الترياني الجميل

جابر خليفة جابر مع الترياني الجميل

جابر خليفة جابر

من تمثال رود ريغو دي تريانا وسط تلك الحديقة الصغيرة وهو يعتلي صارية السفينة سانتا ماريا ويشير مع صيحته: الأرض الأرض، يطيب لي أن أبدأ، ثم لي أن أتقدم أو أتأخر، فمع اهتمامي بزيارة اشبيلية وما أعرفه عن تأريخها وما هي عليه لكنني مهتم بشكل خاص به بالبحار الموريسكي ذاك وكنت قاصداً لأزوره، أزور تمثاله، وأقف عند ضريح حبيبته وزوجته كارمن ابنة كرستوف كولمبس، وكلاهما، كارمن وضريحها، متخيلان، خلقتهما ليكونا قريبين منه يؤنسان وحدته، فقد ورد ذكرهما في روايتي ( مخيم المواركة) لكن صاحب التمثال رجل حقيقي، أندلسي من تريانا، وتريانا هي الشطر أو الصوب الغربي من مدينة اشبيلية التي تقوم على ضفتي نهر الوادي الكبير، وهذا النهر هو صلتها بالبحر، يصب في المحيط الاطلسي غير بعيد عن جزيرة طريف ومضيق جبل طارق عند سواحل جنوب غرب اسبانيا.

وكما يعتز ابن الرصافة البغدادي برصافته، والكرخي البغدادي بكرخيته، يعتز أهل الصوب الغربي من اشبيلية بتريانيتهم ويحبون أن يُنسبوا وينتسبوا لها، وهكذا حمل رودريغو لقبه فكان اسمه رود ريغو دي تريانا، أي رودريغو الترياني بالعربية، ولاشك أن رود ريغو هذا كان اسمه المثبت في الكنيسة بعد صدور القرارات الاسبانية بتنصير جميع الأندلسيين بالقوة، أما اسمه العربي الأندلسي فغير معروف وقد قرأت معلومة غير مؤكدة أنه هاجر إلى المغرب وأسلم هناك وحمل اسم عبدالله، ومن المعروف أن الأندلسيين الذين عاشوا هم وابناءهم تحت حكم الاسبان أُمروا باعتناق المسيحية ومنحوا أسماء اسبانية لكنهم قاوموا ذلك بالسر واحتفظوا بأسمائهم العربية وبلغت مقاومتهم لمسخ هويتهم حدا أنهم ابتكروا لغة جديدة يسميها الاسبان الخميادو أي الأعجمية لأنهم لم يكونوا يفهمونها وهي لغة اسبانيا في ذاك الوقت ذاتها كالقشتالية أو الاراغونية أو البرتغالية لكنها مكتوبة بحروف عربية، وأهمية مخطوطات تلك اللغة المبتكرة( الخميادو ) الآن أنها تعرف الاسبان بكيفية نطق كلمات لغتهم غير المستخدمة أو المنقرضة بالإضافة إلى ما تكشفه من وقائع ذاك الزمان القاسي على الأندلسيين وما تعرضوا له من معاناة وبطش من قبل محاكم التفتيش المرعبة. وفي روايتي ( مخيم المواركة) مَنحت رودريغو المولود سنة 1469 في اشبيلية (أو ولبة) اسم حامد.

وكان حامد أو رودريغو أو عبدالله من سكان حي تريانا وشارك في رحلة كرستوف كولمبس الأولى 1492 وهو بعمر 23 عاماً وهو أول من رأى الأرض الجديدة ( جزر الملوك أو جزيرة البهاما) أول جزء مكتشف من القارتين الأمريكتين، وكان كولمبس قد وعده بمكافأة ثم لم يَفِ بوعده، وخلال تلك الرحلة وبينما هو في البحر المحيط تعرض أبوه للعقوبة من قبل محاكم التفتيش وتم أحراقه حياً شهيد إنسانيته إذ كانت جريمته هي مساعدة يهودي لجأ إليه هارباً ومتخفياً من بطش تلك المحاكم سيئة الصيت.

ولي أن أقف هنا أمام أسباب مشاركته وهو بعد شاب صغير في تلك الرحلة مجهولة العواقب وعالية المخاطر حينها وأحتملُ أن رودريغو حاول النجاة بنفسه والابتعاد عن خطر البقاء في اسبانيا تحت ظل محاكم التفتيش شأنه شأن الكثير من الأندلسيين والموريسكيين الذين تطوعوا لركوب البحر علهم يجدون فرصة للنجاة بأنفسهم من حفلات التعذيب التي كانت تتربص بهم كل لحظة، ومنهم من حُكم عليهم بالعمل بالسخرة على ظهور سفن الأساطيل الاسبانية واستقر به المطاف في بلدان الأمريكتين خاصة الخاضعة للسيطرة الاسبانية، وتوجد الآن في بلدان أمريكا اللاتينية خاصة العديد من المقابر المتجهة إلى الشرق أو صوب الكعبة والعديد من الآثار الأندلسية وبعضها يحمل آيات قرآنية وكتابات عربية إسلامية.

لا أدري إن كانت رحلة كولمبس قد انطلقت من ميناء اشبيلية على ضفاف نهر الوادي الكبير أم من ميناء بالوس على المحيط الأطلسي كما قرأت، لكن في الحالتين فإن اشبيلية هي المحطة الأولى لتلك الرحلة التأريخية، ففي اشبيلية أعد كولمبس خرائطه ومنها، من حي تريانا الغربي كان رودريغو دي تريانا، ويصل نهر الوادي الكبير اشبيلية بالبحر، ومن هذا البحر أو المحيط الأطلسي تسللت قوارب وسفن الغزاة الفايكنغ أو المجوس كما يسميهم الأندلسيون لأنهم كانوا يكثرون من إشعال النار، وهاجموا اشبيلية فانتصر عليهم الأندلسيون ولقنوهم دراسا جعلهم لايعيدون المحاولة مرة أخرى، والفايكنغ هم سكان شبه جزيرة اسكندنافيا ( فنلندا والسويد والنرويج ) الذين اسقطوا روما والامبراطورية الرومانية وغزوا انكلترا وما زالت الأسر الملكية حتى الآن منهم ومنها الأسرة الملكية البريطانية، فقد غزا الفايكنغ انكلترا من منطقة النورماندي الفرنسية بعد قرنين من غزو المسلمين عرباً وأمازيغ لشبه جزيرة ايبيريا ( اسبانيا والبرتغال ) لكن الفايكنغ أو النورمانديين أولئك لم يواجهوا بحرب استرداد وحملات صليبية وتحشيد أوربي لسبب بسيط وهو أنهم ذابوا في دين البلاد التي احتلوها أي المسيحية، بينما كان الأندلسيون مسلمين، بل حدث العكس إذ أن سكان البلاد الايبيرية ذاتها تحول أغلبهم إلى الإسلام وصاروا هم الجزء الأكبر من الشعب الأندلسي متنوع الأعراق، وبقي الأندلسيون على اختلاف قومياتهم متمسكين بهويتهم الإسلامية حتى تحت قهر وبطش وعذابات محاكم التفتيش الرهيبة بل وحتى اليوم ثمة ظاهرة تسمى بالمتحولين وهي تخلي الآلاف من الاسبان ذوي الأصول الأندلسية الموريسكية والاسبانية أيضاَ عن ديانتهم وتحولوا إلى الإسلام.

لذا فإن الظن بأن حرب الاسترداد طويلة الأمد والتي انتهت بسقوط غرناطة بيد فرناندو وايزابيلا ملكي أراغون وقشتالة المتحدتين، هي حروب تحرير ذات دوافع وطنية أو قومية خطأ كبير، إذ أن القسم الأكبر من الشعب الأندلسي هو من أصول اسبانية لكن الحقيقة هي أنها حروب دينية ذات خلفية صليبية استعرت خاصة بعد سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين الاتراك سنة 1453.

ونعود إلى صديقي رودريغو أو حامد الترياني ونحاول قراءة مشاعره يوم أبحر مع كولمبس، كان الملكان الكاثوليكيان في معسكر سانتافي وغرناطة محاصرة وعلى وشك السقوط حين عهدا لكولمبس وفوضاه بتلك الرحلة ولاشك أن رودريغو دي تريانا قد سمع بقصة سقوط اشبيلية سنة 1248 بعد حصار قاس فرضه الجيش القشتالي ومعه تابعه او حليفه التابع الجيش الغرناطي المسلم ! ومن المؤكد أن مشاركة غرناطة بني الأحمر في حصار وسقوط اشبيلية عار تأريخي وذكرى موجعة لكل قلب أندلسي فكيف إذا كان هذا القلب اشبيلياً، ولنا أن نتخيل مشاعر بحارنا وهو يغادر ميناء اشبيلية ونهر الوادي الكبير إلى ميناء بالوس حيث أقلعت سفن كولمبس ولا شك أنه لم يكن يوم رأى الأرض الأمريكية يعلم أن غرناطة قد سقطت وأن أباه قد أحرق حياً، وأن يوم رؤيته للأرض في 12 اكتوبر 1492 سيكون عيداً في العديد من البلدان الأوربية والأمريكية ! ولست متأكداً من صحة المقالات التي تقول أن كولمبس سرق منه مكافأته المقررة ( عشرة آلاف مرابطي/ المرابطي عملة سادت في الاندلس واسبانيا منذ عهد دولة المرابطين) وزعم كولمبس كما قرأت أنه هو أول من رأى وليس دي تريانا، وأن المحكمة الاسبانية التي لجأ اليها رودريغو حكمت لصالح كولمبس.. 

روديغو هذا الذي عانى من مصادرة جهوده وإبداعه من قبل مسؤوله أو مديره كولمبس ستستمع روحه بشغف لاوبرا زواج فيغارو حيث يناضل الحلاق فيغارو ضد سلطة واستبداد سيده الذي يريد بحكم العرف السائد ان ينام مع زوجة فيغارو قبل عريسها، وموزارت ذاته عانى هو الآخر من استبداد مسؤوله ومديره في البلاط النمساوي الموسيقي ساليري الذي ضاق ذرعا بإبداعات موزارت وعبقريته الموسيقية ودس له السم كما تقول قصة للكاتب الروسي بوشكين، بل أن الكونت بومارشية مؤلف مسرحيتي حلاق اشبيلية وزواج لوفيغارو هو الآخر تعرض لمصادرة جهوده من أحد مدرائه والقائمة تطول ولاشك أن بحارنا الموريسكي الترياني الجميل سيستحضر روح زرياب علي بن نافع البغدادي الهارب الى الأندلس من استبداد استاذه اسحاق الموصلي، كل تلك الأرواح المبدعة المعذبة ستستحضرها روحه وهو يراني اشاهد فيديو من تلفوني يعرض موسيقى الافتتاح لاوبرا حلاق اشبيلية بمشاركة من زرياب الجديد نصير شمة وعزفه الساحر على العود، وكنت حينها استمع لها وأشاهدها وأنا في اشبيلية على كرسي الحلاق المغربي الفاسي مصطفى بينما كان دليلي في اشبيلية المهندس الفاسي حسن يقوم بتصويرنا جميعاً، أنا وحلاق اشبيلية مصطفى ونصير شمة وفرقة الاوبرا كلها. 

وكأننا كنا نجتمع معاً لنقول: لا لكل كاتم صوت، كما قال رسام الكاريكتير الفلسطيني ناجي العلي: كلا لكاتم الصوت، ونردد مع مؤدية الفلامنكو: أن اشبيلية أنجبت صبية جميلة فسمتها : تريانا.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply