
إنَّ البحث في أصول الخطاب الاستشراقي وفروعه أمر محفوف بالمخاطر نظراً لتعقيدات هذا الخطاب وتشابكاته المختلفة الضاربة جذورها في التاريخ، ولإمكانية السقوط في “التغريبية L’occidentalisme” أي الاستشراق المعكوس بلغة صادق جلال العظم. لقد اهتم الاستشراق بالفكر والتاريخ والجغرافية والتشريع الإسلامي و”الأثنولوجية”(1) اللغوية. إنَّه معرفة مكونة عن العالم العربي الإسلامي في أشكال التفكير والتعبير العربي الإسلامي المختلفة، أي أنَّه خطاب الآخر الذي هو الغرب موجَّه إلينا بوصفنا غيرية له.
وانطلاقاً من أطروحتَي فرانسيس فوكوياما وصمويل هانتغتون يكاد الغرب يجمع على أنَّ الحضارة العربية حضارة منغلقة لا تنفك تصطدم مع الحضارات الأخرى بخاصة منها الغربية.
راكم الاستشراق الإسباني رؤى مختلفة تترجم تصورات الغرب نحو العالم الإسلامي، وأسعفنا كتاب “الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني من ريموندس لولوس إلى آسين بلاثيوس” للدكتور محمد عبد الواحد العسري (2) في رصد جذور هذا الاسشراق، وهو ما يمكن رصده في مقدمة هذا العمل الأكاديمي وتعبير الدكتور محمد عبد الواحد العسري عن أنَّ اهتمامه بالاستشراق نابع من اهتمامات مبكرة بهذا الخطاب منذ أن كان طالباً بالسربون الأولى. ولقد عملت المتغيرات التاريخية على تزكية هذا الاختيار خصوصاً بعد تنامي اهتمام الفكر الغربي بالإسلام، وهو ما دفعه إلى التساؤل حول الأدوار التي يمكن أن يكون الاستشراق قد أدَّاها في تكوين الصورة القاتمة عن العالم العربي الإسلامي وإذا كان الاستشراق الأنجلوساكسوني قد حظي بمتابعة رصينة من قبل إدوارد سعيد الذي وصفه بأنَّه علاقة بين (أنا) تسيطر وأخرى مسيطر عليها، والاستشراق الفرانكفوني الذي حظي هو الآخر بدراسات مختلفة خاصة مع بروز مستشرقين لامعين مثل جاك بيرك JaquesBerque وأندريه ميكيل Andre Miguel وهما امتداد لمدرسة استشراقية ترجع أصولها إلى معهد الكوليج دي فرانس 1514م حين أدخل هذا المستشرق كيوم بوستيل Guillam Postel (1505ــ1581) العربية إلى هذا المعهد.
إنَّ اهتمام الدكتور محمد عبد الواحد العسري بالاستشراق الإسباني يرجع في رأيه إلى سببين:
الأول: إنَّ الاستشراق الإسباني لم يحظَ بالمتابعة والتقصي العلمي الدقيق.
الثاني: العمق التاريخي للاستشراق الإسباني الذي يرى فيه استشراقاً رائداً من الناحية التاريخية والمعرفية ومن ثمَّ فقد انصب على معالجة تصورات الاستشراق الإسباني للفكر الإسلامي الأندلسي.
ووفق هذا الاختيار وجد الباحث نفسه إزاء حفريات معرفية صعبة لكنه استطاع وفق رؤية معرفية ومنهجية واضحة الخروج من هذا المأزق المنهجي وإخضاع نصوص المستشرقين لمشرحة التحليل والنقد لتفكيك المقولات التي كونها المستشرقون عن غيريتهم أي عن هويتهم النصرانية، ذلك أنَّ المستشرقين الإسبان منذ المرحلة القروسطية إلى النصف الثاني من القرن العشرين، أي من رامون يول Ramon Llul إلى ميجيل أسين بلاتيوس Miguel Asin Palacios ، شكَّلوا صورة الإسلام بوصفه ليس أكثر من هرطقة نصرانية وإنَّ المسلمين تبعاً لذلك ليسوا أكثر من هراطقة.
ولقد تطرق الباحث في مداخل الكتاب إلى القضايا المتعلقة بتعريف الاستشراق الإسباني حتى أننا نجد أنفسنا أمام جملة من الأسئلة من قبيل كيف نقرأ الاستشراق الإسباني؟ وماهي آليات رصد وتتبع مرجعياته وتحولاته المختلفة؟
و كانت بداية الخطاب الاستشراقي وروافده مصاحبة لعلاقات جدلية حادة جمعت بين النصرانية والإسلام في مرحلة حرجة من التاريخ الإنساني هي مرحلة القرون الوسطى التي ابتدأت بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الاسبانية وما صحبها من مجادلات بخاصة رسالة عبد المسيح الكندي التي عدَّها الباحث مفتتح المجادلة النصرانية للإسلام، بل لقد كان لها أثر حاسم في تنميط المعرفة الإستشراقية في إسبانيا وأوروبا.
تتألف رسالة “عبد المسيح بن إسحاق الكندي”من مائة وإحدى وأربعين صفحة وهي جواب على كتاب صديقه “عبد الله بن إسماعيل الهاشمي” الذي دعاه فيه إلى اعتناق الإسلام (وفي هذا الإطار بلور عبد المسيح بن جرجيس الكندي تصوراً للإسلام في مقابل النصرانية عبر تشغيل مجموعة من الثنائيات التي ترجع في الواقع إلى الفرق الجوهري الذي أقامه بين هذين الدينين، فأولهما دنيوي ومادي ومن وقع صاحبه وثانيهما أخروي ومن وحي الله) (3).
لقد كُتب على حضارات البحر الأبيض المتوسط أن تتجاور وتتعايش في رقعة جغرافية متقاربة وتعتنق ديانات سماوية. ومثلما شعر العرب والمغاربة على وجه الخصوص بأنهم حماة الإسلام فقد شعر الإسبان بأنهم حماة المسيحية في الغرب، ولعل هذا يفسر غنى المكتبات والأديرة في الأندلس وإسبانيا وبروز مجموعة من المستشرقين الأسبان في مجال التاريخ فنجد الأب “دي لاتور روبليس LazorRoblis” والأب “لونكاس Luncas” و”كونسالىس بالانسيا GanzalesPalancia” و”كاخيكاس(4) Dan Izidoncagigas “و”كارلوس كيروس Carlos Quiros “و”فالديراما Valdirama” (5).ويعدّ الغرب النصراني العام 1312 بداية الاستعراب الرسمي وهو ما يعرف في إسبانيا ب:”Arabismo” ويعرف المستعرب ب:” Arabista”.
نورد هنا نصاً للراهب القرطبي ألبرو Albiro يقول فيه: (إنَّ إخواني في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة أشعار العرب وحكاياتهم ويقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلاسفة المسلمين لا ليردوا عليها وينقضوها وإنَّما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوباً عربياً جميلاً صحيحاً، وأين تجد الآن واحداً من غير رجال الدين يعكف على دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء والمرسلين. يا للحسرة!
إنَّ الموهوبين من شبَّان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها ويؤمنون بها ويقبلون عليها في نهم، وهم ينفقون أموالاً طائلة في جمع كتبها ويصرحون في كل مكان: هذه الآداب حقيقة بالإعجاب، فإذا حدثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك في ازدراء بأنَّها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم. ياللألم!” (6) إنَّ مسألة الدفاع عن النصرانية هاته هي التي تطرَّق إليها الدكتور محمد عبد الواحد العسري انطلاقاً من مشاريع “رمون بول” و”رمون مارتي” ( القرن الثالث عشر) ووقف عند مسألة في غاية الأهمية هي ما وصفها بالانقلاب الديني أو كيف تتحول الهوية إلى غيرية، وهو المعروف عند رجال الدين بالردة الدينية.
الاهتمام هنا سينصب على خوان أندريس الذي قدم نفسه بوصفه عالماً مسلماً ارتدَّ عن الإسلام إلى النصرانية، ولعل لهاته المسألة دوراً في ترسيخ الصورة التي رسمها هذا المستشرق الذي ينتمي زمنياً إلى القرن الخامس الميلادي عن الإسلام والمسلمين، وهي صورة إسلام عنيف انفعالي وتعصبي وهو وهمٌ ما زال كثير من المستشرقين يتخبطون فيه.
لقد اختار الباحث الأنتروبولوجية(7) البنيوية لكلود ليفي ستراوس كنموذج للتعامل مع نصوص منتمية كلياً إلى الخطاب الاستشراقي الإسباني بغية الكشف عن شقوقه وصدوعه وعلل دواعي هذا الاختيار بسمة الأنتروبولوجيا البنيوية النظرية ومنحاها العلمي وكفاياتها الإجرائية وذلك من خلال كتابات كلود ليفي سترواس: العرق والتاريخ، مدارات حزينة، النظر من بعيد.
ولقد أشار الباحث إلى أنَّها تستطيع أن تساهم في كشف النزعة الاستشراقية في هذا الخطاب، وانسجاماً مع هذا السياق فقد كان لزاماً على الباحث الخروج ممَّا يمكن تسميته بالأنتروبولوجية الصورية نحو أخرى جديدة استفادت من مستجدات العلوم الإنسانية في علم النفس مع لاكان والنقد مع بارث والفلسفة مع فوكو واللغة مع تشومسكي ومن الانتقادات التي وجهها لها جاك دريدا وفلاسفة مدرسة فرانكفورت مثل هابرماز وغادمير. وتأتي الدعوة إلى ضرورة الانفتاح على مستجدات هذا المجال إلى استحالة حيادية وموضوعية الدارس. أشير هنا على سبيل الذكر إلى كتاب الثقافة ل”جورج ماركوس” و”جيمس كليفرد” الذي ألَّف هو الآخر كتاب “مأزق الثقافة”.
ويمكن القول إنَّ الباحث في نقده الخطاب الاستشراقي قد استطاع أن ينتقل من نقد المستشرقين إلى نقد المعرفة الاستشراقية أي نقد العقل الإستشراقي. فالدكتور محمد عبد الواحد العسري كان يتقصى الخطاب الاستشراقي ويعيد قراءة نقده أنظمته المعرفية وإنتاجاته المتتابعة ثم تحولاته ومنعطفاته، وهي قراءة كانت كفيلة بإقامة حوار مع هذا العقل الذي عجز عن تنوير ذاته لأنه ظل حبيس مقولات مغلقة جعلته يتوقف مدة من الزمن إبَّان عصر النهضة ونهاية القرن السابع عشر نتيجة الفشل في تنصير الرعايا المسلمين المورسكيين.
ومع بداية القرن الثامن عشر سينبعث الاستشراق الإسباني من جديد ليواكب مستجدات علمية وثقافية جديدة تمثلت في خلق مشاريع كبرى مثل إعداد المكتبات والقواميس وتشجيع الترجمة بخاصَّةٍ ما تعلَّق منها بالمخطوطات العربية. ويتعلق الأمر هنا بكوكبة من المستشرقين مثل “خوسي أنطونيو كوندي Jose “Antonio Conde و”بسكوال دي غايانغوس Pacanal de Gayangos” و”فرانسيسكو خافيير إي سيمونيت Francisco Javier y “simonet. بعد ذلك ينتقل الباحث للحديث عن الخطاب الاستشراقي المعاصر مركزاً على معالجة تصورات أسين بلاثيوس للإسلام وللفكر الإسلامي، وقد علل دواعي هذا الاختيار بالنظر إلى المكانة المتميزة التي يشغلها هذا المستشرق على مستوى الاستشراق العالمي والاستشراق الإسباني، ذلك أن بلاثيوس بذل جهوداً ملحوظة تمثلت في تكثيف النشاط الاستشراقي الذي سعى إلى تنويعه فضلاً عن مشاركته في إعداد المكتبات والفهارس والاعتناء بالمخطوطات، واهتمامه بالتدريس الجامعي وإعداد أجيال من المستشرقين الجدد وتفعيل الهيآت والأكاديميات المتخصصة في هذا المجال.
ومن غير شك فإن الباحث بذل جهداً كبيراً في تصنيف أبحاث هذا الأخير مركِّزاً على دراسة بلاثيوس لابن مسرة وهو الأمر الذي يدفع إلى القول إنَّه مازالت بنا حاجة إلى مزيد من الدراسات العميقة لفكر بلاثيوس الاستشراقي خصوصاً ما تعلق منها بالجانب الصوفي، ونعني به التصوف النصراني الإسباني.
إنَّ اختيار الباحث التركيز على دراسة بلاثيوس لابن مسرة له أسبابه المنهجية الجديرة بالاحترام النقدي، وهو ما نبهنا إليه الباحث عندما عدَّ بلاثيوس فكر ابن مسرة مجرد استمرار للفكر اليوناني القديم نافياً عنه خصوصيته الإسلامية. وسواء كان نقد هذا الخطاب قائماً على التواصل أو الإقرار بالاختلاف أو التنصيص على الأثر فإنَّ الرؤية المعرفية الرصينة الواضحة استطاعت تحديد البحث في شقين:
1- الإبانة عن الخلفيات الفكرية للدراسات الاستشراقية.
2- تحليل تلك الخطابات ونقدها وتبيان طبيعة القصور المعرفي فيها.
والدكتور محمد عبد الواحد العسري في ذلك كلِّه لم يكن يجتر أجوبة جاهزة بل كان يسعى إلى استعادة السؤال المعرفي للخطاب الاستشراقي، والحالة هذه إنَّه وهو يحاول القبض على الينبوع الأصلي لهذا الخطاب كان بصدد إنشاء طرائق جديدة للاستشراق الإسباني.
الهوامش:
- الإثنولوجيا: علم يهتم بدراسة الأعراق البشرية من الناحية العرقية، ومن ناحية خصائصها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومن ناحية اللغة وأنماط ومعهود العيش.
- أستاذ الفكر الإسلامي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان ــ المغرب.
- الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني، ص 145.
- الدون ايسودورد كاخيكاس مهندس إسباني أقام في القصر الكبير وهي مدينة شمال المغرب إبَّان الاستعمار الإسباني للمنطقة الشمإلىة ووضع تصميماً لمدينة القصر الكبير الحديثة وأنشأ الشارع الرئيس في المدينة المعروف حالياً بشارع مولاي علي بوغالب وساحة مولاي المهدي وأهم عمل قام به كان جمع النفايات بخاصة تلك التي تراكمتفي ساحة سيدي بو أحمد حتى بلغ ارتفاعها أكثر من ستة وثلاثين متراً فربح بذلك مساحة مهمة أضيفت إلى المدينة الجديدة، كما قام بإنشاء شبكة الصرف الصحي.
- فالديراما هو الذي كتب تاريخ القصر الملكي في تطوان (المغرب).
- محمد بن شريفة، الجذور التاريخية للاستعراب الإسباني، مطبوعات أكاديمية، المملكة المغربية، سلسلة الندوات، أبريل 1993.
- الأنثربولوجيا: علم يهتم بدراسة الإنسان والحضارات والمجتمعات البشريّة، وسلوكيّات الإنسان وأعماله بوصفه كائنا اجتماعيا
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل