بين انشطار الهُويّة وتعدّد الثقافات، أمريكا

زيد نعمان ماهر

الحِراك الثقافي العربيّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة

إنّ الناظر إلى الحراك الثقافي العربيّ اليوم كالناظر إلى لوحة فنية توزعت عليها ضرباتُ فُرشاةٍ في المراحل الأولى من رسمِ لوحة لمّا تكتملْ تفاصيلها بعدُ أو يجمعْها جامعٌ بعد. فالناظر إلى الحراك الثقافي العربيّ في أمريكا يرى منتديات وتجمعات ومؤسسات كلٌّ منها قائم بذاته ويمتلك مقومات النجاح لكنه نجاحٌ يكاد ينحصر أثرُهُ ضمن محيطه الثقافي العربيّ المباشر ومحيطه الثقافي الأمريكيّ المتفاعل معه. وليس من السهل الجمع بين تلك المنتديات لأكثر من سبب يأتي في مقدمتها البعد الشاسع بين الولايات الأمريكية. 

الحراك الثقافي العربيّ متعدد الثقافات ولا ضير في ذلك، لكنه تعدّد ينأى بهِ عن مركز واحدٍ موحِّد ينطلق منه ويعود إليه سواء كان المركز قائماً على أرض الجغرافيا أو في العالم الافتراضي. ثمّ إنّه يحدثُ في بلد متعدد الثقافات حدّ التضارب، ويبدو أنّ المزاج العربيّ المهاجر لا يميل إلى التكيّف المتفاعل مع التعددية الثقافيّة العامّة إلّا ضمن حدود العمل والاستثمار والمصالح الماليّة والاقتصاديّة. 

ثمّ إنّ هناك الخوفَ على الهُويّة من الاختراق والتشظي، وهو خوفٌ مشروع دون شك، لكن المفارقة أن هذا الخوف يدفع العربيّ المهاجر إلى أحضانِ منتديات وتجمعات ومؤسسات لا تَعنى بالعربية لغةً وهُوية وانتماءً إلّا بقدْر ما يُفيدها في تحقيق غايةٍ عقائديّةٍ جذورُها في البلد الأمّ في الغالب الأعمّ. وبالتالي تصير اللغة وسيلة لغايةٍ تعليميّة وعظيّة إرشاديّةٍ في أحسن الأحوال، فلا تبقى دالّةَ الهُوية الأولى التي حملها المهاجر معه. 

وهناك الحاجة إلى اكتساب شهادة الانتماء الرسميّ إلى بلد المهجر لأسبابٍ عدّة تزداد وجاهتها بازدياد أسبابِ هجرة العربيّ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لينتهيَ الأمر بالعربيّ الحاصلِ على تلك الشهادةٍ وقد انشطرت هُويّتُه إلى شطرين لا يجمعُهما في أحسن الأحوال سوى شارحةٍ قصيرة تغلّبُ بلدَ المهجر على البلد الأمّ لفظاً وقانوناً فتضع الهُويّة وحاملها في مصافِ سائر حمَلة الهُويّات المنشطرة. ومن هنا تبدأ المعضلة، من انشطار الهُويّة الذي يبدو أثرُهُ واضحاً في المنتديات والمراكز العربيّة العامّة—بدءاً بأسمائها وتوصيفاتها مروراً بالتعريف بأهدافها ومهامّها وانتهاءً بنشاطاتها الثقافية العامّة. 

والنّاظرُ إلى خارطة المراكز العربيّة العامّة بما فيها تلك التي تحمل الصفة الثقافية يلاحظ غلبة الهُوية المنشطرة على أسمائها، ولا يستثنى من ذلك سوى عددٍ صغيرٍ منها. ومن أبرز تلك الاستثناءات المركز الثقافي والاجتماعي العربيّ في مدينة سان فرانسيسكو (على السّاحل الغربيّ) ومركز الثقافة العربيّة في مدينة بوسطن (على السّاحل الشّرقيّ) ومعهد ألِف في مدينة أطلانطا (في جنوب شرق البلاد) التي تقوم بنشاطاتٍ وفعالياتٍ سنوية لتسليط الضوء على جوانبَ من الثقافة العربيّة تتوزع على الفنون التشكيلية والسمعية والبصَرية فضلاً عن دعوة محاضرين للحديث عن قضايا تُهِمّ الجالية العربيّة الأمريكية عامّة. 

إننا إذا أمعنّا النظر في تفاصيل النشاطات الثقافية فلن نجدَ حضوراً فاعلاً للّغة العربيّة بوصفها ناقلاً معرفيّاً حضارياً للعلوم والآداب والفلسفة والدراسات الإنسانية ما لم يكن النشاط الثقافيّ ندوةً أو أمسيةً عابرة ضمن مهرجان سنويّ أو محاضرةً تُلقى على صفٍّ متقدّمٍ لتعليم اللغة العربيّة لأبناء الجالية. وقد نستثني من ذلك نشاطات المركز الثقافي الأمريكي العربيّ التابع لجامعة إلينوي في مدينة شيكاغو، الذي تأسّس في عام 2016 بجهود أعضاء الهيأة التدريسيّة، والذي يقوم بنشاطاتهِ الرسمية ذات الطبيعة الأكاديمية داخل الحرم الجامعيّ خلافاً للسائد في مثل هذه المراكز. فهذا المركز يفسح للّغة العربيّة مجالاً طيباً للحضور في حوارات ومحاضرات (في قضايا اجتماعية وسياسية عامة) وورشِ عمل إبداعية ودوراتٍ لتعليم الخطّ العربيّ جلُّها موجَّهٌ إلى جمهور الطلبة العرب الدارسين في الجامعة. 

أمّا المتحف الوطني الأمريكي العربيّ القائمُ في مدينة ديترويت منذ عام 2005 ومجلّة راوي—التي تعني اختصاراً مجلة الكتّاب الأمريكان العرب—التي تأسست في أواخر الثمانينيّات، فمشروعان مهمّان غير أنّهما لا يخرجان من حيث المبدأ عن إطار الهُوية المنشطرة وإنهما في الغالب الأعمّ ينشران الثقافة العربيّة بغير لغتها الأمّ، بل إنّ بعض المنضوين تحت لواءيهما لا يعرفُ من العربيّة سوى حفنةِ مفردات ينطِق بها في تضاعيف الحديث بالانجليزية. 

لا ننكِرُ أنّ ما يقوم به المتحف الوطني ومجلة راوي ومعهما دار نشر إنترلِنك لصاحبها ميشيل مُشبّك يفيدُ في نشر الثقافة العربيّة في الولايات المتحدة إلى جانبِ غيرها من الثقافات الناطقة باللغة الإنجليزية، لكنّها فائدةٌ تنحصرُ بفئةِ القرّاء الذين يجيدون الإنجليزية ممّا يجعل الحراك الثقافي لهذه المؤسسات وشبيهاتها حراكاً موجَّهاً إلى المحيطِ الأمريكيّ العام، خاضعاً لشروطه العامّة ومستجيباً لذائقته الثقافية بصورة أو بأخرى. 

ثمّ إنّ تغليب لغة بلد المهجَر بوصفها لغة الوطن الجديد (في النشاطات الثقافية العامة) على لغة المُهاجِر بوصفها اللغة الأمّ صار يُخرِج المهاجرَ من جمهور المتلقين المستفيدين من النشاط الثقافي لتلك المنتديات ومن حلقاتها النقاشية ما لم يكن المُهاجِرُ يعرفُ لغة المهجر معرفة كافية، فأصبحَ هذا المهاجرُ في أحسن الأحوال مستمعاً طارئاً بهِ حاجةٌ إلى من يترجم له ما يقال. ولقد دفع ذلك الكثيرَ من المهاجرين العرب إلى الزُّهدِ بالندوات والمحاضرات التي يلقيها أبناء جلدتِهِم باللغة الإنجليزية في مواضيع المعرفة المتنوعة، ثمّ إلى البحثِ عن بديل ثقافيّ في اللغة الأمّ فوجدوه في القنوات التلفازيّة والإذاعيّة التي تبثّ من بلادهِم باللغة العربيّة ويصلهم بثّها في المهجر. وهكذا لم تعُد للنشاطات الثقافية المحلية أهمية كبيرة عند الكثير من المهاجرين العرب وصاروا يهملونها ما لم تكن في مجالات الترفيه والتسلية المعروفة التي تجمع العرب—على اختلاف مناشئهم وبيئاتهم في البلد الأمّ—وتوحّدهم في الرقص والغناء. 

وربما يؤاخذنا بعض المهاجرين العرب على هذا التعريض بالرقص والغناء لأنهم يرون فيهما وفي سواهُما من فنون الترفيه والتسلية جامِعاً موحِّداً لأبناء الجالية. وللمؤاخذين نقول إنّ حصرعواملِ تجمّعِنا ووحدتِنا الثقافية في الترفيه والتسلية—وما يرافقهما من مآدبِ الطعام المعروفة—يلحق ضرراً بالغاً بهُويّتنا العربية سواءٌ في نظرة أبنائنا وبناتنا إلى ثقافتنا وإلى علاقاتهم بسائر أبناء الجالية العربيّة وبناتها في الولايات المتحدة أو في نظرة المحيط الأمريكي العام إلى ثقافتنا وبالتالي إلى هويّتنا العربيّة. ولا ينحصر الضرر بتعريفنا نسبةً إلى طعامنا ولباسنا التقليدي ورقصنا الشرقيّ، كما يحلو لبعضِ العربِ تسميتُه، بل يتعدّاه إلى إلغاء هُويّتنا الحضارية التي صنعها لنا بُناة أفذاذ في الشام وبغداد وسامراء والقيروان وغرناطة وسواها من مدن الحضارة العربيّة المعروفة. 

إذن لا بُدّ من أن يكون الحِراك الثقافي العربيّ في الولايات المتحدة الأمريكية حِراكاً حضارياً في المقام الأوّل إذا أريدَ له أن يكون جامِعاً للمهاجرين العرب وفاعلاً في محيطه الأمريكيّ العام. ولكي يتحقق ذلك لا بدّ من قيام المثقفين العرب في أمريكا بدراسةِ ما أنجزته المراكز الثقافية العربيّة في الولايات المختلفة وما لم تنجزْه ووضع التوصيات اللازمة لتفعيل منجزاتها ومعالجة الثغرات في أدائها. ويمكن للاتحاد الدوليّ للمثقفين العرب أن يكون سبّاقاً في هذا المجال بإلمبادرة إلى تشكيل هيأةٍ متعددةِ الاختصاصات من المثقفين العرب الأمريكان تُناط بها المهامّ الآتية: 

أولاً: الاتفاق على تعريفٍ واضحٍ وعمليّ لمفهوم الثقافة وما تعنيه في الولايات المتحدة بالاستفادةِ من الأفكار والنظريات التي صاغت هذا المفهوم في الفكر الأنجلو-أمريكيّ منذ أواخرِ القرنِ الثامنَ عشر حتى عصرنِا عصر الدراسات الثقافية. 

ثانياً: الاتفاق على تصوّر واضح لما ينبغي أن يكون عليهِ الحراك الثقافي العربيّ للسنوات الخمس ثمّ السنوات العشر المقبلة في تفاعلهِ مع الجالية العربيّة والجمهور الأمريكيّ في الوقت ذاتِه. 

ثالثاً: الاتفاق على تعريفٍ واضحٍ وعمليّ لدورِ المثقف العربيّ في هذا الحراك الذي لن ينحصر بفئة المثقفين بل يتعدّاه إلى المشتغلين في الترويج للثقافة العربيّة في المراكز والمنتديات والتجمعات. 

رابعاً: الاتفاق على آليّةٍ للخطاب الثقافي الفاعل على أن يكون ثنائيّ اللغة فلا يُقصي المهاجرَ الذي لا يعرف اللغة الانجليزية معرفةً جيّدة. 

خامساً: مناقشة إمكانيةِ وضع الجيل النّاشىء من عرب الجالية كفئة مستفيدةٍ من نشاطات الهيأة و كأعضاء فاعلين فيها. 

سادساً: مناقشة إمكانيةِ إقامةِ مشروعٍ للطباعة والنشر ثنائيّ اللغة يَعنى بنشر الرّصين من نتاج العرب الأمريكان في العلوم والآداب والفلسفة والدراسات الإنسانية يكون فيه للّغة العربيّة حضورٌ مهم بوصفها ناقلاً معرفيّاً حضارياً. 

سابعاً: الاستفادة القصوى من التطور الكبير في تقنية المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعيّ وظاهرةِ العالم الافتراضيّ للمّ شملِ المثقفين العرب في الولايات المتحدة والحفاظ على الثقافة العربيّة من التشظي والترويج لثقافة عربيّة مهاجرة رصينة. 

الثّالث من شهر نيسان (إبريل) 2022 

مدينة كولومبيا / ولاية مِزوري الأمريكيّة 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply