
عاد إلى وطنه بعد خمس وأربعين سنة من أسرهِ في سجون أعداء بلاده، وبالرغم من مرور أكثر من أربع وثلاثين سنة على وقف الحرب ماطل أعداء بلده كثيراً في إطلاق سراحه وإعادته إلى وطنه. تركه سجَّانوه على نقطة حدودية وسلّموه إلى أفراد مخفر بلاده الذين استقبلوه ببرود ولم يعيروا له اهتماماً خاصاً كما تفعل الدول عند استلام أسراها.
حاول أن يفهم أسباب إهماله من قبل أبناء جلدته لكنه وجد فيهم غلظة كتلك التي كان يشاهدها أثناء الأسر في وجوه سجَّانيه. تصور لوهلة أنّ سجانيه قد قاموا بتسليمه إلى مجموعة جديدة من السجَّانين فلا يمكن أن يكون هؤلاء مواطنيه، لقد تغيرت سحنة الوجوه وانطفأ فيها بريق الود والرحمة وقُصَّ الشعر بترتيب لم يعرفه من قبل. حتى الملابس التي لبسها هؤلاء غير تلك التي عرفها أثناء الحرب فقد اعتلت الصدور النياشين ولم يعد لون الرداء العسكري الخاكي الذي يعرفه لباس الجنود اليوم.
- لماذا أطلق الجنود لحاياهم وانتصبت شعورهم وسط الرؤوس؟ ولماذا مُنح الجنود حرية ارتداء الملابس العسكرية بألوان مختلفة؟ وما هذه النياشين؟ ماذا جرى يا ربي؟ أتمنى أن أجد من يستمع إلى أسئلتي التي بدأت تحيرني. أخذ حيدر يسأل نفسه تلك الأسئلة كلَّها.
جلس في غرفة ينتظر مأمور المخفر الذي طال غيابه. راح يتذكّر لحظات أسره في السجن فمرَّ أمامه شريط ذكريات مؤلمة. تذكر معاملة سجَّانيه وكيف ضُرب بالسياط وكيف بُصِق عليه وكيف كُويَتْ أنامله برأس سيخ من حديد… كانت مشاعر الحزن والأسى مسيطرة عليه، والأمل في عودته إلى حياته بات شبه معدوم. حاول التكيف والتفاعل بأشكال مختلفة، تارة بشكل ثنائي مع ذاته كي يحافظ على توازنه في مكان أسره وتارة بالانسجام مع الأسرى الآخرين المخلصين وقضاء أيام الأسر داخل الزنزانة بتبادل الحكايات.
الحكايات مختلفة في ثناياها وتفصيلاتها والقاسم المشترك بينها أنَّ مشاعر الحزن وألم الفراق تبقى حكاية الحكايات. فحياة الأسرى وتكيفهم القسري داخل السجون التي تعزلهم عن التواصل البشري تجبرهم على تحويل رفاق الزنزانة إلى عائلة جديدة، تربطهم مرارة السجن والألم الذي يمرون به والأمل بالخلاص والتحرر والعودة إلى أوطانهم.
قُطعت سلسلة أفكاره بضحكات الجنود خارج المبنى ولفت انتباهه شيئ هجين جديد، و لم يصدق عينيه، لقد شاهد أحد الجنود يمسك بآخر ويمازحه بطريقة تخلو من الحياء والأدب في الساحات العسكرية. كاد حيدر أن يفقد صوابه وهو يشاهد تحرشاً جنسياً أمامه قام به أحد الجنود مع زميله بشكل فاضح. كان المشهد كافياً ليتذكر مشاهد إمعان السجانين في الحط من كرامة الأسرى عبر شتى الوسائل.
كان وقت الانتظار ثقيلاً وصور الأسرى المؤلمة لا تفارق مخيلته، ولم يعد يتحمل أكثر مما قضى في زنزانته بعيداً عن وطنه وجذوره.
كان مجبراً على النظر في جدران الغرفة التي تلونت بألوان عشوائية تنم عن عدم اكتراث أصحاب المكان بانسجام الألوان. خلت هذه الجدران من صورة قائده بالزي العسكري التي كانت تزين غرف الوحدات العسكرية جميعاً التي مرَّ بها أثناء مسيرته في الجيش واستُبدلت بصورة رجل دين معمم وضعت إلى جانبها صورة ثانية لمعمم آخر. اختلطت عليه أحاسيسه والتبس عليه أمر وجوده في أرض عدوه وظن أنه في نقطة جديدة لتبادل للأسرى. كان الأمر مريباً.
دخل أحد الجنود الغرفة فعرفه حيدر على الفور، قفز من مكانه مرعوباً وحاول إشغاله بسؤال. في الوقت ذاته حاول أن يفهم من الجندي ما يدور حوله فسأله عن مدة بقائه منتظراً في هذا المكان، وبدلاً من أن يجيبه الجندي على سؤاله، أطلق ضحكة في وجهه وسأله فيما إذا كان قد شاهد ما جرى بينه وبين زميله. أنكر حيدر أنَّه رأى أي شيئ وأعاد السؤال فطلب منه الجندي أن ينتظر الضابط ليقرر مصيره. وقعت كلمة (مصير) على حيدر كالصاعقة، دارت الدنيا به ولم تستطع ساقاه حمل جسمه النحيل فارتمى على الكرسي وطلب ماءً ليروي عطشه. نادى الجندي على زميله لجلب الماء.
ارتسمت على وجه حيدر ملامح الإعياء ومال لون بشرته إلى الأصفرار فلاحظ الجندي ذلك وسأله إن كان مريضاً فهزَّ رأسه بالنفي، لكنه أكد له أنَّه يشعر بتعب بسبب عدم النوم منذ أكثر من ثلاثين ساعة هي مدة خروجه من الأسر ووصوله إلى الحدود بسيارة عسكرية بعد أن حشر بين الجنود وبعض المؤن التي كان ينقلها عدوه إلى أفراده في النقاط الحدودية.
ارتعشت يد حيدر وهو يتناول قنينة ماء صغيرة من أحد الجنود، ارتشف منها رشفتين أو ثلاثاً فسقطت بعض قطرات الماء من بين شفتيه وبللت ثوبه الذي بان بالياً وقديماً. شاهد الجندي لهفته وهو يشرب الماء فسأله: هل أكلت شيئاً؟
هز رأسه بالنفي. طلب منه الجندي أن ينتظر قليلاً حتى يحضر له شيئاً يأكله. رجع بجسمه إلى الخلف واتكأ برأسه على حافة الكرسي ثم أغمض عينيه.
لم يمهله الجندي طويلاً فقد جاءه بقطعة خبز قطعة خيار واحدة. هز الجندي كتف حيدر الذي كان يغط في غفوة، وبعد هزة أو اثتنين استيقظ حيدر من غفوته واعتدل في مجلسه، قدم الجندي الطعام فأخذه حيدر وهو ينظر في وجه الجندي معبِّراً عن شكره ثم راح يمضغ قطعة الخبز ويقضم قطعة الخيار بهدوء والجندي يراقبه وينظر إليه بشيء من الأسى. انتبه حيدر لنظرات الجندي فاستغل ذلك واستفسر من الجندي عن الظروف الزمانية والمكانية التي يوجد فيها، لكن الجندي بقي همُّه أن يعرف إن كان حيدر يعرف ما جرى للبلاد بعد أن وقع بالأسر فسأله عن ذلك، ورد عليه حيدر: لقد مُنع عنا الراديو وتداول الأخبار وصرنا لا نعرف ما يجري خارج السجن.هزّ الجندي رأسه مشفقاً عليه وجثم على ركبتيه أمام حيدر وقال له: سأقص عليك ما جرى لنا بعد هذه السنين.
ظل حيدر يستمع للجندي الذي أخذ يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً وهو يروي ما آل إليه البلد ومصير جيشه ونهاية قائده، وما فعل المحتلون في البلاد وما فعل من أتى بعدهم في حكمه. أحسَّ حيدر بصعوبة في دفع اللقمة داخل بلعومه بعد أن سمع قصة مصير بلده… أغرورقت عيناه وهو يستمع إلى الجندي الذي كان حديثه أشبه بصاعقة نزلت على رأس حيدر. لم تصدق أذناه ما سمع!
ترك حيدر ما تبقى من طعامه البسيط ونسي حالته المرهقة، قام من مكانه ليسأل الجندي وهو يشير إلى الباب إن كان ولاء الجنود ولاءً مزدوجاً، فهز الجندي رأسه مؤيداً دون أن ينبس ببنت شفة وظل يلتفت خلفه وينظر من خلال الشباك. شاهد ضابط الوحدة العسكرية قادماً إلى غرفته فصاح بالأسير قائلاً: أجلس! لقد جاء الضابط. لا تخبره بما جرى بيننا من حديث!
لم يندهش حيدر لطلب الجندي بعد أن سمع ما سمع عن وضع بلده فعاد إلى مكانه ينتظر الضابط .
دخل الضابط غرفته وتبادل السلام مع حيدر ثم دعاه إلى الجلوس بينما جلس هو خلف مكتبه وأخرج من درج مكتبه أوراقاً وتناول قلماً من علبة مصنوعة من الجلد وبدأ يسأل حيدر عن اسمه الكامل وعنوانه في مدينته وعن المدة التي قضاها في الأسر وما إذا كان يحفظ رقم هاتف أحد من أهله أو أقربائه، وقبل أن يجيب حيدر أخبره أنَّ الهواتف القديمة لم تعد موجودة وقد حلَّت محلَّها الهواتف المحمولة.
تابع حيدر باهتمام كلام الضابط وكان عليه أن يحفظ ما يسمع فقد تغير كل شيء ولم تعد الأشياء كما كان يعرفها ولم يعد الناس نفس الناس الذين حارب من أجلهم ووقع أسيراً مضحياً من أجل وطنه وشعبه ولم تعد الوطنية رمزاً كما تعلَّم في فصول المدرسة. إذاً، عليه أن يختار طريقه؛ أما المحافظة على مبادئه والمسميات التي عرفها بين أهله وأصدقائه أو ركوب موجة اليوم التي عرف بعض فصولها من الجندي وهي حتماً تسير عكس مبادئه والقيم والمثل التي تركها وراءه في بلده قبل وقوعه في الأسر.
- سنرسلك إلى أقرب مدينة بالسيارة العسكرية التي تجلب لنا الموادَّ التموينية من أسواقها، وبعد ذلك تصرَّف بنفسك!
هذا ما قاله الضابط بعد انتهاء التحقيق مع حيدر الذي لم يجد خياراً أفضل يصل به إلى الدار التي يعرفها واحتفظ بصورها في مخيلته.
خرج حيدر بصحبة الضابط ووقفا خارج الغرفة، نادى الضابط على أحد الجنود وطلب منه أن يصطحب حيدراً إلى المكان الأقرب من سوق المدينة وينزله هناك ليتصرف هو بعدها للوصول إلى بيته!
نظر حيدر خلفه وهو يتقدم إلى سيارة عسكرية لإلقاء النظرة الأخيرة على المكان الذي وصل إليه بعد إطلاق سراحه. ركب السيارة إلى جانب السائق الذي حيّاه بتحية يعرفها. أراد حيدر أن يعرف اكثر عن مصير البلاد قبل وصوله، لكن السائق سأله إن كان يحتفظ ببعض النقود ليكمل مشواره، فأجابه بالنفي. تعجَّب السائق من حاله وسأل: وكيف ستصل إلى بيتك؟
لم يحر حيدر جواباً فظل صامتاً وهو ينظر في وجه السائق الذي أوقف سيارته بسرعة على جانب الطريق وأخرج محفظته ليعطيه ورقتين من فئة خمسة آلاف دينار. أخذ حيدر المال وهو ينظر باستغراب إليها، ابتسم السائق وقال له: أعتقد أنك لم تر هذه الأوراق من قبل. هذه الأوراق جلبتها لنا قوات الاحتلال!! هز حيدر رأسه وظلَّ صاماً.
انطلقت السيارة في طريقها إلى مركز إحدى النواحي القريبة من النقطة الحدودية وظل حيدر يتأمل الطريق الذي أصبح غريباً عليه، وهو الذي كان يعرفه جيداً من قبل. لقد اختفى كل شيء يعرفه فقد شيدت بعض الأبنية بدلاً من أشجار النخيل التي كان يشاهدها وهو يقطع الطريق ذهاباً إلى جبهات القتال.
مرت الأعوام والأيام مثقلة بالعذاب والحزن فقد عاش حيدر بين نارين، بين جنون الأوباش وعجز الإخوة، وتمنى يومها لو أنَّ قذيفة من قذائف المدافع مزقت جسده الفتي أو أنَّ رصاصة القناص تلك التي أصابته كانت قاتلة، ولولا خوفه على ذويه لأكمل مشوار مقاومته ليُلقى مقتولاً.
تركت مشاهد الطريق حزناً إضافياً في نفس حيدر واكفهرَّ وجهه غضباً، لفت ذلك انتباه السائق فاستفسر منه عن سبب غضبه … لم يردَّ عليه فقد ماتت الكلمات في صدره، أما السائق فقد قال له إنّه لمَّا ير شيئاً بعد…
كان فضول السائق كبيراً لمعرفة ظروف وقوعه في الأسر. بدأ حيدر يقص عليه ما عاشه في زنزانات الأسر وقبله. مرت خمس عشرة دقيقة… شعر السائق بمرارة المواقف التي مر بها حيدر فنصحه قائلاً: لا تتوقع من الدولة الجديدة أن تقف إلى جانبك وتقدم المساعدة لك في حياتك القادمة. عليك أن تعتمد على نفسك وتبدأ ثانية من الصفر.
– لكنَّ عمري ووضعي الصحي لا يساعدان كثيرا ًفي ذلك ولا أعرف إن كان والداي أو أخوتي على قيد الحياة أم لا! قال حيدر ذلك بيأس شديد حتى أنَّ السائق أشفق عليه فأراد أن يصنع به معروفاً فقال:
– إنّك تسكن في كربلاء والمدينة اليوم تزدهر بأعمال الفندقة والمحال التجارية التي تعتمد على الزائرين. لي قريب هناك يعمل في أحد الفنادق السياحية، عندما نصل إلى الناحية ذكّرني أن أعطيك بعض التفاصيل.
شكر حيدر للسائق موقفه وطلب منه أن يتصل بقريبه ليسأله إن كانت هناك وظائف شاغرة… لم يتردد السائق في ذلك وأبدى رحابة صدر فأخرج هاتفه المحمول من جيبه، وحيدر يشاهد ذلك مندهشاً.
وصلت السيارة إلى سوق المدينة القريبة من الحدود لكن السائق أراد أن يكمل معروفه فأوصله إلى مرآب سيارات النقل التي تنطلق بانتظام إلى مدن البصرة والنجف وكربلاء، أوقف سيارته بالقرب من إحدى مركبات النقل العام وسأل سائقها عن وجهته، وبعد أن تأكد السائق من وجهة المركبة إلى كربلاء طلب من حيدر أن يستقلَّها وأعطاه ورقة صغيرة دوَّن فيها المعلومات التي يحتاجها حيدر للوصول إلى قريبه من أجل العمل معه. أخذ حيدر الورقة وترجَّل من السياره شاكراً سائقها على فضائله وبدوره اعتذر السائق من حيدر لعدم تمكنه من إيصاله إلى البيت فالأوامر العسكرية له غير ذلك، ثم سار معه إلى سيارة الأجرة. همس الجندي في أذن سائق سيارة الأجرة بضع كلمات فهم منها الأخير أنَّه يصطحب أسيراً عائداً تواً من الأسر وعليه أن يراعي مشاعره ويسامح في أي مبلغ قد لا يكفي لأجرته.
اتخذ حيدر مجلسه في أحد الصفوف الأمامية بجانب الشباك خلف كرسي السائق الذي طلب منه الجلوس هناك وأخبره أنَّ أجرته مدفوعة. شكره حيدر وظل ملتصقاً بشباك السيارة يتجنب ملامسة كتف الرجل الجالس إلى جانبه؛ انزعج حيدر قليلاً من تصرف الرجل بعد أن سمعه يرفع صوته قليلاً في وجه السائق طالباً منه عدم الانتظار والإسراع في الانطلاق. رد السائق برفق مؤكِّداً أنَّ حمولة سيارته ما زالت ناقصة تنتظر ركوب شخصين لكنَّ الرجل ألحَّ بحجة وجود أشغال مستعجلة في كربلاء تنتظره. طلب السائق منه الصبر فالتفت الرجل إلى حيدر يطلب منه تأييداً غير أنَّ حيدراً ظل صامتاً وحاول التهرُّب بالنظر من خلال زجاج السيارة ليوحي له أنَّه يريد أن يتأكد من وجود ركَّاب قادمين بدلاً من الدخول في نقاش.
لحظات وأطلق سائق السيارة صوته يخبر بأنَّ السيارة جاهزة للانطلاق إلى مدينة كربلاء بعد صعود رجل وامرأة جلسا في المقاعد الخلفية المتبقية.
ظل حيدر ينظر من نافذة السيارة دون أن يلتفت مما أثار فضول الرجل الجالس إلى جانبه، بينما كان السائق ينظر في المرآة التي أمامه ويراقب تصرف الرجل، فأراد أن يبدِّد فضوله فقال له: إن كنت مستعجلاً في الوصول إلى كربلاء لقضاء أشغالك كان الأفضل لك أن تأخذ سيارة أسرع!
بعد مرور أكثر من ساعة توقفت السيارة عند أحد المطاعم فنزل جميع الركاب باستثناء حيدر الذي فضل البقاء في السيارة، إلّا أنَّ السائق طلب منه أن ينزل ويتناول بعض الطعام، اعتذر حيدر بيد أنَّ إصرار السائق جعله ينزل من السيارة. اتخذا من زاوية في المطعم مجلساً لهما وجاء صاحب المطعم حاملاً أطباقاً من الرز ومرق الفاصوليا، نظر حيدر بشوق إلى طعام بلده فانتبه السائق وقال: لا بدَّ أنَّك في شوق لهذا النوع من الطعام.
هز حيدر رأسه وكشف عن ابتسامة بانت على قسمات وجهه المتعب الذي بدت عليه آثار السنين الطويلة وبعد حوار ليس بالقصير بين حيدر والسائق سأله الأخير عن عائلته في كربلاء فهو يعرف أهلها جيداً، وعندما أخبره حيدر باسم والده قفز الرجل من مكانه واقفاً ليقول: ماذا؟ من؟ هل أمك اسمها زينب؟
زاده ذلك اطمئناناً بعد أن عرف أنّه أمام شخص يعرف عائلته، وأنّه بات قريباً من بيته وعائلته. أجابه حيدر بالإيجاب. عاد السائق ليقف على رأس حيدر، قال له: ألم تعرفني؟
– ومن تكون؟ قال حيدر.
– أنا غريب… ابن عم والدك وابن خالة والدتك.
نهض حيدر ولم يصدق ما يسمع و فاتَه أن يرحِّب به. قال له فوراً: وهل أبي حيّ؟
لم يرد عليه غريب بل أخذه وضمَّه إلى صدره.
الحمد لله على السلامة. لقد أُبلغنا بفقدانك وعدَّتك الدولة شهيداً ونالت عائلتك في وقتها بعض الامتيازات التي تمنح للشهيد.
لم يكترث حيدر بما سمع من غريب بل كرر سؤاله عن مصير والديه: أرجوك أخبرني، هل أبي وأمي على قيد الحياة؟
أراد غريب أن يؤجل الجواب على هذا السؤال حتى يصلا مدينة كربلاء لكن إلحاح حيدر اضطره إلى أن يرد على أسئلته:
– لقد انتظرا عودتك كثيراً لكنَّ مشيئة الله …
سكت غريب وفهم حيدر كلامه فرمى بجسمه على الكرسي يضرب رأسه، أخذ غريب يخفف عنه قائلاً: لكنَّ إخوتك سيفرحون بعودتك. هذه مشيئة الله.
كان الطريق إلى كربلاء مزدحماً بالسيارات العائدة منها والقادمة إليها وقد أولت البلدية بعض الاهتمام لجزء يسير منه وتركت الطرق الواصلة إليه دون اهتمام. استأذن غريب من الراكب الذي يجلس إلى جانبه في أن يترك مكانه لحيدر ويأخذ هو مكان حيدر. سمح هذا التغيير بأن يخفِّف غريب عن أحزان قريبه فبدأ الحديث بتفصيل أكبر عن الظروف الجديدة المحيطة بعائلته. كانت طريقة غريب في سرد حكايته مع حركات لا إرادية من يده تثير لهفة حيدر للوصول سريعاً لمقابلة إخوته وأقربائه.
بعد ساعة وصلت السيارة إلى مركز المدينة التي أثارت طرقها وتنظيمها الجديد دهشته؛ لقد اختفى كل شي يذكره حيدر عن المدينة باستثناء القبب الذهبية التي تعلو مراقد الأئمة الموجودة في المدينة، وحتى هذه القبب قد ازدانت بنشرات ضوئية جميلة وتوسع المكان حولها ليستوعب الملايين الذين يزورونها كل عام في المناسبات الدينية. طلب غريب من حيدر الانتظار حتى ينزل الركاب جميعهم ليأخذه إلى بيت شقيقه فقد بيع بيت والده وتقاسم إخوته الإرث بينهم.
لم يشغل بال حيدر ما آلت إليه المدينة ولا قسمة الإرث بين إخوته، كان مشغولاً برحيل أمه وأبيه. لقد خيم الحزن عليه ولم يتأثر كثيراً بما كان يسمع من غريب.
وصلا إلى بيت شقيقه فلم يستطع أن يميزه؛ لقد ارتفعت أسواره بشكل لا يسمح لأحد بالوصول إليه بسهولة وصمم بابه الخارجي الحديدي بشكل جميل وزُوِّدَ بجهاز اتصال داخلي (إنتركوم) وضع إلى جانب الباب. نظر حيدر إلى شرفة البيت وشاهد شيئاً مثبَّتاً على جدارها الجانبي، أخبره غريب بأنها كاميرا تراقب حركة المارة أمام البيت. استقبل حيدر موضوع الكاميرا بشيء من الاستغراب واستنتج أنَّ الأمان الذي كان الناس في مدينته ينعمون به من قبل لم يعد موجوداً.
كبس غريب زر جرس الباب وحيدر يراقب صورته وصورة غريب على شاشة صغيرة هي جزء من جهاز الإنتركوم… فُتح الباب الخارجي فدخل غريب وخلفه حيدر إلى فناء البيت الخارجي. سارا حتى وصلا إلى الباب الداخلي المزين بزخرفة جميلة محفورة على خشب الصاج الذي صُنع منه الباب… فتحت الباب امرأة غريبة الملامح من أصول إفريقية، تنحَّت جانباً ودعتهما بلكنة ركيكة إلى الدخول إلى الصالة بعد أن سأل غريب عن شقيق حيدر بكنيته ” أبي حسين”، عندها علم حيدر أنَّ المرأة عاملة في منزل أخيه.
لقد ترك حيدر أسرته قبل أكثر من ثلاثين عاماً وهو شاب في الثامنة عشرة من عمره وهو أكبر من أشقائه الثلاثة: أبي حسين واثنتين من البنات، وانقطعت أخباره عن أسرته وأخبار أسرته عنه منذ أن وقع في الأسر ولم يسمح له بالاتصال بهم أو إرسال أيَّة رسالة تؤكد سلامته، كما لم تفلح محاولاته وتوسلاته بسجانيه في السماح له بمقابلة أعضاء المنظمات الإنسانية التي تعنى بملفات الأسرى والمفقودين في الحروب.
رحَّب أبو حسين بضيفيه دون أن يتعرَّف شقيقه الذي بقي يراقب انفعالات أخيه بانتظار معرفة رد فعله عندما يعلم بعودته من الأسر. لم ينتظر غريب كثيراً ولم يعر أهمية لردود الفعل المحتملة عند معرفة أبي حسين بعودة شقيقه الأسير فوجه له سؤالاً سريعاً: ألم تتعرَّفه؟ ألا تتذكَّره؟
بيد أن أبا حسين لم يتعرَّف شقيقه ووقع في حيرة وشك ثم استسلم في نهاية الأمر واعتذر لعدم معرفته بالرجل الذي أمامه.
– إنَّه حيدر أخوك… لقد عاد من الأسر اليوم.
علت وجه أبي حسين دهشة كبيرة كادت أن تطيح به مغشيَّاً عليه لكنَّه تمالك نفسه، قال وهو غير مصدِّق: ماذا تقول؟ أخي حيدر!
- نعم، إنَّه شقيقك. صادفته في مرآب السيارات على الحدود بعد أن أوصله أحد الجنود، وقد تعارفنا قبل أن نأتي إليكم.
تقدَّم أبو حسين بخطوات سريعة ليضمَّ أخاه إلى صدره ويقبِّله من رأسه ويقول: أخي… الحمد لله على سلامتك…
ثم تابع: لقد انقطعت أخبارك وعدَّتك الدولة من الشهداء.
حافظ حيدر على رباطة جأشه، قال لأخيه بهدوء: أريد زيارة أبي وأمي. سمعت من العمِّ غريب أنَّهما توفِّيا.
- سأخبرك بكل شيء وسآخذك لزيارة قبريهما، لكن خذ حماماً ساخناً أوَّلاً ثمَّ تناول الطعام وخذ قسطاً من الراحة وسأحدِّثك بكل شيء ترغب في معرفته.
شعر غريب أنَّ دوره قد انتهى فاستأذن بالانصراف. شكره أبو حسين وأبدى حيدر امتنانه.
جمع أبو حسين العائلة في بيته لملاقاة حيدر، عانق حيدر شقيقتيه وسلَّم على زوجة أخيه. أبو حسين كلمته مسموعة لذا لم يبذل جهداً في إقناع شقيقتيه لإعطاء حيدر نصيبه من إرث والديه. اـتفق الجميع على أن يسكن حيدر مؤقتاً في بيت شقيقته العزباء المجاور لبيت أبي حسين حتى يجد سكناً خاصاً به.
بعد أسبوعين من عودته من الأسر أدرك حيدر أنَّ مظاهر الحياة في وطنه قد تغيرت كثيراً مثلها مثل الأبنية والطرقات، لكن بالرغم من مرور السنين خلت تلك المظاهر من أي تقدم في مجالات الحياة المختلفة، لا بل إنَّ الناس أصبحوا أسرى المظاهر الخداعة، وركب أفراد المجتمع موجة هجينة حلَّت في مدينة ذات مجتمع شرقي محافظ هو ما كان يعرفه من قبل، ليتحوَّل إلى مجتمع أُعطي مساحة كبيرة للتعبير عن نفسه بشكل خاطىء فصار كثيراً ما يخرج عن التقاليد بحجة حرية الفكر والرأي. لقد وقع الناس تحت تأثير الدعاية التي جاءت مع الاحتلال، وكانت نتيجة ذلك انقساماً شديداً في المجتمع الذي أصبح أكثر عنفاً وتطرفاً.
مشى وحيداً في شوارع المدينة يبحث عن نفسه وعن جذوره، شعر أنَّه غريب لا أحد يعرفه ولا يعرف أحداً. سأل عن أصدقائه فعلم باستشهاد أحدهم في الحرب وقتل آخر بعد الاحتلال في انفجار سيارة مفخخة … بقي وحيداً مع ذكرياته التي كتبت تاريخ حياته في المدينة وبين أهله وأصدقائه، لكن بصورٍ مشوَّهة.
لم يجد حيدر صعوبة في التفاعل مع بعض الأجانب المقيمين في المدينة بشكل دائم فقد عرف لغتهم أثناء وجوده في الأسر، وعمل تحت سطوتهم في أعمال تكسير الصخور وفتح الطرق في المناطق الصخرية… وقف أمام أحدهم يبيع منتجات يعرفها، سأل عن ثمنها دون أن يشتري ثم غادر.
سار وحيداً يتذكر أحلامه التي كانت تراوده في معتقلات الأسر بأن يتخلص من أسره ويرى العالم من حوله في سلام، تذكَّر أمانيَّه أن يتجنب هذا العالم الدخول في صراعات تكون نتائجها فقدان الأرواح وتعذيب الأجساد في معتقلات الأسر لكنه كان يعرف من أبيه أنَّ الأماني ليست سوى أحلام قد لا يدرك المرء تحقيقها في حياته.
وقف حيدر أمام باب العتبة الحسينية ينظر إلى صحنها الواسع المحيط بمرقد الإمام الحسين وإلى أروقتها الأربعة. توجَّه إلى أحد الأبواب التي تؤدي إلى الحضرة الحسينية، صلى ركعتين في مبنى الصحن قبل أن يصل إلى الصندوق المذهَّب لضريح الإمام الحسين. بعد أن فرغ من الصلاة توجَّه إلى الضريح فألقى نظرة عليه ومسح بكفِّه شبَّاكه الذهبي. لم يكترث بالأصوات المختلطة التي كان يسمعها عند الشباك ولا بالحركات الغريبة التي يقوم بها بعض الأشخاص.
خرج من العتبة الحسينية عائداً من حيث أتى ينظر في عيون الناس، بدا بريقها مخيفاً فتجنب الحديث معهم.
شعر بتعب فجلس على أحد المقاعد الخشبية المخصصة لاستراحة الزائرين التي وضعت على طريق يخلو من السيارات، راح يسترجع بعض ذكرياته مع أصدقائه في مكان قريب من مجلسه فتذكر لحظات الوداع التي عاشها مع أصدقائه وهو يودعهم للالتحاق في جبهات القتال. لم يكن اهتمام الشباب في تلك الحقبة يتعدى التسلية في تناقل الأخبار المسلية التي يسمعها من هنا وهناك أو التندر على هذا أو ذاك عقب وقوعه في مقلب. لكن السياسة والحرب أوقعت الكبار والصغار في محن متلاحقة… هيمن الحزن وانطفأت المسرّات وانتشرت السرادقات ومكبِّرات الصوت التي تصدح بآيات قرانية… عاد إلى وعيه بعد أن سمع نغمة اتصال من هاتفه المحمول الذي أعطاه إيَّاه شقيقه. كانت شقيقته على الطرف الآخر تسأله أن يمر عليها لتناول الطعام معاً.
أنهى مكالمته وبدأ يتأمل المارة وهم عادة من الزائرين لمراقد الائمة. مر أمامه رجل مسن اكتفى بالنظر إليه دون أن يلقي عليه التحية. استهجن حيدر ذلك التصرف فقد تربى على الالتزام بآداب التحية ومعرفة مواضعها وصورها. شاهد امرأة تجر ولدها الذي ظل ينظر إلى جهة حيدر، ودهش كثيراً عندما شاهد مجموعة من الشباب يضربون صدورهم. اختلطت عليه الأمور فهو يعرف أنَّ الوقت ليس وقت مناسبة دينية. اتصل بشقيقته ليسألها عن تاريخ اليوم وما إذا كانت هناك مناسبة دينية.
مرت أمامه مجموعة من النسوة الملتفعات بعباءات سوداء، ارتفعت ضحكات إحداهن فلم يلق بالاً. كانت أصوات الضحكات كافية لتأخذه بعيداً في ذكريات جميلة مع حبيبته السمراء… تذكر لقاءهما تحت نخيل أحد البساتين بعيداً عن فضول الآخرين وتذكر وعودها بانتظار عودته من جبهات القتال ووعوده بالزواج منها بعد انتهاء الحرب. لكنَّ سني الأسر الطويلة وإعلان استشهاده كانت سبباً كافياً لتتخلى عن وعودها وترتبط برجل مهم في الدولة الجديدة. هذا ما سمعه من شقيقته.
لم يعد الأمر مهماً فقد محت السنون مشاعر الود التي كان يحملها لها ولم تعد مشاعر الحب همَّه، همُّه اليوم أن يجد نفسه في الحياة الجديدة الغريبة التي يعيشها بلده وأن يعود إلى حياته التي فقدها طويلاً.
كان بإمكانه أن يقبل شروط سجَّانيه، كما فعل بعض الأسرى، ليطلق سراحه مقابل العمل إلى جانب العدو ضد بلده، لكنه تحمل الجوع في سبيل مبادئه وتحدى سجَّانيه بالجوع والعطش عندما أضرب عن الطعام بسبب المعاملة السيئة له ولرفاقه، وفضَّل أن يسقط جسده منهكاً ولا تسقط المباديء وأن يبقى الصمود والأمل عنوانَي شخصيته الأسيرة. لكن سرعان ما خابت آماله وهو يجد اليوم الوجوه ذاتها التي تركها وراءه بعد عبور الحدود.
لم يكن ما شاهده اليوم سهلاً عليه ولم تكن مشاهد الغرباء الذين تسيدوا المدينة أمراً هيناً، فخلَّف ذلك ألماً في صدره تحسَّسه بيده، شدَّ على صدره وحاول النهوض من مكانه لكن ألمه كان أقوى منه. عاد وجلس في مكانه وحاول الاتصال بأخيه لكن الأزمة القلبية التي كان يمر بها تمكنت منه فأفقدته الوعي… سقط على جنبه وضرب رأسه.
اجتمع الناس حوله، أمسك أحدهم بهاتفه ليخبر أبا حسين عن حال أخيه… وصل أبو حسين… بعد فوات الآوان.
13/1/20021
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل
مؤلم ان يجد المرء نفسه محاطا بسجانيه من جديد ، هذه المرة باتت صورهم معلقة في الاماكن العامة .. راح مسترجعا ذكريات سنوات عمره المفقود وكانه في حلم ، لم يصدق انه اصبح حرا .. وكيف له ان يصدق ! وسجانوه اليوم هم اهل الدار .. راح يتسائل هذه المرة عن حدود بلده .. عن هويته ، عن انتماءه .. كل شيء يوحي اليه بانه مازال في الاسر .. مازال في الاسر …