
أول يوم لي كتلميذ صغير كان في مدرسة تقع على كورنيش شط العرب في الفاو أقصى الجنوب العراقي، وكان اسمها: مدرسة الأندلس، قضيت فيها سنوات ثلاث ثم انتقلت لمدرسة ابتدائية أخرى اسمها: مدرسة عبد الرحمن الداخل!
ترى أكان هذا هو الجذر التي أطلق أجنحتي تجاه الأندلس أدباً وتأريخا ووقائع أم ثمة جذور أعمق؟
ربما اندرج في الجينات ما اندرج لأعشق الأندلس كل هذا العشق.
وربما ثمة جذر آخر غريب إذ يحلو لأبناء مدينتي الفاو أن يضيفوا الواو إلى آخر الأسم محبة لمن ينادونه فيقولون: صالحو و سعادو و قيسو ودلالو وهكذا وفي اسبانيا والبرتغال يفعلون هذا ويضيفون الواو لأسمائهم ..
وغير هذا كانت الأندلس تطل هنا أو هناك حتى أطلعت مرة على حديث عن الموريسكيين الأندلسيين، سكان الأندلس المسلمين بعد سقوط غرناطة 1492 ففوجئت وشعرت بالحيف، أيمكن أن يكون هنا تأريخ عريض لشعب جميل ناضل بضراوة وإخلاص للتمسك بهويته حتى تمت إبادته تقريبا وأنا لم أعرف عنه شيئاً ! ولماذا خلت كتبنا المدرسية والجامعية وصحفنا وإعلامنا من الحديث عنه أو حتى الإشارة إليه؟
تساؤلات أقلقتني وأدركت معها أن هناك من يريد لنا أن لانعرف! رسموا الطريق الساطع أو الخلدوني لنا ( نسبة لساطع الحصري) في مناهجنا التعليمية لكي لانرى سوى البطولات والأمجاد حتى لو كانت زائفة وغير حقيقية.

ما نعرفه عن الأندلس وما تعرفه نخبنا وعموم أجيالنا ودارسينا حتى أعوام قلائل هو فتح الأندلس وطارق بن زياد وعبد الرحمن الداخل وووو وفي النهاية خبر مختصر وخجول عن بكاء الحاكم الأخير..
لكن من بقي من شعب الأندلس، ماذا حل بهم؟ كيف عاشوا وتعايشوا مع الحكام الجدد وأعدائهم بالأمس ؟ كيف ناضلوا وجاهدوا بالسلاح والسلوك والفعل الثقافي كي يحافظوا على ذاتهم الحضارية وهويتهم ؟ هذا لم يهتم مناهج التدرسي ووسائل الإعلام العربية وخاصة العراقية به.
هذا الاكتشاف لما هو مسكوت عنه من تأريخنا أدهشني ودفعني لقراءة كل ما أصل إليه من كتب ومصادر وأفلام وفيديوهات ومقالات وأدب يخص الموريسكيين، اندهشت أكثر وأنا ألاحظ أن أدباء عرباً معروفين عالمياً تواطؤا في التعتيم على معاناة هذا الشعب الجميل، منهم أمين معلوف في روايته الشهيرة ( ليون الأفريقي) إذ نجده في الجء المسمى منه بكتاب غرناطة يتجاهل الكثير مما ارتكب بحق الموريسكيين من الجرائم محاباة للآيديولوجيا الدينية التي يؤمن بها ربما أو المؤسسات التي ترعاه وتمنحه الجوائز !
كما وجدت أن سرفانتس قد أخذ منهم الكثير وثمة إشارات منه هو في كتابه أو روايته ال دون كيخوته تدل على ذلك، وهكذا اجتمعت لدي وتعاضدت المحفزات لأستمر في طريق التعرف على الأندلس وتأريخها قبل 1492 وبعدها وساعدتني الدراسة الأكاديمية على الاستزادة فكتابي ( سقوط غرناطة ) كان بالأصل كتاب تخرج للبكالوريوس ثم كانت الماجستير عن الأندلس وكذلك ستكون الدكتوراه، حتى قضيت عامين أو أكثر وأنا أبحث وأقرأ وأتبع كي اتعرف على الموريسكيين بعد أن تعرفت على الأندلسيين، ومن دون مقدمات ولا قصدية ولا تخطيط جاءت روايتي مخيم المواركة ووجدت نفسي في خضم تدفق كتابيٍّ عجيب لم يستمر أكثر من ثمانية عشر يوماً ليكتمل الجسم الأساس لنص الرواية، تلاها عام في المراجعة والتمحيص والاشتغال على الشكل القصصي والبناء الفني حتى خرجت الرواية للعلن واكتشف الكثيرون في العراق على الأقل أن للأندلس تأريخا آخر جميلا وموجعا مضافا للتأريخ الذي نعرفه، واتجه أكاديميون وأساتذة لدراسة الحقبة الموريسكية من التأريخ الأندلسي ومنهم من أضاف لاسمه لقب موريسكي تعبيراً عن شغفه بالموضوع.
هكذا كانت الجذور وهكذا طارت بي الأجنحة مستعيراً مقولة لغوتة، لأكتب أدبيا عن الأندلس ولأتخصص أكاديميا في تأريخها، فتأريخ الأندلس هو ملخص لكل تأريخ منطقتنا العربية الإسلامية ومصيرها يمثل إنذاراً بالزوال لأي شعب لا يتعظ ولا يتعلم الدرس جيداً ويتجنب التمزق والتنازع والاستعانة بالآخر خاصة الغربي الذي لا يريد منك كعربي ومسلم أو مشرقي سوى أن تكون تابعا له ولسياساته وتكون بلادك سوقاً لتصريف صناعاته حتى لو كان ذلك بإدخالك في حروب مدمرة لا تجني منها سوى الخسائر والخراب، وما حرب الخليج العربي الأولى والثانية وخرابات الربيع العربي سوى أمثلة قريبة وما تحت الغطاء كثير.
مصير الشعب الأندلسي الجميل المتحضر الذي اختفى تقريبا وتلاشى في الشعوب الأخرى وضياع وطنه هو ما جذبني إلى الأندلس أدباً وتأريخاً، ولا شك أن للارتباط الحضاري الوثيق بين المشرق العربي والأندلس دور في هذا الشغف فإذا كانت الأندلس قد ارتبطت مجتمعيا وعمرانيا بالشام وحضارتها فإنها في الفن والموسيقى والأدب وعموم الكتابة ارتبطت ببغداد والبصرة والعراق ودور علي زرياب أشهر من أن أذكره ودور أبي علي القالي الأديب البغدادي الكبير الذي دعاه الخليفة الأموي الحكم المستنصر من بغداد إلى قرطبة ( ولك أن تتخيل المسافة بمقاييس ذاك الزمان ) حيث حظي باستقبال كبير ومهيب شارك فيه الخليفة نفسه ثم شرع أبو علي القالي بإلقاء محاضراته الأدبية و التأريخية والثقافية الشفاهية على الأندلسيين والتي جمعت في كتاب باسمه حمل عنوان ( الأمالي ) ومن محاضراته تلك انطلقت فنون الكتابة الأدبية والثقافية في الأندلس، وما تطور الطب وعلوم غيره في الأندلس إلا من دراسة الأندلسيين في البصرة وبغداد وعودتهم إلى قرطبة وسائر بلاد الأندلس بمعارف جديدة.
وهذا مبحث واسع، وهكذا كانت جذور انتمائي للأندلس الحبيبة وهكذا حلقت بأجنحة الشوق إليها.
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل