القربان

علياء هيكل

غارقة في شرودي، يعدو الطريق أمامي كفريسة هاربة، تنطلق السيارة كسهم يشق الهواء يريد اللحاق بفريسته، تختفي الصور سريعاً من جانبي الطريق. الأشجار وكأنها تُقتلع من مغرسها بغمضة عين، الأبنية تنقلب عائدة إلى الوراء، والناس كذلك، لا شيء مستقر،  حتي أُجبرتْ سيارتي صاغرة على الوقوف لسبب غير مفهوم. تركت السائق يتفقد الأمر وترجَّلت منها لأريح قدمَيَّ المتيبستين. أخيراً هدأت الأشياء.. لعلّها توقفت هي الأخري تلتقط الأنفاس.. لم أكد أسعد بهذا الثبات وبتأملي طويلاً حتّى تسرب إلى أذني صوتها الضعيف يعبر إليَّ باكياً. لم أعرف أين هي.. تلفَّتُّ من حولي باحثة.. حتى ظننت أن صوت البكاء هذا يخرج مني.

 وجدتها قابعة منكمشة في زاوية من الطريق خائفة ترتعد. اقتربت قليلاً بحذر، فأنا أخاف الأطفال! لا أعرف السبب لكني أخافهم. ثيابها رثَّة قذرة، شعرها ناعم متسخ جفت أطرافه المغبرة، عيناها حزينتان غاضبتان زائغتان. خضب التراب وجهها الصغير ورسمت عليه الدموع آثارها، أصابع يديها الصغيرتين قذرة، قدماها المنكمشتان إليها عاريتان تغطيهما الجروح والطين.
وقفتُ مترددة خائفة من الاقتراب، هل هي ضعيفة تحتاج المساعدة فعلاً؟ اقتربت قليلاً، لم أجرؤ على لمسها، اكتفيت فقط بالانحناء إليها؛ سألتها: “ما بكِ؟”
نظرتْ في تيه وظلت صامتة تبكي. ” هل أنتِ تائهة؟ أين بيتك؟” ازداد بكاؤها. نظرت من حولي أترقَّب لعلَّ أحدهم يظهر على الطريق. ” اهدئي! لا داعٍ للبكاء. هل أنتِ جائعة؟ عطشى؟”
 أعطيتها قطعة حلوى، أَخذتْها سريعاً والتهمتها… ناولتها بعض الماء من زجاجتي، شربتْها عن آخرها. تمنيتُ لو أنَّها تركت بعضاً منه لتغتسل به، ثم ما لبثت أن عادت للبكاء ثانية.
“كنتِ جائعة وأطعمتك وعطشى وها قد شربت. ألا تتكلمين قليلاً لأستطيع مساعدتك؟”
بعد لحظات من تردد رأيته في عينيها الخائفتين نطقت، أخيراً! عرفت أنها هاربة من أهلها وجماعتها وليست تائهة كما ظننت، خائفة لا تريد العودة، وخائفة من الطريق السريع الموحش، لا تعرف إلي أين تذهب ولا إلى من.
“لماذا هربت من أهلك؟”
 “يريدون ذبحي.” قالتها بصوت خفيض أقرب للهمس.
صعقتُ ممَّا سمعت. لِمَ يذبحُ أحدهم ابنته؟ هل سيقدمونها قرباناً مثلاً؟ لا يحدث هذا إلا إرضاء لإله لا يرضى، محبٍّ للدماء!
وماذا فعلت بنت التاسعة حتى تذبح؟ عدت وسألتها، ” وبأي ذنب تُذبحين، بنيتي؟”
 “لا ذنب لي، لكن في جماعتنا محرَّم علينا نحن الإناث اللعب مع الصبيان أو محادثتهم، وقد لعبتُ وحدَّثتُهم، فحكموا بذبحي.”
 “عجيب أمر جماعتكم! أراه عقاباً غير عادل، وهل على اللعب والحديث عقاب! الموت عقاب القاتل. أظنك فهمتِ الأمر خطأ أو هكذا ظننتِ.”
قالت والخوف يطل من عينيها مترقباً: “رأيت السكين الصغير بيدها. كانت تقترب مني.”
“من ؟”
“تلك السيدة الغليظة التي إذا ما دخلت بيتاً ذبحت كل فتاة فيه”
“لماذا؟”
“لا أعرف.”
“لا أفهمك.”
اقتربت منها أكثر، جلست إلى جوارها تماماً، حاولت طمأنة عينيها الفزعتين.

 “وكيف هربت إذن؟”
 “من النافذة. قفزت منها وأخذت أجري حتى أنهكني الجري وجرحتْ أحجارُ الطريق قدميَّ. اختبأتُ هنا خشية أن يعثروا عليَّ”
“هل أمُّك حية؟”
 “نعم، إنَّها حية تسعى، وكادت أن تمسك بي لتمكِّنها من ذبحي لولا أني قفزت هاربة من النافذة”
“يا الله! أمك تقدمك للذبح راضية!”
 “وأبي أيضاً دفع للمرأة وأجزل لها العطاء كي تتقن الذبح الشرعي وأن تُسمّيَ الله فتجزَّ ولا أموت. تبقيني حية لكن بلا روح.”
 “غريب أمرك يا بنيتي! كأنّي لا أفهمك حقاً.” 

وأطل الخوف من داخلي ثانية: هل أقوم وأنصرف تاركة إيَّاها على الطريق، هي وقدرها، أم إنَّها صادقة وإنَّ هناك من يتعقَّبها حقاً ويريد إيذاءها بالفعل؟
أتاني صوت السائق ينبهني، يناديني أنَّه علينا المغادرة فقد أصلح السيارة، يلحُّ عليَّ خوفاً من اقتراب الليل فما زالت الطريق طويلة. نظرت لها بين مشفقة وحذرة مرتابة منها وعيونها البريئة الخائفة والمخيفة تتوسل ألَّا أتركها. هممت بالقيام، تشبَّثت أصابعها النحيلة بذراعي.

 “بالله خذيني معك. أخاف الكلاب وجرذان الطريق وأخاف أن يعثروا عليَّ؛ إن وجدوني قتلوني ألف مرة.”
بكت بحرقة وتوسُّل. بُحَّ صوتها حتى انقطع واختفت فيه الكلمات فخرجت من بين شفتيها غير مسموعة. نظرتُ للسائق المتعجِّل في امتعاض، تفحَّصتُ الصغيرة المتعلقة بي.
 “هيا تعالي. سآخذك معي.” تهلَّل وجهها ولمعت عيناها المغمورتان بالدموع. فاض وجهها المتسخ بالاطمئنان، تمسكت بيدي بقوة، مشت معي تعرج لا تقوى على جروح قدميها.
ضمَّدت لها جراحها إلى حين.. أجلستها إلى جواري بالمقعد الخلفي… ارتاحت أخيراً، هَدأت وأطلقت عينيها إلى الطريق مثلي. ثم ما لبثت أن راحت في نوم عميق فمالت برأسها على ذراعي… شعرت بثقل رأسها. لا أعرف لمَ أحسست بحنوٍّ غريب عليها. أحطتها بذراعي فغاصت أكثر في أحضاني واستسلمتْ لنومها العميق في سلام كقطة وديعة، نكمل طريقنا معاً؛ فكلتانا هاربتان.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply