
Via Dolorosa by David Hare
Translated by May AL-ISSA
الكاتب: دَيفِد هَيْر
ترجمة: ميّ العيسى
[عرضت فرقة مسرح رويال كورت Royal Court Theatre مسرحية درب الآلام لأول مرّة في مسرح دوق يورك Duke of York في الثالث من أيلول (سبتمبر) 1993.
إخراج: ستيڤن دالدري Stephen Daldry
تصميم: إين مكنيل Ian Macneil
الإضاءة: رِك فِشَر Rick Fisher
المخرج المساعد: روفوس نورِس Rufus Norris
ملاحظة الكاتب:
أُولى رحلاتي الى الشرق الأوسط كانت بإيحاء من أليس دوجسن Alyse Dodgson وتنظيمها [وهي الموظفة] في القسم الدولي لمسرح رويال كورت Royal Court Theatre. أدين بشكري الخاص إلى كيث لورنس Keith Lawrence، وسيغال كوهين Sigal Cohen، ومنى خليفة، وسوزانا پيكَرينغ Susannah Pickering، وجورج ابراهيم، وإيران بانيَل Eran Baniel. تُمثل المسرحية الشيء البسيط جداً فقط من المقابلات العديدة العديدة التي أجريتها. ولكن امتناني الخاص لأولئك الذين خاطروا، حينذاك وبعدها، مخاطرة شخصية بتحدثهم معي سراً.
دربُ الآلام Via Dolorosa، مسرحية يؤديها مؤلفها<بعزف> روائي منفرد (مونولوغ). تبدأ المسرحية حال تسليط الإضاءة فإذا بالمؤلف واقف على خشبة المسرح ليبدأ حديثه.
المؤلف: أرغب، إلى حدٍ ما، طبعاً، أن أحسّ بكينونة شعوري. أيّ ماذا أفعل هنا؟ فإذا كنتم مندهشين، لقد مثّلت آخر مرّة وأنا في الخامسة عشر من عمري في المدرسة دَور توماس كرومويل Thomas Cromwell في «رجل لكلّ الفصول» A Man For All Seasons. أدّى كريستوفر هامبتون Christopher Hampton دَور رِتشارد رِتش Richard Rich أمّا الناقد السينمائي الذي يعمل في صحيفة الـ«فايننشال تايمز» Financial times –ولمّا يزل- فمثّل دَور توماس مور Thomas More. علّمتني تلك التجربة كلّ ما أحتاج أن أعرف. ومنذ ذلك الحين، وأنا أُحاول دائماً أن أدع جودي دنتش Judi Dench أن تقوم بمثل هذه المهمة.
وهي أفضلية، أفضليةّ ذات تماسك مديد، ما يمكنكم أن تدعوه بـ«عادة العقل والرغبة» –وهي أن تضع الكلمات في أفواه أُناس آخرين. وأولئك الناس يمّثل أدوارهم أناس مهنتهم هي التظاهر بأنهم أناس آخرون. ولهذا الغرض، يتبنون إيماءات وأصوات ونبرات؛ بل، وحتى أوضاع جنسية لا تمتّ لهم ببنت صلة. فعلى خشبة المسرح، يتصنعون بأنهم مفتونون بشخصٍ ومسرورون معه والذي سَيَعْدون منه أميالاً، بعد ذلك، تجنباً للجلوس معه على مائدة العشاء. وبالمثل، سيرمون ممثلاً بأشنع السِباب والذي فيما بعد، فيما بعد بكثير، وفي هدأة اللّيل، سيشاركونه الفراش. هذه: هي الشعائر المُتْقنة للمسرح والمحببة جداً –على الأقلّ بالنسبة لي- والثمينة جداً. وهي صميم حياتي.
ومع هذا حين سُئلت للذهاب إلى إسرائيل، ساقني التفكير: «ماذا؟ أذهب إلى إسرائيل وأكتب مسرحية؟»
تسألني الفتاة في مطار غاتوِيك Gatwick إلى أين ذاهب أنا؟ فاقول: «تل أبيب» لتضحك فوراً وتقول: «محظوظ» وبقهقهة! لماذا؟ عمَّ تضحك؟ هل فاتني شيئا ما هنا؟ ما هي النكتة؟
ما هي النكتة بالضبط؟
يقول الناس دائماً إنّ حياتنا سطحية في إنگلترا. يجب أن تكون حياتنا سطحية لأننا نعيش في بلد لم يعد يعتقد فيه أحدٌ بأيّ شيء. طوال حياتي ويُقال لي: «الحضارة الغربية؟ ما هي إلاّ عجوز شمطاء رحلت بأسنانها». ولهذا يقول الناس إذهب إلى إسرائيل. لأنّ في إسرائيل، على الأقلّ، الناس في نزاع. في إسرائيل، يتنازعون على شيء يعتقدون فيه.
إسرائيل، أولاً والأهم، هي سبب؛ السبب هو قطعة أرض، تمتدّ من شمال الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط إلى جنوبه كأنّها سمكة أنشوفية بنية صغيرة مرسومة في أطلس المدرسة، قطعة الأرض التي فيها معظم المضطهدين في وقتنا المعاصر –ربّما معظم المضطهدين في كلّ العصور- بعد كارثة المحرقة التي لا نظير لها والتي دفعتهم إلى عقيدة معقولة إلى حدّ الكمال بأنهم لن يشعروا بالأمان حتى يمتلكون دولة خاصة بهم. «ناشدنا ضمير العالم. والعالم لا ضمير له. لا نملك سوى أنفسنا».
النزاع. الكفاح. السلالة التاريخية. عودة الشعب. السبب: ولهذا، فالحياة لها معنىً وبشكلٍ يحيّر معظمنا بدوامة لا نهاية لها من: «ماذا أفعل هنا بحقّ الجحيم؟» في يوم واحد، يقول صديق إسرائيلي، إنه يعيش أحداثاً ومشاعر تكفي أن يعيشها السويدي لعامٍ كامل.
وبهذه النبرة، نبرة صديقي، نبرةٌ سوف ندركها خلال التسعين دقيقة القادمة، نبرةٌ، لنقل عنها، ذات ضرورة مأساوية: «نحن اليهود. نحن، الشعب اليهودي. هذا وطن اليهود».
الصهيونية بحدّ ذاتها حركة ذات تأريخ قريب، وتتميز عن الحركات السياسية الأخرى في تأريخنا الحديث بحقيقة أن مؤسسها هو كاتب مسرحي. نعم، تيودور هرتزل Theodor Herzel، يستغرق في عام 1894 ثلاثة أسابيع لكتابة مسرحيته الحيّ [اليهودي] الجديد Das Neue Ghetto، التي يضرب الأعداء فيها البطل، ويموت عند انسدال الستارة لترنّ كلماته خلال المسرح المُظلِم: «أريد أن أرحل! خارج الحيّ اليهودي!»
يقوم كذلك هرتزل رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي World Zionist Congress عندما يتكرم لورد لانسدون Lord Lansdowne نيابة عن الإمبراطورية البريطانية الشهمة بعرض قطعة صغيرة من أوغندا كمكانٍ ملائم لليهود لكي «يعيشوا ويمارسوا عقائدهم الوطنية». يصوّت، وبشكل لا يُصدّق، عددٌ مناسب من المفوضين بحرارة لصالح القرار –عصفور باليد خيرٌ من عشرة على الشجرة، ثمّ ان أفريقيا هي أحسن من لا شيء على الإطلاق- ولكن يُرفض هذا الخَيار في النهاية على أساس ان أوغندا لا تمتلك القيمة الروحية التي يتطلبها اليهود. ومنذ هذه اللّحظة، ومحور الحجة في تضليل. أهي مهمة دينية؟ أم دولة علمانية؟
خلال الثمانينات، تعرض منّظمات كمنظمة أصدقاء إسرائيل Friends of Israel مبالغ للكتّاب كي يزوروا دولتهم. بعد ذلك، يذهب صديقي فيليپ رَوْث Philip Roth على حسابه ليعود مُلهَماً من لقائه بالمستوطنين، وأولئك اليهود المتدينين الذين حوّلوا حياتهم إلى تحدٍّ سياسي بإقامة مدن يهودية على الأرض العربية حتى الآن. «يجب عليك أن تذهب يا ديڤِد. يجب عليك أن تذهب وترى بنفسك. أولئك الناس مجانين بالمرّة. هم أخبل أُناس رأيتهم في حياتي. ولأيّ كاتب خياليات يكوّنون أحلى مادة». «ولكن مؤكداً» أقول لفيليپ أحد أشهر كتّاب أميركا الساخرين، «أنهم مادتك أنت، وليسوا مادتي». فيقول لي: «لا لا. فليست لديك أيّة فكرة. هؤلاء الناس مجانين جداً لأن يكْفُون لنا جميعاً».
وفي كلا المناسبتين أرفض. الآن فقط، وبعد عشر سنواتٍ فقط أُدرِكُ وبدون ملاحظة دقيقة تقريباً بأنّ موضوعي ككاتب مسرحي ولفترة ما هو عن الولاء الديني. موضوعي هو العقيدة. ولهذا يبدو الوقت ملائماً –بل وأكثر من ذلك، فإنّه عاجلٌ- بأن يقوم أخيراً الكاتب البريطاني ذو الخمسين عاماً بزيارة الدولة ذات الخمسين عاماً.
قبل مغادرتي بإسبوعٍ، يزورني الكاتب الإسرائيلي ديڤِد غروسمان David Grossman في بيتي في منطقة هامستَد Hampstead. يخبرني انه كلّما يأتي إلى لندن يتوجب عليه أن يتمشى في مروج هامستَد هِيث: «لديّ نوع من التفاعل المعدني مع المكان لا أجده في مكانٍ غيره في العالم، فمجرّد استنشاق الهواء يجلب لي السعادة». أشعر شعوراً غامضاً بالفخر، حين يقول هذا الكلام، كأنّ سعادة غروسمان بهامستَد تعود عليّ نوعاً ما، فكأنّ جزءً من فرحة السعادة هذه كوني بريطاني، يمّكنني، وبالمصادفة إلى حدٍّ ما، أن أمنح الأجانب روعة مروج هامستَد. ولكن «تفاعل معدني»؟
لقد اعتقد غروسمان إعتقاداً مليّاً بقضية إسرائيل وقضى وقتاً طويلاً مع أُناسٍ مثلي يطرح أسئلة لا تساعد إجفالي الأخرق.
«ما تدعوه بمشاكل إسرائيل الجسيمة من الممكن حلّها في يومٍ ما. ستكون دولة فلسطينية. فحين قلت هذا قبل عشر سنوات، أخبرني الجميع بأنني مجنون. والآن يعلم الناس في صميم قلوبهم بأنها ستحدث. ثمة قضايا جسيمة. ولكنّها محلولة أساساً. ما هو الأقل حلاً هو السؤال الأخلاقي المعنوي الأساسي: كيف يكن لأكثرية غير محبوبة على مسار التاريخ أن تتعاون الآن بعدالة مع أقلية فلسطينية غير محبوبة في عُقر دارِهم؟ فهل نحن من الرُشد ومن الشجاعة أن نجعل فكرة المساواة باطنية؟
أقول، وبكلّ تأكيد انّ ثمة مشكلة في صميم الصهيونية. إسرائيل هي فعلاً دولة دينية. فهي تُدخل مهاجرين من ديانة واحدة. ألن يصبح يوماً ما بلداً عصرياً يجمع أديان وثقافات مختلفة كأيّ بلدٍ آخر؟
يبتسم غروسمان: «نعم, ولكنه صعب جداً بالنسبة لنا. فلا أرى الأمور كما تراها أنت. لا أعتقد أن عليك أن تكون متديناً لتصبح يهودياً. لا وجود للربّ God في حياتي ولكنني يهودي كلّما أمكن. إذا تريد أن تفهم أسرائيل فما عليك إلاّ أن تنظر إلى حرب الأيام الستة. تلك الحرب غيّرت كلّ شيء. أشعر، أنا شخصياً، بأننا كنّا أكثر يهودية مما كنا عليه قبل 1967. دمّرت تلك الحرب يهوديتنا الأساسية فحتى ذلك الحين لم تَعنِ الأمكنة ولا الأبنية ولا الحجر شيئاً لنا. لم تكن مهمة. ما كان مهماً لنا هو الأفكار.
«حصل شيء أساسيّ جداً خلال حرب الأيام الستة. فلأول مرة نستولي على أرض. أنتزعنا الأرض انتزاعاً وفجأة لم ينظر اليهود المتدينون إلى الإنجيل كقصة تاريخية وإنما دليل عمليات معاصر. نعم، بالطبع، أريد أن يكون للإسرائيليين درباً للوصول إلى حائط المبكى ولكنني لا أريد أن أمتلكه. ولا أريد أن أمتلك كلّ هذه الأماكن المقدسة. إنها جديدة. هذه الفكرة. أن تمتلك أشياؤك. إنها جديدة وغير يهودية إطلاقاً.
حذّرني الناس بأن الإسرائيليين صاخبون وجدليون. ولكن ديڤِد غروسمان على العكس من ذلك، ها هو يجلس على أريكتي البيضاء في هامستَد. وبمجرد ساعة قضيتها في جلسته الفكرية مكنّتني أن أدرك بأنّ زيارتي المُخططة هي غير كاملة بشكل يثير الضحك. إذ لا تستطيع زيارة إسرائيل دون زيارة توأمها، جانبها الصغير. فما معنى ذهابك إن لم تمشِ خلال المرآة نحو الأرض المحتلة –فحتى اللّغة متواصلة- فيما قد دعوناها، ومنذ اتفاقية أوسلو في عام 1993، الأراضي الفلسطينية، إلاّ انها يوماً ما –في حلم أناس آخرين، فهذا الشرق الأوسط حيث كلّ امريءٍ يحلم- يوماً ما قد تُدعى دولة فلسطين؟
عند وصولي إلى تل أبيب أندفعُ في الطريق الكاليفورني العام برفقة سيغال كوهين Sigal Cohen، المترجمة الصبية الظريفة التي سترافقني أينما أذهب. لقد توقعتُ ضوابط أمنية هائلة وافتخرتُ بالسهولة التي أبحرتُ فيها عبر مكتب الهجرة. لتقول: «نعم، فإسرائيل دولة من السهل الدخول إليها ولكن من الصعب الخروج منها».
في فندقي الغربي الطراز المقرِف في مركز المدينة كان مضيفي الرئيس كِيث لورنس Keith Lawrence ينتظر. ضعيف للغاية كأنه سمسير Teddy Boy ببنطال مستدق وجاكيت بدون ياقة. قدّم له قهوة الكاپوتشينو ليتصرف وكأنّه في شارع أولد كومپتن Old Compton. هو الوجه الحديث للقنصلية البريطانية. وليس بالأحمق الألمع الملتحيwhiskered old buffer الأصيل. هو الرجل الذي يجلب سلع مثل البضائع والدعارة إلى تل أبيب. مضى عليه هنا ثلاثة أشهر وهو في غاية البهجة. يظلّ يقول إنّ تل أبيب جذّابة جنسياً وهي نوع المكان الحدوث لا سيّما كعكة الشاطيء، ويتحدث أحياناً بصورة غير متوقعة عن الـ«طنين» buzz. فندخل في نقاشات طويلة عن الهواتف النقّالة. أحاول أن أكتشف مم يتكون الطنين بالضبط لكنّ الجميع يخبرني بأن الكلمة تتعلق بالجلوس على المقاهي والدعارة. قال لي أحدهم بعد ذلك إنّ تل أبيب هي عاصمة الدعارة في العالم.
لا أملك فرصة للمراقبة فعليَّ الذهاب لأكل سمك الإبراميس البحري المشوي في مطعم فاتن يطلّ على البحر بالقرب من ميناء حيفا، مع المخرج المسرحي الإسرائيلي إيران بانيَل Eran Baniel. إيران رجل أنيق الطلعة في أوائل الخمسينات، ملتح، عريض المنكبين ومتناسق، يرتدي بذلة من الكُدري الأسود. نشرب الآن مشروب رَد مرلوت Red Merlotماركة روث تشايلد Rothchild ونتحدث عن الإنشقاقات التي نشأت في إسرائيل بين الإسلوبين العلماني والديني في الحياة.
إثر تأسيس الدولة، ضمن المتدينون المعتدلون مرتبة خاصة. فمن دخل اليَشيڤا yeshiva [المعهد اللاهوتي اليهودي] لدراسة التلمود أُعفي من الخدمة العسكرية وصُرف له مرتّب من الدولة. كان عدد الطلبة حينها خمسمائة طالباً. ولكن مع بداية التسعينات وصل العدد إلى أكثر من مائة ألف (100,000) طالبٍ «يعيش فعلياً على الدولة مدى الحياة». ما يقوله إيران.
«على مدى سنواتٍ اعتقد اليهود حين يضطهدك غير اليهودي الأجرب goy فلَكَ الحقّ أن تخدعه. تنثبت حينها صحة وصْمة اليهودي الذي يبتسم لك حين يخدعك. حسناً، الآن نحنالجربان. إسرائيل هي الجربة. وأصبح المتدينون المعتدلون اليهود هم اللصوص. يذهبون إلى مَنْ يُريد أن يصبح رئيساً للوزراء ليقولوا له: نعم يمكنك أن تأخذ أصواتنا ولكن إن وعدتنا فقط بأن تعطينا نقودنا. فيبتسمون ويبتسمون وينهبون البلاد نهباً أعمى. لا يخدمون في الجيش. ولا يعملون. لا يعملون أيّ شيء. مثل شيخوف Chekhov، ثمة من يناهز الخمسين عاماً ويدّعي بأنّ يدرس طوال حياته».
من الواضح جداً أن إيران يهودي علماني. تغيّرت حياته منذ أن شارك في انتاجه الشهير لرواية روميو وجولييت Romeo and Juliet. عُرضت في وسط القُدْس. مثّل الفلسطينيون دَور عائلة الكاپيولية Capulet واليهود عائلة المونتاغيو Montague. استغرق المشروع ثمانِ سنوات لأن يُنجز وخمسة شهور من التدريبات مع المخرج الفلسطيني جورج إبراهيم المسؤول عن آل كاپيولية وإيران يدير آل مونتاغيو. فتحت التجربة بأكملها عينيه. أيّ فلسطيني يرغب بمشاهدة المسرحية عليه أخذ رخصة من وزير الثقافة الإسرائيلي ومكتب رئيس الوزراء ووزير الدفاع. بالنسبة للعربي، أصبحت حتى مشاهدة مسرحية فضلاً عليه وليست حقاً له.
في هذا العمل، كره آل كاپيولية بالفعل آل مونتاغيو. لم يكن العمل عن الحبّ؛ بل، عن الكراهية. لم يحتج أيّ من الطرفين البلاغة في بداية الأمر. يقول إيران: «تعرف ذاك المقطع حين يتواجه الفريقان ويبدآن السِباب النابي القاذف «تبّاً لكم fuck you يا آل مونتاغيو» و«تبّاً لكم fuck you يا آل كاپيولية». قطعنا كلّ ذاك لأن الإسرائيليين والفلسطينيين يعبّرون مباشرة عن مشاعرهم: التقط حجراً وارمه مباشرة».
قال الفلسطينيون منذ البداية: «لن نرضى بكلّ هذا الهراء حيث علينا أن نتراضى في النهاية ونقول سيكون كلّ شيءٍ على ما يرام». وكإسرائيلي أهبل، اعتبرته مسألة شخصية. أُهنت. وقلت لقد تصافح رابين وعرفات، فلماذا لا تتصافح الشخصيات في المسرحية؟ وبالطبع، حين تبدأ فقط بالنظر إلى نفسك بأنك قوة الاحتلال وهم المحتَّلون –ويعني كلّ هذا- عندها تتوقف عن أخذ الأمور مأخذاً شخصياً، وكإهانة شخصية».
يقول إيران إنه لم يفهم الإحتلال حتى قام بهذا العمل. «معظم الإسرائيليين لا يلاحظون الفلسطينيين. لا يرونهم. أرأيت كيف يسوق الإسرائيليون؟ هم لا يسوقون. هم يمتلكون الطريق». ويعلو صوته الآن: «هل رأيت الأراضي الفلسطينية؟ أنظر إلى كيفية توزيع المياه. في المستعمرات، ترى مشهد الإسرائيليين القذر وهم يجلسون حول حمامات سباحتهم بينما يحمل الفلسطينيون ماء شربهم في صفائح يدوية». ويستخدم عبارة سمعتها سابقاً: «ليست باليهودية. سلوك ليس يهوديّ الديانة».
يُشوّقني إيران أكثر حين يحكي لي عن ممثلة عمل معها وقد أصبحت متدينة. جاءته يوماً لتخبره بأنها قررت ترك التمثيل لأنه خطأ. كلّ المسرح خطأ وكلّ ابتداع قصصي هو خطأ. الربّ God يخلق القصص. أيّ حقّ نمتلكه نحن لاختراع قصصاً جديدة؟
أقرأ جورج ستاينر George Steiner الذي يحاول أن يبرهن بأن اليهود غير مؤهلين ليكونوا فنانين. فالدافع اليهودي يجب أن يُعرف ولا يُخترع. العالم موجود كي يُدرك. هو عمل خالد كي تحاول أن تفسر تعقيداته. فلماذا تخلق بلا براعة تعقيداً جديداً؟ ليست الصدفة هي التي جعلت من العلماء والمنّظرين يهوداً –آينشتاين وفرويد وماركس. نعم، ثمة قصصيون مثل كافكا وپراوست بيد أنهم حالة استثنائية. وكما الدراسة التلمودية التي تنبني على أفضل شيء هو العمل والتعلّم. أمّا البقية، فلِمَ يُنافَسُ الإله عليها؟ ولِمَ ابتكار القصص الخرافية؟
بالصدفة، يجري التدريب على عملي الابتكاري المعتدل، نظرة أيْمي Amy’s Viewحالياً في مسرح كامَري Cameri إحدى مسارح إسرائيل المهمة؛ ولسبب ما، يقع في مركز تسوّق مُوحش؛ يعلم الله فقط أين يقع في مركز تل أبيب. وبعد أيامٍ، نحاول اختراق الشوارع المُزبلة إليه. فيقول: «كم غريب أن يشعروا شعوراً قوياً بأنها أرضهم فما الذي يفعلونه بها؟ النفايات في كلّ مكان. يرمون القناني الپلاستيكية من نوافذ السيارات ويضعون أبراج الأسلاك الكهربائية في الأرياف. تَقذِف محطات القوّة الكهربائية الدخان الأسود بقوّة. ينتظرون أرض الميعاد ألفين سنة، وكلّ ما يفعلونه بها هو تلويثها».
في التدريبات، يدور الكلام حول مراسيم الأمس لتقديم الجائزة الإسرائيلية المماثلة للأوسكار. كلُّ خطابٍ للقبول هو عن السياسة. رثتْ أحسن ممثلة اغتيال رابين بينما يتهم أحسن ممثل رئيس الوزراء بالخيانة ويدعوه للذهاب لغلي رأسه. يثير التنميق حُنق أحد الحضور اليميني الفكر مما جعله يثأر برمي قنبلة مزيفة فكان على الجميع مغادرة القاعة. وكما قال مُنّظم الحفل بنبرة حزينة لقد «ضاع كلّ التشويق الذي يفضي إلى برنامج أحسن فيلم».
تطرح مسرحية نظرة أيْمي أسئلة على مدى الساعتين. أقول في أحد المواضع تدور المسرحية حول كيفية اننا لم نعد نتوقع أن يُؤيد المجتمع عقائدنا. فقيمنا الوحيدة هي قيمنا الخصوصية. آخر سطر من المسرحية هو: «وهكذا فنحن وحيدون». أقول: ربّما تكون إسرائيل أسوأ مكان في العالم لتمثيل المسرحية إذ ما زال الناس هنا يتجادلون بانفعال في مستقبل بلادهم. بينما في انگلترا يمّثل توني بلَيْر Tony Blairكلّ الأشياء لكلّ الناس. بماذا يعتقد؟ لا أحد يعلم. ماذا سيفعل؟ كلّ ما هو مرغوب. لا يُخبرنا البتة. وفي الحال يقاطعني ممثل إسرائيلي: «أرجوك أرجوك إرسل لنا توني بلَيْر».
في الحقيقة، يجعلني المسرح أنفذ صبري لأنني في توق لقضاء السبوتية Sabbath في مستعمرة شَري تيكبا Sheri Tikva اليهودية التي تقع داخل الأراضي الفلسطينية ببضعة أميال. استغرقنا ساعات ونحن نشقّ طريقنا لنخرج من المدينة في عصر يوم الجمعة، وفي زحمة ما قبل السبوتية، وأخيراً، تتلاشى تل أبيب وينفتح الطريق. أتذكر مدرستي الدينية في أيام وعصارى الآحاد في الرواق الخشبي الفاسد الهواء في منطقة بَكْسهِل-أون-سي Bexhill-on-Sea. أنظر من شباك السيارة لتبدو التِلال الحجرية وبساتين الزيتون في الطبيعة الريفية المتربة مألوفة وكأنّها لوحة من الذاكرة.
عليّ أن أكون حذراً الآن فبعد عشرة دقائق يقتحمني شعور من تلقاء نفسه. تغيب ذاكرتي، أحلم، ربّما بالنبيذ الإسرائيلي والسمك الطازج، وفجأة، وفي الريف الطلق، ينتابني شعور وأنا أنظر من الشباك بـأن اليهود لا ينتمون هنا. شعور غير متوَقع إطلاقاً، وبالطبع، ضمنياً مثيرٌ إثارة تجعلني أشعر بالذنب والإستحياء لِما قد يعرف مَنْ يجلس في المقعد الخلفي ما أفكّر فيه. حتى الآن، كنت في تل أبيب، المدينة التي في ظاهرها على الأقل، تبدو مُغالطة وغربية الطراز؛ وبالطبع، سَحروني الممثلين والمخرجين الذين قابلتهم، ولكنني أنطلق عبر الأراضي الشاسعة الكِبَر –أشعر بالسمات العربية للإقليم، أحسّ بالأرض، الإقليم الحارّ العظيم يمتد نحو يميني، أرضٌ عربية تلو أرض عربية -ولأول مرّة أفهم كم غريبة وكم فظيعة تبدو إسرائيل للعين العربية.
متزعزعٌ قليلاً الآن ومرتاب من أموري.. نقترب من الضفة الغربية. لقد علمتُ منذ مدة بأن سيغال لم توافق على زيارتي للمستوطنات. وإذ نعبر الآن فإذا بها تنسعر، تتحرك في مقعدها وتبدو كثيرة التشّكي: «لن أفعلها، لن أفعلها لولاك». والسائق الإسرائيلي غير سعيد كذلك. «حين خدمنا في الجيش ضيّعنا شهوراً في حراسة هذه الأماكن، نحمي أناساً ما هم إلاّ مصدر أذىً». وتقول سيغال: «إنها ضد مبادئي» أمّا أنا فتمسمرت بروعة الطريق العام ذي الأربع شوارع الذي يقطع الوادي ليّوصل… حسناً، إلى اللامكان. إلاّ لهذه المستوطنات الصغيرة.
أفترض أنني كنت قد توقعت شيئاً رائداً. كان في بالي أن أجد المستوطنات كتلك التي في الغرب البري الأمريكي، مبانٍ خشبية معلقة وكلّ شيءٍ موحل ووقتي. شتّان. انذهلت حين انحدرنا بهدوء نحو منطقة ليست كمِنطقتَي بَلْ أيْر Bel Air أو سانتا بربارا Santa Barbara. في أحضان التلال العربية تقع منجمعات* الطبقات الوسطى في الريف الطبيعي الجميل بمنازلها المنفصلة وكلّ بمرجه المستقلّ. هذا أقرب ما يمكنني وصفه، بيد أن الحواجز والحرس المسلّح تجعلها تبدو وكأنّها واحدة من مدن ستيڤن سپيلبرغ Stephen Spielberg التي يرغب فيها أن يُري وصول الغرباء من كوكب آخر لتدمير الضواحي العادية عن بِكرة أبيها.
وكأنّ هذه وحدها لا تكفي كمفاجأة، أوّدع سيغال –فهي بالتأكيد لن تظل هنا- وأنا لا أصافح رجلين ملتحيين من المتعصبين إنّما أصافح داني وسارة وايس Danny and Sarah Weiss الذين يتبعثر دارهما ذو الطراز الأمريكي بأوراق من جداول الدلتا Delta ونسخة من جريدة نيويورك تايمز New York Times. سارة ضعيفة وناعمة ومنفتحة الأسارير في الأربعينات من عمرها. وداني أكبر منها، مُضنىً من الترحال حول العالم بصفته الوكيل المسؤول لمغنّي الأوپرا. اهتزّ ابتهاجاً حين علم أنني كاتب مسرحي واعتزمُ قضاء السبوتية لأختار بإمعان فكري مخرجاً. فهل يفي المخرج ترَڤَر نَنّْ Trevor Nunn بالغرض؟
في الداخل، يلعب أطفالهم ويتراكضون في البيت ويهاتفون بمرحٍ أصحابهم لآخر مرّة قبل أن يُنّظموا توقيت الإضاءة التي يجب أن تنفتح وتنسد آلياً حال بدء السبوتية. مُحرّمٌ عليّ أن أرفع قلمي أمامهم لذا فسأقضي اليومين الآتيين أندفعُ بعُجالةٍ إلى غرفتي لأكتب ملاحظاتي. لن يمانعون طالما لا يرونني. ثمّة التباس اليوم حول اللحظة الأخيرة للشروع بالسبوتية فيما لو كان البدء في 4:15 أو 4:16 عند المغيب إلاّ ان الرجال ليسوا كالنساء إذ يُسمح لهم بثمانية عشر دقيقة إضافية للاستمرار بالقيام بأعمال غير دينية حتى 4:33 ولم يخبرني أحد بالسبب.
بعد أن عدنا من الهيكل (Synagogue) سيراً لحضور وجبة الطعام العائلية يبدأ داني بإطلاعي على سبب وجودهم هنا. فبعد مضي سنوات ضاقوا ذرعاً من أمريكا باعتبارها مكان خال من القيّم الروحية وحيث الحياة فارغة تماماً ولا معنى لها. عندما أتوا هنا لأول مرّة، عاش داني وسارة في المدينة إلاّ أنّ سارة أرادت أن تشترك فيما تدعوه بـ«المساهمة» أي أن تعيش في منطقة متنازع عليها. ما يقيمونه هنا، عدا الإحساس بأنهم يبنون شيئاً، هي الطبيعة الودودة لما أتعلم أن أدعو ليس بالـ«المستعمرة» إنّما «المنجمع». عندما ذهبت سارة إلى الولايات المتحدة لإسبوعين أصرّ جيرانها على استضافة أطفالها الستة جميعاً. هؤلاء الأطفال هم نفسهم يلعبون بسلامة في الشارع. كحال أمريكا قبل التدّني.
حول مائدة العشاء كلاهما غاضب للاستقبال البارد الذي تلقاه حالياً بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل المثير للجدل من الأمريكان اليهود. فالأمريكان غاضبون لأنه منح المتدينين المستقيمين الأرثودوكس حقّ تقرير من يكون يهودياً. يقول اليهود في الولايات المتحدة بأنهم يدعمون إسرائيل بولاء ويرسلون لها مبالغ هائلة من الأموال. لذا فما الحقّ الذي يملكه بضع من الحاخامات لتسنين من يكون يهودياً ومن لا يكون؟
داني وسارة غير متأثرين بالحجة هذه. ويشعران بالخزي من الدعم الأمريكي. «بالتأكيد يدعم الأمريكان اليهود إسرائيل. ولِمَ لا؟ هي مصلحة ذاتية بسيطة. فإسرائيل هي بوليصة التأمين للشعب اليهودي بأكمله. لا يؤثر ذلك بي إطلاقاً». ويقول داني: «كلاّ، هذه الحجة هي حجة الإعتناق. فالديانة اليهودية هي إحدى أهم الديانات في العالم لها نظام قانوني بالغ التطور. ولا يكفي لأن تقول بأنك ترغب أن تكون يهودياً. تماماً كما الاشتراك بنادٍ ريفي فلا تستطيع الدخول إليه وحسب».
تقودنا هذه المناقشة الحارّة تلقائياً إلى أحرّ النقاشات جميعاً: ما الحقّ الذي يمتلكه أناس كداني وسارة ليكونوا على أرض سُرقت بالإستيلاء، وكيف يردّون على تهمة التحريض المتعمّد؟ يقول داني إنّ المسألة واضحة. إي نعم، هو شيء جيّد أن تبني دولة جديدة، تبني مدناً. بعد الشواح[1]Shoah الذي هو شيء جيد بحدّ ذاته. ولكنّ إسرائيل يجب أن يكون لها جذوراً أيضاً. لا يمكن أن تكون مجرّد دغل معزول. يجب أن تكون المكان حيث الحياة تتعمق في داخل التربة.
لم يَعِد الربّ اليهود تل أبيب أو حيفا. ما وعدهم به هي أرض يهوذا والسامرة. والتبرير واضح في الكتاب المقدّس. في 1967، حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي ملك الأردن من أن يشترك مع أيّ هجوم عربيّ، لذا فلا يلوم إلاّ نفسه حين تغلغل إلى الشرق لاسترداد أراضي الكتاب المقدّس. لم يبدأ الإسرائيليون حرب الأيام الستة فقد أُجْبِرَت عليهم. وصارت أعظم نصر في التاريخ اليهودي. فتضيف ابنته بهدوء «كلاّ، بلّ كانت أعظم انتصار في التاريخ كلّه».
يقول داني: «سألْتَنا ما الفرق في العيش بين إسرائيل والولايات المتحدة؟ أطرحها أمامك كالآتي: يوم الذكرى Memorial Day هنا هو اليوم الذي نتركُ فيه سياراتنا أينما نكون وفي منتصف الطريق لنقف دقيقتان نُحيي ذكرى الأموات. في الولايات المتحدة، هو يوم تنزيلات الفُرش. يوم الذكرى. تنزيلات! فرش رخيصة! هذا كلّ ما يعنيه اليوم. هنا، إن كنت علمانياً أو متديناً، تبكي في ذلك اليوم حين استعيدت أراضي الكتاب المقدس».
أقول، تبدو شاذّة ضرورة تواجد مقاطعة في قلب الأراضي الفلسطينية في الخليل حيث تحمي أربعة آلاف قوة اسرائيلية 521 عسكرياً يهودياً. إنّها لمهزلة. لا يوافقني داني. الخليل هي إحدى أهم منطقتين مقدستين يهودية لأنها أول قطعة أرض اشتراها إبراهيم. وهي أول صفقة تجارية قام بها يهودي حين اشترى إبراهيم [مدينة] الخليل بمائتي شيكل. ويضيف داني بأنّ هذه الصفقة لم تنلغِ بتاتاً.
علاوة على ذلك، ففي القُدْس، وعلى قبّة الصخرة قدّم إبراهيم ابنه إسماعيل قرباناً إلى الربّ. وداوود هو الذي اشترى القُدْس –وقد تمّ التحقق الآن من السعر ووجد بأنه أربعمائة شيكل، ومرّة أخرى يقولها داني ضارباً المنضدة بأصابعه إنّها صفقة لا تقبل أيّ جدل، مسّجلة وقانونية- وسليمان الذي بنى الهيكل الأول هناك. فدمّره البابليون. بنى هيرود هيكلاً آخر دمّره الرومان. إنّ الغرض الأساسي لحياة اليهودي هو بناء الهيكل الثالث الذي سيليه الوفاء بوعد اليهود redemption والتنبوء بمجيء ملك اليهود[2] Messiah. في يومٍ ما، كلّ هذه الجوامع العربية التي تقف على الصخرة هنا ستختفي وسيرتفع الهيكل الثالث محلها.
كلّ هذا والأحوال مريحة على نحو مقبول –نأكل ونشرب برضا- إلاّ أنّ الأمور تأخذ مسرىً قتاليّ بوصول جارتهم الكندية مريم. إذ ترتفع درجة الحرارة بالحال. كانت مريم من أوائل المستوطنين في الأيام الريّادية. تقول: في الثمانينات كان بإمكانك التسوّق بحريّة في المدن العربية غير أن الإنتفاضة الفلسطيينية دمّرت كلّ شيء لاحقاً. بعد ذلك عادت مريم إلى تل أبيب ولكن، حسب قولها، «عندما وقّعوا معاهدة أوسلو، قلت: وهكذا تعود حليمة…» وبتحدٍّ قررتْ أن تساهم بعودتها إلى المستوطنة.
ولهؤلاء الناس، تعتبر أوسلو، التي هي أول معاهدة سلام بين الفلسطينيين واليهود خيانة عظمى. والرجل الذي وقعها –إسحق رابين الذي اغتيل لاحقاً برصاصة يهودي أصولي- هو بالتأكيد الخائن العظيم. تقول سارة: «كان وزيراً للدفاع ولكنني لم ألاحظ إطلاقاً بأنه دافع دفاعاً كبيراً». ومريم تقول: «الأسوأ من ذلك، بدأنا الآن فقط نعرف حقيقة اغتيال رابين». وتستطرد: لقد تبيّن في النهاية بأنّه كان يعلم مسبقاً بأنه كان سيغتيل ولم يعمل شيئاً حول هذا الأمر. «لِمَ لَمْ يبتع صليباً ليصلب نفسه عليه»؟
عندما ذهبتْ مريم، تعرضُ عليّ سارة أن نتمشى في الشوارع المهجورة. ليلة مظلمة، وتستطيع أن ترى من بُعد أنوار القُرى العربية الآيلة للسسقوط وتسمع الموسيقى الخفيفة تتجه نحونا. تتجه سارة نحو محيطها المزدهر: «يقول لنا العالم كلّه: جَمِّدوا! جَمِّدوا بناء المستعمرات! وأقول: أن تقول لشخصٍ إجمَد كأنْ تقول له مُت».
أسأل عن صحة محاولة تجنب (اليُّپيز) [3]yuppies المحترفين الشباب الماديون دخول الجيش. «لا، لا، هذه ليست الحقيقة. قرأت قصصاً من هذا القبيل في الصحف. حقيقة الأمر أن هؤلاء الناس قد تعبوا. والحرب طال أمدها. من الصعب أن يفهم الناس الغرباء الضريبة التي تُفرض عليك، العيش في خوفٍ دائم، المعرفة المستمرة بأناس فقدوا أبناءهم وبناتهم، وأخوتهم وأخواتهم.
«يجب علينا أن نكون هنا. من المهم غاية الأهمية أننا هنا لأن التاريخ يعلّمنا انه بدون بقاءنا هنا لن نحصل على أية فرصة إطلاقاً. لا أتحدث هنا عن المحرقة فحسب. ستجدهم في كلّ حقبة من حُقب التأريخ متى ما ظنّ اليهود بتوافر لحظة أمان يبدأ الإضطهاد ثانية: تُضحكني أمريكا عندما تقول بأنها حليفتنا. أحقاً؟ كم يستغرقك من الوقت للقدوم هنا؟ لا، لا، لا، نحن ولا أحد سوانا. هناك قرية عربية، وأودّ أن يتمكنوا من العيش وإيانا. أوّد أن يكون ذلك ممكناً. ولكنني لا أدري. ثمّة خيط رفيع من عدم الثقة بيننا».
أسألها ماذا تعني؟ ثَمّة صمت. ثُمّ: «في الصميم، أظنّهم يودّون قتلنا»
نلتزم الصمت الآن إذ نتوجه بالسير نحو الشوارع المنّظمة العطرة، تلتمع النجوم فوقنا وأنوار القرى العربية خافتة بصفار النيكوتين. حتى الآن وأنا أعوم في الحَيْد المرجاني من هذه الجِدالات، ألاحظ شيئاً مهماً هنا، ألتقط برق لونٍ هناك. ولكن الآن مع سارة أنا في البحر، في أعماق الشيء، ولم تعد تلامس قدماي القاع.
أقول، إنّ ذلك كئيب للغاية ومتناقض في الوقت نفسه. فمن ناحية تخبرني سارة بأن على اليهود أن يكونوا هنا. ومن ناحية أخرى، تقول بأنهم محاطون بأناس يوّدون دوماً قتلهم. ما الطريق قُدُماً؟ «ليست قصاصات أوراق تُدعى أوسلو». «كلاّ، أدري ما تفكّر فيه وما هو ليس بالطريق قُدُماً. إني أسأل ما هو الطريق قُدُما؟ً» «أنظر إلى أطفالي وأودّ لهم أن يعيشوا السلام الذي لم أعشه». «ولكن كيف يأتي؟» «لا أدري»
سيرٌ أكثر، وصمتٌ أكثر، وبأكثر تشاؤم هذه المرّة.
«وعدنا الربّ بالأرض، ولكنّه لم يعِدنا إطلاقاً بأن الأمر سيكون سهلاً. لا تأتي إلى إسرائيل إنْ ظننت بأن الأمر سيكون سهلاً. قد لا تكون متديناً لكنّك في الحقيقة تحتاج لعقيدة راسخة. نبدو منقسمين عن أي وقتٍ مضى من تاريخنا، ولكن في أعماقنا، يحترم العلمانيون المتدينين. وإذا أتت اللّحظة الحاسمة سنتحد مرّة أخرى»
يهزّني هذا الكلام، أنا مُعجبٌ بسارة. ولكنني كنت سأُعجَب بها أكثر إنْ لم تستمر الآن بإخباري أن پيريز تعدى حدوده، وأنّ حزب العمل كان فاسداً وأن بن غوريون كان شيوعياً. وأسوأ شيء حدث حين وصلنا البيت. تسألني فيما لو كنت متزوجاً ولديّ أطفال. أشرح لها بأن زوجتي يهودية. هرب أهلها من تركيا. اختبأ والداها من النازيين لمدة سنة في حظيرة في فرنسا. اتخذت زوجتي دربهم العكسي تماماً. إذ لم تكتفِ هي بالزواج من رجل غير يهودي إلاّ أنّ إحدى بنات عمومتها تزوجت رجلاً أسود. ابن عمها الآخر يعيش مع عربية. «والمُضحك في الأمر أن العائلة اليهودية متقبلة الأمر» وأقولها ضاحكاً «البنت العربية هي التي لا تجرؤ إخبار أهلها!»
أشعر أن سارة تنسحبُ مني. فحتى قبل هذه اللحظة كنتُ الملاحِظ. أمّا الآن فأنا زوج لمثيلية. «ما تقوله إذن هو عدم تواجد اليهود في الجيل الآتي. اخبر زوجتك أنها قد تشعر أنها مقبولة. لكن اخبرها بأن تتذكر: كي تنقبل ليس بالضرورة أن تكون المثيلية».
من الواضح أنني وصلتُ إلى نقطة دنيا، وفي الصباح التالي لم أكن غبياً بعد أن خرجت من حجرتي ذات الباب الفولاذي المضاد للقنابل، أن أُباشرَ على ما يبدو لي محادثة حادّة. لا شيء يعيب فلسفة هكذا نريد أن نعيش ما دمتَ لا تمسّ الخطر الحائم حول: هكذا نريد أن نعيش، فاذهبوا إلى الجحيم So Fuck You.
ولحسن الحظّ أن مزاجي لم يتعكر لأننا عند الظهيرة انحدرنا بخفة نحو سفح التلة لقضاء بعض الوقت مع عائلة مريم والتي ترتبت حول مائدة طعام المطبخ، يأكلون اليخنة الشهية المنظر. للأسف، لانستطيع أن نتذوقها فاليوم هم يأكلون اللحمة ونحن نأكل منتجات الألبان. لو كنّا ألماناً لتمكنّا من ذلك إذ أنّ الألمان يحتاجون إلى ثلاث ساعات فقط للتحوّل من نوع طعام إلى آخرَ. أمّا الدانماركيون، فيُسمح لهم بساعة واحدة فقط للتحوّل. إلاّ أن طريقتنا هي طريقة أوروپا الشرقية التي علينا فيها أن نستمر لمدة ست ساعات، فبدلاً من التحوّل شربنا وتحدثنا فقط وكلّ شيء ظلّ على ما يُرام.
ناقشوا أمر عدد من الرؤساء الأمريكان بمن فيهم نكسون الذي قالوا عنه أنه لم يكن شخصاً جيداً «لكنه أنقذ وجهإسرائيل فهو جيد بالنسبة لي» ويشرح داني: بالرغم من أن نكسون سمّى كيسنجر صبي اليهود وتكلّم عن الناس بدناءةواصفاً إياهم باليهود البذيئين (كايكس) kikes[4] إلاّ أنه لم يكن مناهضاً للسامية لأنه كان بذيئاَ مع كلّ الأجناس بالتساوي، كما مع المِك Micks[5] والطليان [6]Ities. «لقد كان مناهضاً للسامية ولكن الحقيقة ليست كذلك» وبوش كان خزياً وعاراً، وبالتحديد لأنه لم يقضِ على صدام حسين؛ وكان ريغن ممثلاً وكارتر مصيبة.
يوّد الجميع أن يعرف سبب وجودي هنا، وضمن الحديث أتطرق بالقول إلى أن لي مسرحية تُعرض في مسرح الكامري. «آه المسرح! المسرح! حسناً إذاً أنت تعرف بعض الأشخاص الأقحاح من اليساريين». ويقودنا خبر موعدي مع ابن مناحيم بيغن المشهور، بَنْي، للرجوع إلى موضوع رابين وزوجته لِيّا («قبيحةٌ، قبيحةٌ جداً هذه المرأة لأن تُرى» يُعلّق أحدهم قاذفاً قذيفة مبكرّة) وهو وما عرفه عن اغتياله. فُجأة، يتحوّل الجوّ إلى بُغضٍ تامّ. ويصيح رون زوج مريم العجوز بأنّ الجميع على علم ان القاتل قد رتّب له عميل محرّض من الحكومة ما قام به. فعملية الاغتيال بأكملها هي مؤامرة لتقويض الحزب اليميني والمستوطنين. وتصبح سارة مهذارة بالندّ «رون، رون، عليك أن لا تلفّ الحقائق. حدث وإن اتفقت مع نظريتك إلاّ أنّها لم تُثبت بعد». ولكنّ رون يثور الآن حول كيفية عدم تمّكنك من الوثوق بأحد، ثمّة عملاء في كلّ مكان، لذا يقترح داني بلباقة أن تنرك المكان. في الشارع بعد ذلك، يخبر داني زوجته أن تُهَدِّئ من روعها: «كوني هادئة عندما تتحدثين». «أنا هادئة. هادئة جدّاً».
ولكنني قد تعلمت شيئاً مهماً، وهو أنّ لا شيء يُقلق المستوطنين أكثر من فكرة أن موت رابين هو خطأهم. فقتل قائد يهودي على يد يهودي ينقل صورة ساخرة لصميم معنى وجودهم. ولكن لا يملك مستوطنان ستراتيجية واحدة كي يدحضها. لذا فهم يختارون ما يروق لهم مفككين الحدث بالقوّة النصّية ذاتها التي يطبقونها على التلمود. الشخص الأول: لم يكن بإمكان نتنياهو معرفة وجود العميل السرّي المزدوج في زحمة تلك الليلة لأن التقرير يخبرنا… الشخص الآخر: نعم، ولكنّ التقرير الرسمي ذاته قد حررته عناصر موالية لـ… وهكذا.
وفي الوقت نفسه، وبجانبي، سارة التي لا تنفكّ تفكيراً بسيرة رابين. «يا ديڤِد، عليك أن تفهم بأن رابين لم يأتِ من بيت محترم، لم يكن مخلصاً لزوجته لِيّا رغم أن الصحافة لا تخبرك بالطبع…». وأُصدقكم القول، صرت الآن مُتعباً سَئماً قليلاً –فالجهل والفَزَع يُشكّلان تنويعة (كوكتيل) غير سعيدة- وعلى مائدة الغذاء أحاول أن أتجنب كلمات مِقداحة مثل رابين أو الإنجيل. ولكن في آخر الوجبة، نجلس على مقعد القضاء. تُفسّر إحدى بناتهم مقطعاً من نصٍّ إنجيليّ. تحكي لنا القصة الرئيسية –شيء ما حول شيخ جليل (بطريرك) عليه أن يذهب إلى مكان ما ليتزوج –وتُقدّم شخصيةً لفتاةٍ سنها يتراوح امّا ثلاث سنوات أو أربع عشرة. تقول: لم يتفق حاخامان على سنّها بتاتاً.
وبالحال يبدأ النقاش. تقول سارة، لا يمكن للبنت أن تكون في الثالثة من عمرها إذ أنها لاحقاً في القصة تُزوّد عشرة جِمال بالماء. «هل جرّبت في حياتك إرواء جمل؟ الدِلاء ثقيلة جداً ويحتاج كلّ جمل إلى أربعة دِلاء على الأقلّ. فكيف تتمكن ذات الثلاث سنوات من ذلك؟» وتقلّب إبنة أخرى عينيها بحركة تجاه السقف –هي غير المتدينة- ويصيح أحد الأبناء بأن البنت أنجبت أطفالاً: «هل لكِ أن تُخبريني بأنّ لها أطفالاً وهي في الثالثة»؟
وفُجأة يصرخ جميع من على المائدة، وأنا جالس باستغراب فقط –مستغرب بمعنى التعجّب- فلِمَ لا يطرأ لأحد إطلاقاً ان القصة قد تكون وبكلّ بساطة خطأ، قد يكون الراوي نقلها سهواً، ولكن لا، هذا الإنجيل، لذا يجب أن يكون صادقاً، ولذا فيجب أن يكون الخطأ خطأنا إن لم نفهمها ولذا نجلس هنا –هل بإمكاننا التوقف للحظة عن الصراخ رجاءً؟- لنتجادل فيما لو كان بإمكان فتاة في الثالثة حمل أربعين دلواً من الماء لإرواء جِمالها.
من يتحدث عن المستوطنين أحسن من بَني بيغن؟ بعد مضي عدة أيام، ها هو ينتظرني في الوقت المحدد في الكنيست في القُدْس في الكانتين ذي الجوّ الديمقراطي حيث بمقدور أناس مثلي ومثل سيغال وكيث أن يختلطوا بأمثاله من الأعضاء المنتخبين من البرلمان. وحين أبدأ بسؤاله عن نتنياهو، يتشنج. «ليس هذا ما تتحدث عنه هنا. أنت هنا لتتحدث عن الإنتداب البريطاني». يُخرِج مفكرة إلكترونية وينقر بغضب على مفاتيحها. «أنظر. ديڤِد هَير: 2:15 الانتداب».
أبلعها بصعوبة وأقول إنّ فترة الحكم البريطاني تجذبني بالفعل، وفي إحدى المراحل أردتُ أن أبحث فيها ولكن ذلك –كيف أصوغها؟- أنا كاتب. لا أستطيع دائماً التنبؤ باهتماماتي. واهتماماتي قد تعمقت. لا يزال بيغن معبساً. هو رجلٌ نحيل، ذو سلوك يبدو نوعاً ما متواضعاً ومتحدياً في الوقت نفسه. عيناه سوداوان كاكاڤيار. «هو نزاع عائلي وأنا لا أتحدث عن العائلة أمام الغرباء». أقول لسوف يعينني لو انه شرح لي السبب وراء ما تعنيه له الكثير: هذه الأراضي المستلبة. لماذا تسبب له معاهدة أوسلو هذه الإساءة القصوى والأذى العميق؟
يحدّق بي. ويقول إنه سيجيبني خلال التعليل الذي كان يحاول أن يفسره لمسألة رسالة بالعبرية القديمة الأسوأ تعقيداً والمدوّنة على حجرٍ طيني يعود إلى زمن هدم الهيكل الأول في 687 ق.م. وما قد جذب اهتمامه هو مدى التآلف المباشر الذي بدا مع الحجر الطيني. «كان بلغة كتاب الملوك Book of Kings وكتاب صامويل Book of Samuel. الشعر النثري فيه أرقى قليلاً من الذي أتداول يومياً إلاّ انني شعرتُ بالراحة التامة معه. فعندما ذكَر الحصاد، بإمكاني رؤية الحصاد. أعرفُ المناخ. أعرف الرائحة والفصول. لقد قرأتُ كتباً عن هذا الحجر ولكنّه أكثر قرباً لي من أن يقرّبه أيّ غريب لي. هذا التقارب الذي أحسسته كان مثيراً للدهشة.
«أترى يا دَيڤِد ما تدعوه بعاطفة هذه الأماكن، هي بالنسبة لي، تأريخ شعبنا بعينه. في هذه الأماكن، نشعر بأن هذه هي إسرائيل، هذه نحن. معظم الأمور الهامة في التاريخ اليهودي دارت أحداثها على مدى عشرين ميلاً من القُدْس. حتى اننا نتمكن من معرفة الصخر الذي حارب داوود David عليه قدماء الفلسطينيين Philistines وذاك المكان حيث بشّر فيه آيموس[7] Amos. من اللامعقول أن نُحرم من حقنا في العيش هنا والسير هنا، من أن نوجد حيث حكم ملوكنا وقضاتنا والأهم من هذا كلّه أن نسير في منحدرات التلال حيث استُنبأ أنبياؤنا. هذه لنا لأنها نحن. نصاب بالشلل بدونها».
أقول نعم، أتفهم هذا –هذا التوق، هذا التوق الروحاني ذو الألفي سنة للعودة إلى الديار- إلاّ أن وقتي الذي أمضيته في المستعمرات عكّر [تفكيري]. فقد قابلت أناساً يختارون الخطر، يختارون العيش في منطقة الخطر بل ويرفضون التغلب على هذا الخطر عن طريق مفاوضة أنفسهم للخروج منه. أليس هذا ضربا من الجنون، العيش دون إدراك للمستقبل؟ «أن تعني أن نترك الأرض، فلا. ولطالما حذّرت «اعط الأرض وسوف لن تحصل على سلام. سوف لن تحصل على الأمان». كان الناس يقولون، حسناً، هي مقامرة تستأهل الدخول فيها. والآن ليَروا النتائج. قُتل مئتان وستون شخصاً منذ أوسلو وجُرح الآلاف، كلّ هذا لأننا كيّفنا أنفسنا مع حلفاء من الإرهابيين والسفّاحين كلما وهبتَ أراضٍ أكثر يزداد الإرهاب. كلّ هكتار تُسلمه لمنظمة التحرير الفلسطينية أو الجهاد الإسلامي يصبح حصناً حصيناً لهم. ما يتوجب علينا مواجهته هي الاحتمالية المشؤومة لتشجيع دولة إرهابية تجاورنا تماماً.
«عندما ترى جائزة نوبل للسلام مُدّبسة على صدر رجل لم تزل خرائطه لا تُصوِّر دولة إسرائيل، تعلم حينها لا شيء تستطيع عمله. فالضبع لا يُغيّر بقعه». أقول: هذا جنون. أين الأمل؟ أين الطريق قُدُماً؟ «الأمل الوحيد الآن» -يرتشف قهوته- «هو تضييع الوقت. لا يمكن أن يكون عرفات هو الحلّ على الإطلاق لأنه سيكون المشكلة دائماً. وما دام جيراني العرب يختارونه، فليس ثمّة أمل بأي شكل من الأشكال.
«يعلم الناس هذا. يعلمونه ولكنهم لا يودون مواجهته. يحومون حوله قائلين «إيه، كم ستكون الأمور مُرضية لو انحلّت بطريقة ما»؟ يعرفون الحقائق بيد انهم يرفضون طرح الاستنتاج. لن يحقق شيئاً».
فاجأنا بيغن جميعاً وخذلنا في الوقت نفسه بتضلعه الثقافي وبتشاؤمه المعقّد المُثبِط للهمّة. وقد دخلتْ سيغال بحالة من حالات الصمت كما لو أن جهد الإنصات دون المقاطعة قد أثبط من عزيمتها. وأمّا كِيث فلم يعد قادراً على السيطرة على نفسه. فالفصاحة الإسرائيلية تُذّكرة دائماً باليانصيب. يدور كِلاهما حول الأرقام. يقول: لاحظ الذبذبات التي معها 48″، 67″، 73″، و93″ تستمرّ بالظهور.
بالطبع انّ بهجة كِيث قد يعود سببها إلى أن هذا اليوم هو اليوم الذي سيخلص فيه مني. إذ حالما أعبر من إسرائيل يجب أن أحصل على متعهدين جُدد من القنصلية البريطانية حيث ننتوجّه اليوم نحو الجنوب عبر إيريز Erezمنطقة العبور إلى غزّة.
لا شيء يهيؤك لصدمة العبور. لقد ذكر أحد الكتّاب ان السياقة من إسرائيل إلى قطّاع غزّة كأنّها الانتقال من كاليفورنيا إلى بنغلادش. إذ أنك تعتاد أشدّ الاعتياد على الطرق السريعة الواسعة وسهولة الانسياق في إسرائيل حتى انّ منظر الغبار، الغبار المفاجيء، زوبعة بُنّية كبيرة فظيعة من الأوساخ الخالصة، لا شيء سواها، ينذرك بحقيقة انك على أبواب مجتمع يكسب شعبه ثُمن بالمائة بالضبط من نقيضها من الأرقام التي تكسبها إسرائيل. بدأتُ وكِيث الرحلة على أقدامنا عابرين القطاع الكونكريتي الذي يفصل البلدين. لوهلة بدا وكأنّه فيلماً من أفلام جون لُوْ كارَيْه John Le Carré، حين حملنا حقائبنا مارّين محاذاة الأبراج المسلحة حتى الطريق الفسيح الخالي. وتماماً وفي منتصف الطريق، كما في الأفلام، أُمسَك، وأُلقى في سيارةٍ تنتظرني لأُساق فيها سريعاً، لكن، عليّ أن أعترف من قِبَل فتاتين ودودتين انگليزيتين.
سبب هذه العُجالة، كما تبيّن، أن سوزانا وپولين، البديلتان الجديدتان، قالتا لي توّاً انني في غضون عشرين دقيقة سأقابل حيدر عبد الشافي. وشافي هو أكثر السياسيين شعبية في غزّة، وانه لشيء من الغموض يُكنِّفُ موافقته لقائي إذ انه لا يرى أحداً. تملؤني هذه الأخبار بالذعر الذي هو ببساطة تامة استعماري النزعة. فلشهورٍ ترّكز فكري على إسرائيل وإسرائيل فقط. والآن أندفع نحو التمييز الفذّ لأكون في مقابلة رسمية مع أحد أهم الساسة الموّقرين، وأنا، أكاد لا أعرف شيئاً.
ومع ذلك، فحين نسير عبر المسلك الأخدودي –لا يمكنكم تسميته شارعاً- نحو مدينة غزّة، أُذل بما أرى. تبلغ مساحة غزّة 45 كيلومتراً في ثمان كيلومترات مربعة. وحتى الآن ثلثها يسيطر عليه الإسرائيليون، نيابة عن ستة آلاف مستوطنٍ فقط. يُحشر حولهم ثلاثة أرباع مليون فلسطيني، نصفهم يعيش في مخيمات اللاجئين التي أُنشأت مؤقتاً في عام 1948.
بالانتباه إلى كومات النفايات المتفسخة، والمساكن النصف كاملة، والقذارة والخراب، تُخبرني سوزانا بأن أي صدمة أشعر بها شعر بها ياسر عرفات وحاشيته. بعد معاهدة أوسلو أتوا إثر حياة منفىً في مدن اليُسر والميسرة مثل تونس ليجدوا أنفسهم في إحدى مجتمعات العالم الأكثر محافظةًَ. وبالرغم من تواجد بضعة فنادق ومطعمين الآن، فثمة القليل من النسوة اللاتي تَراهُنّ محجبات من الرأس حتى القدمين. حتى انك لا ترى ولا واحدة تقريباً بعد السابعة. ففي غزّة يسود جوّ الإنتفاضة.
يُعسعس الليل وها نحن نعود ستون سنة إلى الوراء. ونشقّ دربنا بين الحمير، تقول پولين: «إنّه يوم جميل إذ لم تمطر. حين تمطر، وبعدم وجود شبكات تصريف المياه، يصل الماء في الشارع الرئيسي ألى ثلاثة أقدام إذ يطوف الروث بمحاذاة شبّاك السيارة».
تتواجد حضارة بدائية –سِلال نفايات صفر، هِبة من الاتحاد الأورپي؛ ثمانية عشر طقماً لإضاءة السير، مهداة من الفرنسيين؛ ولغرض ابتكار نظام عمالة عجيب تجدون عدداً لا يُعدّ ولا يُحصى من الصِبية بزيّ الشرطة مُتجاهَلين دَوْلياً. وتقول پولين: «أُفضّل ذلك، فشرطة غير نشطة أفضل من الشرطة الإسرائيلية العدوانية اللعينة».
حالما أُدخلنا في غرفة جلوس حيدر عبد الشافي الأنيقة بدا واضحاً سبب موافقته لقائي. يعتقد أنني محرر جريدة الغارديان Guardian دَيڤِد هِرْسْت David Hirstوبناءً على هذا فانني كاتب صفحتين لمقالٍ حديث فاضح ذي عنوان كالموسى الحادّة خزيّ في غزّة Shameless in Gaza. وحيث أنّ شافي قد استقال مؤخراً من الهيئة التشريعية احتجاجاً على الفساد السيّء السمعة لنظام عرفات، فهو شديد التوق لتهنئتي على عملي. يبدو مناسباً، نوعاً ما، لهذه المدينة العجيبة الخامدة أنّ شخصاً لا يعلم شيئاً هو على وشك أن يقابل شخصاً يعتقد أنه شخص آخر.
ليس من الصعب معرفة سبب شعبية شافي الكبيرة. فهو في السبعينات من عمره ووسيم وسامة رائعة، يضاهي أشراف العرب ذوي الشعر الأبيض في أوجهم، يُقدّم لنا القهوة التركية، مرتدياً بذلة رمادية [تفصال] من [محلاّت] ساڤيل رُو Savile Row [للخياطة الراقية الباهضة الثمن في لندن]. والأكثر من هذا فهو غير منزعج من الفوضى وسعيد للإجابة على أي سؤال قد أوجهه له. وعندما يتحدث ضدّ عرفات فيتحدّث بثقة رجل يعلم انه من الثقة والقوّة السلطوية أن يُمسّ كلامه.
«إذا أردتُ أن أجد أعذاراً لعرفات، وأظنّ بإمكاني القول انه قضى جُلّ حياته في حركة التحرير، ولم يتعوّد إلاّ أن ينال ما يريد. مئات الملايين من الدولارات قد تبخرت ببساطة. عرفات هو الرجل الذي يشتري ولاء الشعب. وفي مجتمع يُهمل فيه القانون ولا يُنّفذ على الإطلاق لا يُمكن لأي شيء أن يكون صحيحاً أبداً.
«فَهِم الجميع أن عرفات ورفاقه عاشوا حياةً صعبة. إلاّ أنهم حين أتوا إلى غزّة مُنِحوا أكثر مما هو معقول بكثير. بيوت فخمة وسيارات وخطوط هاتفية. هل تتعجب من أنها رُفِضت ممن كانوا هنا طوال الفترة؟»
أسأل: وما تأثير انعدام القانون على عملية السلام؟ يضحك. «لا وجود لعملية السلام. وحتى بتظاهرنا بثمّة وجود لهذا الشيء، نلعب لصالح إسرائيل وضررنا. قضيت في واشنطن عشرين شهراً نتفاوض لذا أعرف كيف يفكّر الإسرائيليون. لم يتغير موقفهم نهائياً. كلّ ما يعملون هو استخدام الحقائق الملموسة ليثبتوا وجودهم في الأرض، ليعاملونها بعدئذٍ كقَدَرٍ محتوم. مجرّد خطة ستراتيجية. لا غير». وما شعور عرفات؟ «لا أعلم. فهو يرفض الكشف عن أفكاره. يقول الرفاق إنّه كئيب. وهل لي أن أعجب من ذلك؟»
ينهض شافي ليقدّم الشوكولاته من علبة كبيرة من مِلك ترَي Milk Tray. يُومِضُ بطرفة عين للفتاتين فينطلق وجههما بابتسامة وهما على الأريكة. «لا يُعير الرئيس كلنتن أي اهتمامٍ لأهالي فلسطين الذين كانوا هنا قبل مجيء الإسرائيليين بكثير. يريد توقف بناء المستعمرات. وبالنسبة إليه هو أمر لا يمتّ للمباديء بِصِلة. مجرّد خطة تكتيكية في عملية سلامه. فما يريد هو التوقف المؤقت وليس النهائي.
«إنّ هدفنا الأكثر إلحاحاً هو إعادة تشكيل أنفسنا. فهو الأكثر أهمية من المباحثات مع إسرائيل. إذ لا تستطيع أن تصل إلى شيء إن كنت تعيش في مجتمع ليس له مباديء. حين عاد مُحمّد من إحدى الغزوات، قال: «جئت من جهادٍ صغير لأعود إلى جهادٍ أكبرَ» وحين سُئل عمّ عنى. قال: «جهاد النفس»*. ولكن، بالطبع، هذه الأيام لا يُفكّر أحدٌ بهذه الأشياء».
هي مأثرة شافي أن يُدخل السكينة فينا جميعاً وتُلازمنا السكينة حتى حين نخطو في الطريق الفارغ. أسأل: «أين يعيش عرفات؟» الدنيا مُظلمة ولا حِراك لساكن. نسوق باتجاه البحر. ونعود. منطقة هادئة من البيوت الفخمة. وفي نهاية هذا الطريق البحري العام صهريجان ضخمان. ومسكن عرفات يبدو كغيره من المساكن.
نخرج من السيارة. هدوء. وهدير الموج، موج البحر الأبيض المتوسط فقط. تقول پولين: «ستحدث حرباً أهلية. شيء لا بُدّ منه. فالمجتمع ببساطة لا يُرّكز».
لقد حذّرني كِيث من أن أتوقع بأن موظفي القنصلية البريطانية قد أصبحوا مع الأهالي. إذ لم يرضَ الموظف السابق أن يتحدث مع نظيره في تلّ أبيب. هذا التماسك، لاحظ! غير أن هاتين الفتاتان ليستا ساذجتين ففي السكن المؤجر لاحقاً تجلس المالكة مع ابنها في رواق الدار يشتمان حَدَثاً فنياً كان قد وقع مؤخراً فقد كُشف الستار عن لوحة إعلانات ضخمة في تقاطع إيريز ومن المفترض أن يكون العمل دعوة للسلام إلاّ أنه في الحقيقة عمل لفنّان استرالي تافه bullshit. يستخدم وبدون مبرر رموز المسيحية –أسراب من الحمام الأبيض وما إلى ذلك- وقد أساء للجميع تقريباً. ولكن حين يهاجموه مُفصلين ببهجة كلّ عنصر في هذا العمل الفاشل، تنحني سوزانا لتهدئتهم ثمّ تقول ها هي طبيعة الفلسطيني يوّد دائماً فشل الأشياء ليفرح حين تحقق ذلك.
بعد ذلك، عند محاولتي البريئة لجعل ببغاء مالكة السكن التحدث بالإنگليزية، تُصحح پولين صديقة سوزانا في النهاية من تفكيري. مهمة پولين هنا هي مساعدة الفلسطينيين لإنشاء خدمة مدنية. «أخشى أن ما تلاحظه هو نتيجة الإنتفاضة. عليك أن تفهم بأنها كانت ثورة حقيقية وانها انبثقت من الطبقات الدنيا وليست من القيادة أمّا الآن… حسناً، كأنّها ذاك الفيلم لميريل سْتْرِيْپ Meryl Streep. ماذا يُدعى؟» «أتعنين ذاك الذي تظهر فيه على أنها دانماركية؟» «لا، ليس ذاك. الذي تدور أحداثه في الحرب» «آ، الوفرة Plenty » واقول: «أنا كتبته» ترمقني بنظرة شكّ. «على أية حال، شخصية المرأة –ماذا تُدعى؟» «سوزان تْراهِرْن Susan Trahern» «نعم، المرأة التي تذهب إلى الحرب وهي في العشرينات والتي يُمثّل لها السلام هذا الخذلان الفظيع. كما يحصل هنا. مثل الوفرة. هؤلاء الصِبية كانوا في الثالثة عشر أو الرابعة عشر من عمرهم حتى أنّ بعضهم في السابعة أو الثامنة ووجدوا أن بإمكانهم خلق بُنية خاصة بهم. كانوا سيؤثرون تأثيراً مدّمراً في الحياة اليومية في إسرائيل. فقد حققوا شيئاً فعلياً بأعمالهم. ولكن الآن تبّخر النشاط. أتوا الرجال من تونس وسرقوه. هؤلاء الصِبية أنفسهم كبروا ويجلسون الآن معاً في القهاوي. لا حياة لهم، لا عمل، وهم خيبة أمل كبرى.
«كان ثمّة هدف حيناً، وكان ثمّة سبب. كنتم تكافحون من أجل دولة فلسطينية. وكنتم متهيأيون للموت. من أجل مَنْ تموتون الآن؟ إنْ ناضلتم الآن فسيُلقى القبض عليكم وتُعذَّبون وتُقتلون، كلّ هذا ليتمكن عرفات من الاستمرار بالفساد. ثمّة أناس أكثر في السجون اليوم تحت حكم عرفات مما كان عليه تحت حكم الإسرائيليين! ما هدف الموت من أجل مجتمع لا تسوده القوانين؟ لو كان الإسرائيليون أذكياءً حقّاً لأعطَوا الفلسطينيين كلّ إنجٍ من الأراضي التي يريدون ليقفوا جانباً بعد ذلك ويراقبونهم كيف يدنسون عرضها fuck it up».
هذا تحليل رهيب، ولكنّه أثبت صحته حين سافرت لاحقّاً وهذه المرّة الى مدينة رام الله العربية. مُرافقتي الرسمية هي منى خليفة، الفلسطينية المتألقة الذكية التي تعتقد بأنني محظوظ للغاية لأنني قابلت حيدر عبد الشافي والتي توّد أن تسمع كلّ كلمة دارت بيننا. تتقدّ عيناها: «هو رجل عظيم. هو الشجاعة، هو روح البلاد. تريد القيادة الجديدة القيام بالأعمال التجارية فقط. باشروا بالتجارة في لبنان، وفي تونس. يقولون: اجلبوا الأموال فقط، سنقرر لاحقّاً نوع المجتمع الذي نُريد. ولكن شافي يقول لا تستطيعون تأخير هذا السؤال».
تسألني منى الآن عن سبب مجيئي إلى الشرق الأوسط. فأقول من الصعب شرح ذلك. هي غريزة، ينجذب كتّاب المسرحية إلى أماكن دون معرفة السبب الحقيقي. فقد تشكلت معظم أعمالي من مجرد التسكع هنا وهناك. وتتفحصني منى بنظرة. «ليس هذا بجواب جيّد وكاف. أتعلم حقّاً ما أنت فاعل هنا؟» أردّ، نعم، ربّما بدأتُ ذلك.
تُريدني منى أن أُقابل ألبرت أغازرين Albert Aghazrin المؤرخ الفلسطيني العظيم وأتحدث إليه حول مشكلة القُدْس. متأخر هو عن موعده، لذا أجلس في مكتبه الخارجي في جامعة بير زيت أتأمل مروج تلال الجامعة. ألتقطُ تقرير منظمة العفو الدَوْلية عن فلسطين. «لقد تمّ كهربة الضحايا من الجثث المُشّرحة وتعليقها من أرجلها. وتمّ تذويب بلاستيك محروق على أجسادِهم…»
بعد ساعة، يصل أغازرين بجسده المُرعب وغليونه الكبير ووجهه الفخم النحت، يشبه الممثل هيو غريفيث Hugh Griffith. يدفع بمقالة نحوي ويأمرني أن أقرأها. وعندما أتجرأ بسؤاله سؤالاً يتنهد ويقول: «أين تبدأ؟ بالنسبة لي، بإمكانك فقط أن تجيب إذا أخذت بنظر الاعتبار الاحتلال المِصري لسنة 1831» وراح يخبّ ويهرول في إحصائيات القرن التاسع عشر التي لا أستطيع هضمها، منها لأنه يُخيفني جدّاً ومنها لأنّ فِكرَه يقفز هنا وهناك كغزالة غضبى.
ومع ذلك فحين أسأله عن رأيه بمن يعتقد اليهود المتدينون حقيقةً، يبدأ بالإبتهاج ويشعر بالرضى لأننا نهتم بموضوع مشترك. «بدأ هذا الشيء الرُؤيَوي كلّه بعد 1967 فقط. تشمّ رائحة منه قبل ذلك، ولكن بعد حرب الأيام الستة فقط كوّنوا هذا التفسير الجديد للإنجيل. بناء الهيكل الثالث! نهاية العالم! انتهازية محضة. إنّه الظهور الديني الجديد religious revelation (سِفر الرؤيا الجديد) الذي يصادف أن يكون أفضل تستّر سياسيّ بالغ الكمال.
«ثمّة نساءٍ في القُدْس قد بدأنَ بالفعل بخياطة ملابس قساوسة الهيكل الثالث ويُهيئن الحيوان اللاّ شيّة فيه، أتعرف ما هو؟ حيوان يبدأ بـ«ح»؟ ح! يصيح «حولية[8]Heifer؟» «صحيح! حولية! فهنّ يُهيأن الحولية الطاهرة كي تُطّهر الهيكل. وبالطبع، كلّ هذا يتلاءم مع إسرائيل تلاؤماً رائعاً. إلاّ أن أحزاباً كهذه تجلب دائماً العنف وإراقة الدماء. فاغتيال رابين لم يأتِ من لا شيء»
أسأله إنْ يعتقد بانقسام إسرائيل. «منقسمون بشدّة، بشدّة وعمق. إسرائيل الآن ليست واحدة وإنّما ثلاثة. إسرائيل المُتَعِيَّة في تل أبيب. وإسرائيل المتزّمتة في القُدْس. وإسرائيل المجنونة في الخليل التي تُريد الانتقام والدماء فقط.
«شوف، أنا لا ألغي ما عاناه اليهود. لا أحد يستطيع النكران. أعلم ما عانوه في أورپا. ولكن بالنسبة لي كما لو انهم قفزوا من عمارة تحترق وحصل أن سقطوا على رَجُل كان يعبر الطريق وكسروا رقبته. حين يقول الرجل: «لقد كسرتم رقبتي» يقولون: «آسفون، سببها الحريق». وعندما يقول الرجل: «نعم، ولكن رقبتي مكسورة»، يكسرون يده في محاولة لإسكاته. وحين لا يسكت يكسرون يده الثانية. ثمّ رجله. ورجله الأخرى. كلّ هذا على أمل أن يصمت يوماً ما. ولكن، لاحظ، لا أظنّه سيصمت.
«أُحبّ هذه الأمثال المرّمزة. وسأضرب لك مثلاً آخر. تضع إسرائيل يديها حول عنقنا. لا تستطيع خنقنا. ولا تستطيع تركنا. هي غير سعيدة لأنها تودّ أن تذهب لاحتساء الجعة، ونحن غير سعداء لأننا مختنقين، ولكن على نحوٍ فظيع يجعل كلانا مُرتبط بتعاسة الآخر. ولا يُمكننا الانفصال».
أسأله فيما لو يتغيّر الوضع. «لسوف تسوء [الأوضاع] قبل أن تتغير. عليك أن تسأل عمّ يُدعى بعملية السلام: هل ان غرضها استبدال الأراضي، أم هل هي استعبادٌ للشعب الفلسطيني؟ فعلى أرض الواقع، ومن دون سؤال، كلّ الأدلة تشير إلى الثاني. ما غرض كلّ نقاط التفتيش السخيفة هذه، واستحالة حصول العرب على سمة دخول للقُدس؟ لا يستطيع العرب زيارة القُدْس! ماذا نرى فعلياً على أرض الواقع؟ لا شيء سوى دولة الأمن وأجهزتها القمعية».
يقول: «إنّ إسرائيل لم تعد لديها الرغبة السياسية، الأمن فقط». في الطريق إلى القُدْس أُوقَف في إحدى الليالي كالمعتاد في نقطة التفتيش. بدأت الفتاة المسلحة التي لم تكن أكبر من ابنته بتفتيش كلّ أمتعته. وحين أعادتْ وضع أشياؤه، سألها: «أتحبين ما تقومين به؟ لديّ إبنة وأعطيها الحقّ بالقيام بعدّة أشياء، عدا هذا، لأنه عمل مجرّد من الصفات الإنسانية (عمل يُحَيْوِن)». أتعلم ردّها: «لا أُفكر فيه، والآن مع السلامة».
«هل لي أن أُلخصها لك؟ يسألون سؤالين دائماً. هل رتبت الحقيبة بنفسك؟ وهل أعطاك أيّ شخص شيئاً لتحمله؟ في ذلك اليوم حين سُئلت السؤال الأول، أجبته وأضفت: «ولم يعطني أيّ شخص شيئاً لأحمل». حدّق بي الحارس الإسرائيلي بغضب «كيف تجرؤ؟ ألا تعلم؟ لا يُسمح لك أن تُجيب السؤال الثاني حتى أسأله لك؟»
يا دَيڤِد، هذا يُعبّر عن كلّ شيء».
افترقنا أنا وألبرت ونحن صديقان وفيان. يُناشدني بزيارة السفير الفلسطيني عند عودتي إلى لندن. «مندوب من الدرجة الأولى، حقيقة انه من الدرجة الأولى». وينعكس مزاجي في هواء رام الله المنعش، ورام الله هي أكبر المدن العربية في الضفة الغربية حيث ترتدي النسوة الفساتين وحيث يُقدّم الكحول في المطاعم.
في الطريق إلى قهوة پرَستو، حيث يتوجب عليّ مقابلة مخرج روميو وجولييت، تشرح لي منى بأن جورج إبراهيم هو أحد الفلسطينيين القلائل المسموح لهم بتكوين مسرح. حين وصوله بانَ بشكله الدبدوب والمرح. يلكم ذراعي متى ما وصل إلى نقطة هامّة. وبوصول مدى هذه النقاط الهامّة إلى نقطة كلّ ثلاثين ثانية، أصبحتُ في النهاية مرضوضاً بشكلٍ بارز.
«عندما قمنا بروميو وجولييت علمت في النهاية بأنه قد تمّ استغلالي. ليس من قبل إيران شخصياً، بالطبع، إنّما من الإسرائيليين. مُحال عليّ تكرارها. على الأقلّ الآن. ولكن دعني أُخبرك شيئاً» -ينحني عليّ لكشف سرّ دفين- «فنّياً، كنا أفضل. جانبنا كان أفضل بشهادة جميع من شاهد المسرحية».
وقبل أن يزيد من أقواله يشاركنا أحد أصدقاء جورج، شاعر الإنتفاضة ذو الإثنين والأربعين عاماً، حسين برغوثي، بشعره المشّرد الطويل وسلسلة تدخينه المكثّف، أتعرفُ بالحال على برغوثي كشخصية بارزة اختفت بمأساة من الحياة البريطانية والتي ما زلتم ترونها في باريس وبرلين: هذا الأصيل والمثقف ذو الأربعة والعشرين قيراطاً، يصل ملوّحاً بيديه عالياً كطائرة ورقية تلوّح على الأفكار.
يُذكي جورج النار بمهاجمته صورة العرب في الأفلام الغربية. «نحن دوماً مجرّد ألعاب فقط. تتلاعبون بنا وفقاً لخيالاتكم، لذا فنحن قردة ندخن الغليون، أو الأكثر اعتياداً مجرمون. أنا شخصياً أكره حماس لذا أعرف أن الأصوليين هم مجرمون. ولكنني أعرف أيضاً السبب. أعرف لماذا يرتكبون الجرائم. فكّر فيها فقط. فكّر! فكّر بمدى عمق القنوط الذي يجعلك تدخل الى السوق وصدرك مربوط بكتل من الديناميت. ولكن ولا صانع أفلام أمريكي واحد قد حاول مرّة أن يفكّر. وبالتالي يُكّومون العرب سويّاً».
ويشارك حسين. «هل شاهدتَ المريض الإنگليزيThe English Patient؟ مشهد الصورة الأمامي: أُناس بيض، نبلاء، مشاعر سامية، أقوياء، مرحون، يتمشون في الحدائق، يستحمون، واقفون! المشهد الخلفي: عرب، مراوغون، غامضون، غامضون، وسخون، غير جديرين بالثقة، جالسون! أو فيلم القوّة الجوية: واحد Air Force Oneيشرح لنا هذا الفيلم مايريده العرب. ماذا يريدون؟ أن يقبضوا على الرئيس الأمريكي! لماذا؟ ماذا يُريد أيّ أحد من رئيس أمريكي؟ لماذا يعملوها؟ لا، حقّاً؟ ما السبب؟ لأن العالم يريد عدواً. عندما كان الاتحاد السوڤييتي موجوداً، ها هو، جاهز. والآن يجب أن نكون نحن. يناسب الأمريكان أن يقولوا: «مَن هم العرب؟ العرب هم الشعب الذي سيبدأ الحرب العالمية الثالثة».
«تعرف، أقرأ ميشيما Mishima وانه ليثير المشاعر حول هذا الموضوع. موضوع تدمير الغرب حضارة اليابانيين وعاداتهم وتقاليدهم. أن يَزْرُق الغرب العنف في حضارة. إنّ كلّ النزاع في هذه المنطقة مستوردٌ. وليس عضوياً. ما هي دولة إسرائيل إلاّ تحويل الحضارة السامية الأصيلة إلى كاريكاتير غربي هزلي فضيع؟ زائداً، بالطبع، رعب الأسلحة النووية. تخيّل: إنّ هذه المنطقة انبثقت منها ديانات العالم العظمى. جمع الغرب دينه من هنا. ثمّ كيف عادت تلك الديانة إلينا؟ بشكل الحروب الصليبية! تاخذ ديانتك من هذه المنطقة من العالم ثم تعيدها إلينا على هيئة عُنف».
يبدو جورج ضجراً لذا أتأكد من أن يكون سؤالي التالي حول المسرح كي أعطي جورج فرصة التحدث. فيقول: «في المسرح الآن، من الصعب جدّاً معرفة القيام بعمل أية مسرحية. لا تستطيع مجرّد اختيار أية مسرحية. لأن كل مسرحية تثير سؤالاً: ولماذا القيام بهذه؟ مامدى صلتها بالموضوع؟ ويبدأ جميع الممثلين النقاش. خلال الإنتفاضة بدت المسرحيات سخيفة جداً لأن مائة ألف شخصٍ أُصيب». يقاطعه حسين: «أنا أُصبت!» ويردّ جورج منفعلاً: «نعلم جميعاً! نعلم كلنا بأنك أُصبت! لا، تحتاج إلى كتّاب يكتبون عمّا يحصل الآن، فلا وجود لموضوعٍ آخر، حاولت أن أجعل حسين يكتب مسرحية إلاّ اننا لم نتفق.» يُكشّر حسين، وبفخر: «لم نتفق لأنني لا أتعامل مع متفرجين». «لا. بالضبط! لا تتعامل!»
حسين: أنا لا أهتم بالمتفرجين
جورج: هو على حقّ. غير مهتم
حسين: أنا شاعر. أصنع موضوعاً فنياً جيداً. لا أُفكّر كيف يُستقبل. ارسله إلى الهواء فقط.
جورج: ولهذا مسرحيته لم تكن جيدة. ففي المسرح، في كلّ مسرح، المتفرجون هم الغرض. باستطاعة المتفرجين فقط إضفاء معنى للمسرحية. لا يستطيع قبول هذا.
حسين: ولن أقبله أبداً!
جورج: عليه أن يذهب إلى الصف. أحتاج أن أرسله إلى الصف كي يتعلم أن يكتب مسرحية.
حسين يبتسم مبتهجاً وأستطيع القول إنه لن يذهب. بعد قضاء حياتي في المسرح أُشاركه نصف شكوكه. لو أن المسرحية تكون نصف مسرحية ونصف شعر! يتقبلانها بسرور الآن. ويلتفت حسين نحوي. «هذا هو الخلاف النموذجي للفلسطينيين. لا بحث عن قاعدة مشتركة نهائياً. يُفكر جورج بما يفكر وأفكر أنا بما أفكر. لكن جورج لا يزال يريدني. لماذا؟ لأنني إن لم أكن موجوداً ستكون الحياة مملة».
أنا سعيد في رام الله، فهي أقلّ تهوراً وإزعاجاً من غزّة. ولكن كلّ ليلة أعود مسافراً ألى القُدْس، حيث لم تبدأ نصف ديانات العالم فحسب وإنّما –ولا تكاد تكون مصادفة فقط- حيث أول ما بدأ العالم يعدّ إحصائيات الجرائم. إيْ نعم، الجريمة رقم واحد: قابيل قتل هابيل. حصلت في القُدْس. ومنذ ذلك الحين والقصة هي قصة المذابح وإراقة الدماء.
في أوسلو، وضعت مسألة كيفية إدارة القًدْس على جنب كونها وببساطة مسألة عويصة حتى لأن يُقترب منها. لأن القُدْس هذه هي عاصمة العالم في الدعاوى والدعاوى المضادة. حاضرة النزاع المُعترف بهـ(ـا). هنا، النضال والإثارة وانعدام الثقة مُعشّقة عميقاً في الصخر الوردي الرقيق.
يقول آرثر كوستلرArthur Koestler: «إن ّوجه يهوّة[9] Yahweh الغاضب يفقس فوق الصخور الحارّة التي قد رأت جرائم مقدسة واغتصاب وسلب أكثر من أي مكان في العالم» ويقول هرمان مَلْڤيل Herman Melville: «إنّ الهواء فوق القُدْس مشبّع بالصلاة والأحلام… يصعب التنفس». أمّا بالنسبة لي، فلا سؤال لديّ:عليّ أن أمشي درب الآلام لأتبع محطات الصليب Stations of the Cross التي تمثل خطوات رحلة المسيح إلى الموت. «كلّ هذا الحجر، كلّ هذا الحزن، كلّ هذا الضياء». إنّه دين بلدي الأم، حتى إن لم تكن البلد الأم كلمة لم استخدمها بتاتاً. بيد أن الصدمة هي في إدراك كم أن تأثير المسيحية قليل. انه لمن دواعي السرور والغبطة رؤية حافلة ملأى بالأمريكان المبشرين بالإنجيل وهم يرتدون ملابس الصيف shell suits وقبعات البيسبول، متوقعين ستوديوهات يونيڤرسال Universal Studios الهوليوودية وبدلاً منها راحوا يبحثون عبثاً في المدينة العربية القديمة عن أي أثر لأبانا Our Lord. «يجب أن يوجد إثبات أكثر. ماذا حدث؟ لماذا لا يوجد شيء أكثر»؟
وأُصدِقُكم القول، أشاركهم حيرتهم. فالمسيحية هي ديانة مشهورة جداً وأستطيع القول بأنها مؤثرة وذات سلطة في زمانها. تظنّ بأنها لا تزال تستأهل الحج إلاّ أننا في هذه المدينة نصل إلى المرتبة الثالثة في السباق. نحن الاستعراض الثانوي. درب الآلام via Dolorosa عبارة عن رصيف حجري مرصوف يشقّ طريقه متعرجاً، بدون إثارة للعواطف، في محاذاة محلات باعة البطاقات البريدية وصعوداً حتى الأزقة الضيقة فيملؤني شعور من الضياع، مع إحساس ملموس بضياع شيء –حتى الوصول الى كنيسة الدفن المقدسة Church of Holy Sepulchure التي –ألا تعلمون، وهل لكم أن تحزروا فقط؟- هي الأخرى لا تزال قيد النزاع. نعم، حتى الكنيسة التي تحوي الحجر حيث صُلب أبانا Our Lord. يساهم اليونانيون بها كرهاً بسبعين في المائة والبقية يتصدق عليها بفوضىً مشوِّشة الأرمن والأقباط واللاتينيون والسوريون والأثيوبيون. أُناس تقسّمهم ديانة مشتركة. المِلَل والنِحَل والكنيسة المُفردة.
وماذا بعْد –مهلاً، وها نحن هنا مرّة أخرى- هل ان الحجرة، هي بالفعل، في الموضع الصحيح؟ لا أحد يعلم؟ حتى علماء الآثار يختلفون عليها. لا يستطيع أحد أن يعلم لأن لا أحد يعلم أين كان جدار المدينة. لا، لا يتفقّ أحد. أين كان الموضع الذي صُلِب فيه المسيح Calvary فعلاً؟ لذا، فالآن -لاحظوا، هل ثمّة شيء مؤكد؟ -لنفعل بالضبط كما تفعل العائلة التي بجانبي ونسقط بإنذار على رِكابنا، ولنعمل الفرضيات –فلنفترض فقط- أن (س) تشير إلى الموضع، ونُقبّل الحجرة. ثمّ بعد كلّ هذا، هل يهمُّ صدقها الموضوعي الواقعي؟ أيهِمُّ الصدق الموضوعي؟ ألا نُقّبِّل الفكرة؟ الحجر أم الأفكار؟ الحجر أم الأفكار؟
وإنها لراحة، أستطيع أن أقول ارتياح، لنخرج من الظلمة ونتمشى نزولاً إلى الساحة البرحة المفتوحة حيث تجدون حائط المبكى، يُؤثر تأثيراً غريباً، عالٍ وغير مزدحم في المكان المسموح فيه لليهود. فإن ما يسمو فوق هذا النسق وعلى أعلى قمة منه هو أعظم موضع شهيّ coveted في دنيا الإيمان، ما يدعوه اليهود بجبل الهيكل Mount Temple بينما يدعوه العرب الذين يحتلونه بالحرم الشريف. وفي مركزه قبة الصخرة الذهبية ذات اللون الأصفر-الزعفراني.
لقد أحسستُ منذ وصولي بأن القُدْس ليست بحاجة لإعجابي. فيكفي الناس المُغرمين بها. والحقيقة، أنظر إليها، أتأملها كم هي جميلة حين كانت بلدة صغيرة. بالنسبة لي، كنتُ سأحبّ القُدْس أكثر لو لم تكن مشهورة إلى هذا الحدّ. ولكن حتى أنا، داخل ملاذ العرب، مأسورٌ بأنظف وأنقى هواءٍ أتنفسه … هذا الهواء المبهور بضياء الشمس ، وأنا أنظر عبر جبل الزيتون، أهبُ نفسي إلى روعة المكان وأُدرِك: إيْ نعم، كم هو شيء مثير للغيظ أن تملك الجمال، أن تملك أفضل مكان يسلب النفس في الكون.
عند نزولي كانت سيغال بالانتظار. لم أرَ سيغال البهية لفترة من الزمن لأنني كنت، كما حدث، مع مجموعة أخرى، ولذا فهي تُنشِرُ الشائعات: حكومة نتنياهو في سقوطٍ، أو أنها في الطريق إلى السقوط، أو قد لا تسقط، لأن أحد المساعدين الروس دلّ أو لم يدلّ ضمناً في فضيحة ما عن مال وقروض. أركب السيّارة، لا يعرف السائق المدينة فندور لفترة ما. لكم هو ممتع حين نُوقف الناس في الشارع نسألهم عن الطريق إلى ياد ڤاشم Yad Vashem أشهر متحف في العالم للمحرقة Holocaust، فيبدو غير معروف للبعض.
تكمن قوّة المتحف في بساطته التامة، سِجل مُصوّر أجرد. لا ينتهي، كما يتوقع الغرب، في 1945، وإنّما في 1948 مع تأسيس الدولة. في مركز العرض أقف أمام خطبة هِمْلََر المكتوبة، وثيقة الحرب الأشدّ إذهالاً والتي يُحيّي فيها رجاله على ضبط النفس الذي أظهروه في بذل ما يدعوه بـ«حقّهم الأخلاقي» في إفنائهم اليهود.
يقول هِملَر، إنها «الحساسية الطبيعية» التي تمنع أي ألماني من التحدث بما يفعله الألمان. يعلم هِمْلَر أنه عمل شاق، حَفْرُ حُفَرٍ ورمي الجثث فيها. ولكن ما يفخر به كلّ الفخر هو انهم في عملهم هذا: ان رجاله –ترنّ الجملة في كتيبة المقاتلين- ان رجاله قد «ظلوا نظيفين» وان بقاءهم محترمين «قد جعلنا قساة».
الإشارات المزيفة الوحيدة في المتحف أحرزتها الأعمال الفنية. النحت والرسم. إذ تبدو غير ضرورية. ففي كلّ وضع تبدو الإيماءة وحركة الجسم غير ملائمة. ما [معنى] رسم، رسم رجل جائع؟ ما [هو] رسمُ جثة؟ الحقائق هي التي نريد. أعطونا الحقائق.
ندخلُ في الظلام، في بهو الأسماء Hall of Names. هنا، كلّ يهودي عُرف بأنه مات ما بين عامي 1939 و 1945 قد أعطي ملفاً بسيطاً. وأخيراً، بعد مضيّ سنين أُعطيت للأرقام كرامة لتصبح بشراً. في هذه الحجرة المعتمة ذات الرفوف المكشوفة، تنكشف نسبة الأذى النازي، ومدى تعمده في ذلك. تصدمك الوفرة المتسلسلة من الوثائق أكثر صدمة وأبلغ جرحاً من أية صورة أخرى.
نمشي في حديقة الذكرى Garden of Remembrance نبدأ بالإحساس بالشمس. يقول ڤولتير: عليك أن تختار بين البلد التي فيها تعرق والبلد التي فيها تُفكر. والشيء المشوّش عن إسرائيل هي البلد حيث تفعل فيها الاثنين معاً. ويسرّع عقلي دورته الآن. نحن جميعاً عميان. نحن جميعاً نرى ما نريد أن نرى. ألا نُعتِمَ البقية؟
وأنا أكثر من أي شخص أخر. وفي بعض الأحيان انا اسوأهم. قابلت مجموعة جيدة من االسياسيين فترة تواجدي هنا ولكن في النهاية عليّ أن أقابل مَن فقد الآمال كلّها بالحكومة. اعتدتُ أن أمضي ساعاتٍ لأتجاوز الترتيبات الأمنية لوزير كذا وكذا. إلاّ أنّ زيارتي الأخيرة هي لدَوْرٍ تحتاني صغير غير محميّ في تل أبيب. لقد لاحظت مسبقاً أنّ مجرّد ذكر اسم شولامت ألوني Shulamit Aloni كافٍ لجذب العداء القاسي لمن يعرفها فهي كالنار الحمراء المتقدّة في حكومة رابين. وعندما تأتي إلى الغرفة، وهي لمّا تزل تتكلم، تُشبه مالينا مركوري Melina Mercouri الممسوسة بالاكتئاب، بعدسات سميكة ولا تعطي أيّ مجال لطرح الأسئلة.
تسأل: «ماذا تريد أن تعرف»؟ وترمي نفسها على أكبر كرسي. «لماذا تقول انه من الصعب أن تفهم ما يحدث؟ لا يمكن ان تكون ببساطة أكثر من أننا نعود إلى الوراء. فما صعوبة الفهم؟ كانوا اليهود ضحايا يوماً ما لذا فاليوم نحن مغسولي العقول لنصدق بأننا سنظلّ دائماً ضحايا والضحايا لا تُخطيء. فجأة قد أصبحنا أقوياء وجشعين ونتظاهر بأننا نستطيع تبرير كلّ شيء. يُقال لنا على الدوام يوّد الفلسطينيون أن يرمونا في البحر. لدينا ستة ملايين نسمة وأقوى جيش في المنطقة. ومع هذا نتحدث عنهم كما لو انهما قوتان متكافئتين. مجرد التأثير في مشاعر الشعب لتخويفه».
تنطق بأمرٍ في العبرية وبقوّة إلى سيغال لتذهب وتعمل القهوة. تنهض سيغال غضبى بينما تتابع شالومت كلامها لائمة الهزيمة reversal كلياً على نتنياهو. أنا مستمتع مع شولامت إذ تستهويني أفكارها إلاّ انني مندهشٌ قليلاً من صبّ لومها على نتنياهو في كلّ شيء. فهل تُنسَب حقاً جميع الأشياء إلى رجلٍ واحد؟ «أنت انگليزي، وأتوقع انك دخلت الثانوية العامة»، تقولها بإسلوبٍ مؤذٍ، «لذا تكون قد سمعت بالفيلسوف هوبز Hobbes. يقول هوبز إن بإمكان الفرد المفرد من تدمير المجتمع برمتّه حيث يقرر أن يأتي ويحرق الغابة. نتنياهو، بمعونة فاشيته النهمة: الجيش والأمن، هو هذا الفرد».
أسألها عمّ بإمكانها أن تفعله في هذا الحين. هل تنتظر وحسب؟ «أن تنتظر معناها أن تموت. لا يوجد لديّ شيئاً تفاؤلياً أقوله لك. لماذا تأتيني؟ ماذا تفعل هنا؟ إذهب إلى الشباب واسألهم بم يفكر». تُحدّق بي وكأنها تلاحظني للمرّة الأولى. «لماذا تكتب ثرثرتي»؟
أقول انني عادة ما أبدأ المقابلة بشرح ما أفعله هنا، ولكننا قفزنا هذه المرحلة لسبب ما! «هو وقتٌ سيء. ماذا استطيع القول»؟ «هو ما تشعرين». «لا، هو ليس ما أشعر. هو ما أعرف. لو كان فقط ما أشعر لذهبت واحتسيت البراندي وشعرت بتحسن. أنا لا أخبرك بمزاجي، بالرغم من أنه سيّئاً. أنا أُخبرك الحقائق. ولكن ماذا يهمّ همّي؟»
ترمقني بالعين لتدعوني أن أتحداها. هذه المحامية الموهوبة التي عملت كثرما عمل أي شخص من تقديم الدعم العملي لضحايا التمييز والعزل، هي الآن ضائعة، موجوعة. تيهان مُؤلم وفي توق شديد للشِجار. «ماذا ترى حاصل غداً»؟ «مظاهرات، إراقة دماء، مرارة. وهي ليست بحرب أهلية بعد. هو كُلتُركامف[10] kultukrampf. أتعلم ما هو؟» أوميء بالإيجاب. «نحن في منتصف أحدها. كان الخطأ الجسيم أولاً في تسليم السلطة لرجال الدين. ثم أتى المهاجرون من أورپا الشرقية وحوض الحر الأبيض المتوسط، كانوا متخلفين، ولم يعرفوا شيئاً عن الديمقراطية. يظنون أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية. أمّا الأسوأ، فنحن لا نملك دستوراً خطيا…» لم أفتح فمي وها هي تصرخ بي: «لا تقل لي. بل تملكون واحداً في انگلترا! أعرف ذلك! ولكن لديكم الوثيقة العظمى (الماغنا كارتا)[11] Magna Carta وأوليڤر كرومويل [دكتاتور إنگلترا] Oliver Cromwell وتقاليد أخرى، وحتى مؤخراً كانت لديكم فكرة أن بعض الأشياء لم تُعمل بعد».
تنهض. وتنتهي المقابلة على نحو فظّ كما بدأت. «أيّ شيء أخر؟ عليّ أن أذهب». أنا على يقين بأنّ عالم هذه المرأة قد تدّمر باغتيال رابين. تصافحني: «سبّبَ البريطانيون مشاكل عديدة هنا». أقول: «أعلم هذا». «أتعلم ما أقوله للبريطانيين؟ منذ رحيلكم ونحن نحبكم جداً. وأنا أعنيها. نعم نعنيها».
نعود سيراً إلى القنصلية البريطانية. وتشتعل سيغال غيظاً من الأسلوب الذي أهانته بها شولامت، وتعتذر لمعاملتها. أقول لها إنها لم تزعدني نهائياً. فأنا مجرّد قلم.
أبدأ مقارنة ملاحظاتي وإكمالها في المكتب. يدخل عامل القنصلية البريطانية، جورج. هو عربي مسيحي. «هو عدوّي» تقولها سيغال ويهدران ضاحكَيْن بشكل دالّ على الرضا. تُهاتف شولامت ألوني القنصلية لتسألنا السماح على كونها فيما تدعوه «غير صبورة وبغيضة». لأنها مرهقة، كما تقول، بزخم عملها القانوني.
نبدأ الرحلة إلى المطار. عند قدومي، نصحوني أن لا أدعهم يختمون جواز سفري لأتمكن من زيارة دولاً عربية. ولكن، عند الخروج، وقبل أن أتمكن من التفوه بكلمة، (وام wham) ها هو دوي الدمغة ولا حتى ثانية أنطق بها وكلمة إسرائيل على جواز سفري إلى الأبد.
.. عند هذه النقطة تتغير الإضاءة، ويتبدل جو المسرح للخاتمة..
مطار گاتويك Gatwick. تتأخر طائرتي. أعود عند منتصف الليل. استقل القطار إلى [محطة] ڤكتوريا Victoria. عتمة.
ينتبه أحدهم إلى أن قوّة سيمنون Simenon هي في انه يسافر قاطعاً فرنسا بمركب نقل البضائع. ومن القنوات رأى ظهر البيوت فقط، وظهر الشوارع، وظهر الكنائس.
يخبرني القائد العسكري الإسرائيلي -غير مسمى حسب طلبه- الذي يجلس في مكتبه مبتسماً، بأن 20,000 عشرون ألف يهودي فقط قد قتلوا حين تأسيس الدولة. «أنا لا أقول إن كل موت هو ليس بمأساة، أرجو أن لا تسيء فهمي، وبالطبع أنا لا أتحدث عن تجربة اليهود في أورپا. ولكن تجربة اليهود في هذه البقعة من العالم؟ عشرون ألف لتأسيس دزلة كاملة: ليس هذا بالعدد السيّء جداً، لو تعلم. ليس سيئاً. ليس سيئاً لدولة كاملة».
انهجرت ڤكتوريا. في سيارة الأجرة السوداء. شمالاً نحو قصر بَكِنْغهام پالاس Buckingham Palace، پارك لََيْن Park Lane، وشمالاً نحو شارع فنتشلي رود Finchley Road. ينعكس الهِيام في الشوارع الواسعة المحاطة بالأشجار. جادة فتزجونز آڤنيو Fitzjames Avenue.
حيدر عبد الشافي يقتبس حديث محمّد في طريق عودته من المعركة. «رجعتُ من جهادٍ صغير لأعود إلى الجهاد الأكبر. جهاد النفس».
نتنياهو في الراديو يقول: إنّه كعظماء رجال القرن على يقين بانه أُسيءَ فهمه. ثم يشير إلى الممثل كِرك دوغلاس Kirk Douglas كونه قرميدة في حائط المبكى.
جالسٌ في الميناء مع إيران بانيل نأكل السمك. «تبّاً للأرض، وإلى الجحيم!Fuck the land! Fuck it» ماذا تهمّ الأرض؟ أعلى قيمة لليهودي هي حياة الإنسان. فكرة أن الحجر الآن يعن أكثر من حياة البشر هي تحوير تامّ للديانة اليهودية. تحوير!»
يساراً في شارع تشاپل ستريت Chapel Street. شوارع طويلة مشّجرة ودُور جورجية خالية من العيوب في كلا الجانبين. أتذكّر دَيڤِد غروسمان متمشياً في المروج: «لديّ نوع من التفاعل المعدني».
پولين في السكن الداخلي في غزة: «كان ثمّة هدف. ثمّة سبب. كنتَ تُقاتل من أجل دولة فلسطين وكنت ترغب في الموت. فمِن أجل مَن تموت الآن بحقّ السماء»؟
تلفُّ سيارة الأجرة يميناً ثم يميناً. هل نُقيّم بأين نعيش؟ أم هل نحن ما نفكّر؟ ما الذي يهمّ؟ الحجر أم الأفكار؟ الحجر أم الأفكار؟
كلبتي بلانش Blanche تستيقظ في الليل لترّحب بي، باب بيتي الأبيض الثقيل ينسدّ خلفي.
درب الآلام Via Dolorosa
* أدين بالتعبير إلى البروفيسور كمال أبو ديب الذي قرّب معنى «community» إلى «منجمع» الذي يلائم بعض المواضع كهذه.
[1] الشواح Shoah: الكلمة العبرية للمحرقة. معناها الحرفي هو النكبة أو الفاجعة. ويعود أصل الكلمة لمنتصف القرن العشرين. عن موسوعة إنكارتا أون لاين [Encarta® World English Dictionary [North American Edition] © & (p) 1999-2000 Microsoft Corporation.
Developed for Microsoft by Bloomsbury publishing plc.]
[2] Messiah: in Judaism is king of the Jews: in the Hebrew Bible, an anointed king who will lead the Jews back to the land of Israel and establish justice in the world. [12th century. Via French Messie from, ultimately, Greek Messias,from Aramaic ms˘ and Hebrew ms˘h, literally “anointed,” from ms˘ha “to anoint.”]; in Encarta® World English Dictionary [North American edition] © & (P) 1999-2000 Microsoft Corporation. All rights reserved. Developed for Microsoft by Bloomsbury Publishing Plc.
في اليهودية المسيح هو ملك اليهود: في كتابهم المقدّس هو ملك (ممسوح/مدهون) الذي سيقود اليهود عائداً إلى أرض إسرائيل ويحقق العدالة في العالم. [يرجع أصل الكلمة خلال الفرنسية إلى القرن الثاني عشر مَسي عن اليونانية مَسِّياس، عن الآرامية مسّ واليهودية مسّح، وتعني حرفياً «ممسوح» من الفعل «مسحَ»]. عن إنكارتا أون لاين؛ مايكروسوفت.
[3] Yuppie (young professional): a young educated city-dwelling professional, especially when regarded as materialistic. [late 20thcentury. Coined from y(oung) u(rban) p(rofessional), on the model of hippie and yippie.] Encarta online.
[4] Kikes لفظ هجومي نابي يُستخدم في اللهجة العامية الأمريكية ضد اليهود
Mick [5] مصطلح لإهانة شخص من أصل إيرلندي أو من أتباع الرومان الكاثوليك والمختصر (مِك Mick) مستّمد من إسم (مايكل Michael). Encarta online
آيتي: تصغير إيطالي، لفظ عامي ازدرائي يعود إلى منتصف القرن العشرين، ويشير إلى الإيطالي. [6]
Iti or Itie or Ity: a slang derogatory expression traced in the mid 20th century, to denote an Italian. It is a diminutive form of Italian.
[7] Hebrew prophet in the Bible who lived in the 8th century BC and delivered judgments against Judah, Samaria and Israel. Encarta online.
نبي يهودي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد. وحكم في قبائل يهودا وسامرة واسرائيل؛ عن إنكارتا أون لاين.
* غير معلوم الإسناد (المترجمة).
[8] بقرة صغيرة
[10] النزاع العلماني الديني (المورد 1991)