لندن إبان تلك الفترة المبكرة صحيفة “العرب” للحاج أحمد الصالحين الهوني وهو سياسي ليبي معروف، وصحيفة “المنار” للصحافي والناشر السوري رياض نجيب الريس. غير أن الزخم الأكبر جاء مع تأسيس الشركة السعودية للأبحاث والتسويق صحيفة “الشرق الأوسط” في صيف 1978، وتلاها بعد حين تأسيس مركز تلفزيون الشرق الأوسط “إم بي سي” (المملوك من شركة سعودية أيضًا). وعلى الأثر كرّت السبحة، وتزايد عدد المطبوعات (صحفًا ومجلات) والقنوات التلفزيونية والإذاعية، بل تحوّلت الشركتان السعوديتان الآنفتا الذكر إلى مجموعتين إعلاميتين عملاقتين على مستوى العالم العربي، وباتتا تملكان الكثير من المطبوعات والقنوات ومنصات الإعلام الإلكتروني الحديث، وإن كانت معظم تلك المطبوعات والقنوات موجودة الآن خارج بريطانيا.

الأوضاع المضطربة عربيًا، مقابل الفورة النفطية أدت إلى تزايد الاستثمارات العربية في الخارج، ومنها بريطانيا، حيث تعد لندن واحدة من أهم المراكز المالية. كذلك نما عدد المؤسسات المالية والتجارية، وغدت شوارع لندنية أشبه ما تكون بأسواق عربية عملاقة، مثل شوارع إيدجوير رود وكوينززاي وإيرلز كورت وغيرها، بالتوازي مع النمو المُطّرد لحجم الجاليات العربية البريطانية، التي استقر كثيرون من أبنائها في مدن عدة من بريطانيا وليس في لندن فقط.

وكان من الطبيعي، في ضوء هذا الواقع تأسيس وأندية وجمعيات ثقافية العديد منها ما زال ناشطًا، على الرغم من أنَّ نشاطها شهد بعض التراجع مقاربة بالسنوات العشر السابق، لأسباب مختلفة منها تراجع التمويل. كذلك أسست الجاليات المهاجرة مدارس ومنتديات ومتاجر، وامتلك أثرياء منها أندية رياضية كبرى. وبطبيعة الحال فرضت المطابخ العربية وجودها على الذائقة البريطانية، واليوم لا تكاد تخلو مدينة بريطانية كبرى من مطاعم عربية.

المراجع التاريخية تشير إلى الهجرة اليمنية إلى جنوب إقليم ويلز، وبالذات مدينة كارديف عاصمة الإقليم، كانت على الأرجح أولى الهجرات. وبعدها على نطاق، ربما كان أضيق، بدأ استقرار بعض العرب – ولا سيما من السوريين واللبنانيين – في محيط مدينة مانشستر في شمال غرب إنكلترا بسبب تجارة النسيج، وبالأخص حلج القطن وتصنيعه.

ثم سجلت بريطانيا نوبات استقرار عربي محدودة نسبيًا في مرحلة ما بين الحربين العالميتين وما بعدهما. ثم في مرحلة ما بعد  الحرب العالمية الثانية، سجلت هجرات فلسطينية لا بأس بها بعد نكبة فلسطين وكانت مدارس الإرساليات البريطانية والأميركية (ومنهما الكويكرز/الفريندز) في فلسطين عاملًا مساعدًا. وفي المقابل، استقر في بريطانيا أيضًا عدد لا بأس به من يهود العراق الذين لم يرغبوا، بعد معاناتهم “مع الفرهود”، بالهجرة إلى إسرائيل بل قصدوا بريطانيا. وفي حين كان من هؤلاء أسر ثرية صناعية ومصرفية وتجارية –اشتهرت على مستوى العالم – مثل عائلات خضوري وزلخا وساعتشي وساسون وشماش، كان بين بهود العراق الوافدين إلى بريطانيا أفراد مثقفون شغوفون بالثقافة والموسيقى العربية من أمثال المؤرخ مير بصري والخبير الموسيقي حسقيل قوجمان.

هنا لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن علاقات بريطانيا مع العراق كانت وثيقة ومهمة عبر كثير من المحطات التاريخية. وبين هذه المحطات تزايد ظاهرة اللجوء السياسي العراقي إلى بريطانيا، ولا سيما بعد ثورة 1958 التي أنهت الحكم الملكي في بغداد، ثم إبان فترة حكم الرئيس الأسبق الراحل صدام حسين.

واللافت في شأن حقبة الرئيس صدام حسين أنها من ناحية شهدت استثمار حكمه في كثير من المشاريع والنشاطات الإعلامية والثقافية والاستثمارية التي تتراوح بين تأسيس المطبوعات ودعمها ماليًا ورعاية الأندية والمنتديات الثقافية في بريطانيا وإلى حد ما فرنسا، ومن ناحية معاكسة، تسببت في موجات لجوء سياسي – ثقافي واسعة النطاق حوّلت لندن إلى إحدى معاقل المثقفين من مختلف الطوائف والمذاهب الذين ناهضوا نظام حكمه حتى عام 2003.

السوريون واللبنانيون الذين عاشوا بخلاف العراقيين والفلسطينيين والمصريين تحت الانتداب الفرنسي تركوا بصماتهم أيضًا في بريطانيا حيث وجدوا. وهنا أشير إلى اثنتين من الشخصيات الثقافية السورية/اللبنانية اللامعة هما الشاعر والسفير عمر أبو ريشة والأكاديمي الكبير ألبرت حوراني اللذين جمع بينهما تراث صناعة النسيج في مانشستر، فالأول -وهو ابن حلب – جاء إلى مدينة مانشستر لدراسة هندسة النسيج في جامعتها بعد تخرجه في الجامعة الأميركية في بيروت، و أمّا حوراني فقد استقر أبوه فضلو حوراني في مانشستر وعمل في مجال النسيج بعد تحوّله من المذهب الأرثوذكسي إلى المذهب البروتستانتي، ولقد درس ابنه حبيب (أو ألبرت) في مدرسة بروتستانتية خاصة بضواحي لندن قبل دراسته في أوكسفورد.

وفيما بعد درس وعاش وتوفي في بريطانيا أدباء وساسة ومثقفون ومشاهير كبار من السوريين واللبنانيين، منهم على سبيل المثال لا الحصر نزار قباني ورنا قباني وخليل حاوي وأديب نصّور ورشاد جبري وعبد الكريم رافق وفاخر عاقل وسيسيل حوراني وغيرهم كثيرون

أما فيما يخصّ مصر، فكان هناك مدّان أساسيان في تنامي حجم الوجود المصري. المد الأول كان بعد ثورة 1952 والتأميمات التي أعقبتها وأدت إلى مغادرة كثيرين أرض الكنانة، كان جلُّهم من الجاليات غير المصرية. والمد الثاني جاء بعد “الانفتاح السياسي والاقتصادي” الذي قاده الرئيس الأسبق الراحل أنور السادات وأنتج طبقة من المستثمرين ورجال الأعمال الذين نشط كثيرون منهم في بريطانيا. والمفارقة، أن هؤلاء وكذلك عددًا من معارضيهم السياسيين – من اليساريين والقوميين – كانت لهم وما تزال في لندن منتدياتهم الأدبية ومنابرهم السياسية الخاصة.

وأخيرًا، نوبات الاضطراب والحكم العسكري في السودان، كانت بدورها عنصرًا طاردًا لعشرات بل مئات من المثقفين السودانيين الذين استقروا في لندن، ولعل أشهرهم الأديب الكبير الراحل الطيب صالح، وحاليًا الإعلامية المثقفة اللامعة زينب البدوي. 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply