أحلام للبيع

غادة عريم

 الحادية عشر مساءً.

 هي مستلقية على أريكةٍ في غرفةٍ فندقٍ يطّلُ على ضفاف شط العرب.

 استرجعت الأحداث الغريبة التي مرت بها أثناء وجودها في مقهى المطار وهي تبحر بنظراتها في عينين زرقاوين لرجل في العقد الرابع من العمر. 

 ترى، مَن هو؟ ولماذا علق بذاكرتي؟ تساءلت!

ارتدت قميصها الأبيض وبدلة بلون السماء، لونيها المفضلين اللذين يشعرانها بالحرية كمساحات البحر والسماء. دخلت مطعم الفندق حيث سيقام المؤتمر الدولي لوقف إطلاق النار في العراق والإعداد لتشكيل حكومة جديدة. كان الفندق مكتظَّاً بأشخاص من جنسيات شتَّى من أنحاء العالم. ولأنَّها صحفية في وكالة معروفة حضرت لجمع المعلومات وإعداد تقرير بعد لقاء صحفي مع الرئيس المؤقت الذي سينتخب.

جلست مع بعض الصحفيين وتم التعارف، ثمَّ بدأ الحديث عن جمال مدينة البصرة فأخبرتهم أنَّها ولدت فيها وأنَّها تتذكر الأماكن الجميلة التي قضت طفولتها فيها، وكان حديثاً شيِّقاً عن الذكريات. 

شعرت وهي تتحدث بحماس، ولعلَّ صوتها كان مسموعاً، أنَّ أحد الجالسين إلى الطاولة المجاورة يرمقها بنظراته ولكنَّها استمرت بالحديث غير مبالية حتَّى سمعته يسألها: هل بالإمكان أن تصطحبيني في جولة في المدينة بعد انتهاء الجلسات؟

 التفتت وهي مندهشة وأبحرت في عينين زرقاوين تشبهان البحر… صمتت لتستعيد الذاكرة.

 فترة من الصمت… ثمَّ أجابت: نعم، يسرني ذلك.

واستمرت الجلسات حتى الساعة الخامسة، كانت تفكر فيه.

لكنَّه لم يخبرها عن اسمه.

عند موعد العشاء وجدته ينتظرها في مدخل المطعم. مدَّ يده وقال: جون جونسون. 

صافحته وهي باسمة: جمانة الزبيدي. 

تناولا طعامهما ثمَّ حضرا الجلسات وفق البرنامج المقرر، ثمَّ خرجا في جولة في المدينة شملت كورنيش البصرة وتمثال السياب. قرأت له أنشودة المطر باللغة الإنجليزية، كان مسحوراً بها وكلما التقت عيونهما كان بريق القمر ينعكس عليهما ليكتب بداية قصة لا نهاية لها.

بدأ المطر ينهمر واستمرا بالجلوس على الشاطئ حتى اشتد فأخذا يجريان الى الفندق تحت موسيقى المطر وضحكاتهما تملأ الفضاء.

في اليوم التالي جرت الأحداث سريعة من جلسات إلى وجبات طعام، وعند المساء التقيا عند مدخل الفندق وبدأت جولة جديدة في أسواق البصرة القديمة والحديثة، راحت تحدِّثه عن الأماكن وتاريخها وهو ينصت لها كالتلميذ، يوجِّه بعض الاسئلة فتجيب بدقَّة رائعة حتى أنَّه اقترح عليها أن تعمل كدليل سياحي. أخبرته أنَّها عملت في هذا المجال لبعض الوقت وكانت ترافق مجموعات سياحية قادمة من إنكلترا حتى نشوب الحرب، فتحوَّلت إلى دراسة الصحافة. 

كان منبهراً بها. كل يوم يكتشف شيئاً مشتركاً بينهما فهو كان يعمل في المجالين مع اختلاف الأماكن والجذور!

انقضى الأسبوع بين جلسات ونزهات في أماكن مختلفة وجولة في شط العرب وبساتين أبي الخصيب، مع عطر الجوري والقداح ومذاق التمر المميز.

في اليوم قبل الأخير اختير حاكم مؤقَّت للبلاد يحمل الجنسية الأمريكية. أثناء نزهتهما في متنزه الخورة بدأ النقاش بينهما حول هذا الاختيار، كان رأيها  ضدّ أن يكون حاكم البلاد أمريكياً فهناك الكثير من ذوي العقول النيرة في بلدها يمكن أن يقع عليهم الاختيار، قالت إنَّه احتلال بصورة ديمقراطية مزيفة، بينما رأى هو في ذلك اختياراً صائباً لأنَّ البلاد بها حاجة للتأهيل ومن تعدُّهم مؤهَّلين للحكم ليست لهم خبرة في نظام الديمقراطية. احتدم النقاش بينهما، كانت غاضبة فهذا وطنها وهمُّها بينما كان هو هادئاً فالحاكم من بلده وهو لا يشاهد غير ما يبثه إعلامٌ ليست له معرفة بالبلد و ناسه.

 في تلك الليلة رجعا إلى الفندق صامتين. ودَّعتْه ببرود.

ولم تستطع النوم.

اليوم الأخير كان صعباً على كليهما. قالت له:

 الآن – فقط – أحاول البحث عن مكان أدفن فيه حزني على جذوري التي لا تجد لها مكاناً يحتويها؛ الغربة نضجت في قلبي على مدى أعوام حتى تغلغلت في تفاصيل حياتي. 

حاولت أن تمنع نفسها عن البكاء الذي لم تعرف سببه: هل تعلَّقت بالعينين الزرقاوين أم هو الحزن على الأعوام التي تبعثرت فيها الأحلام على أرصفة المدن؟ 

شعر بالعجز عن احتواء حزنها، توسَّل إليها أن تترك كل شيء وترافقه إلى أمريكا ليبدأآ حياة جديدة ذات جذور أقوى وأن تترك ظلال الأحلام فتنتهي المتاهة التي تعيشها. 

كانت لحظة ساحرة محت مخاوفها كلَّها، احتضنها بشدة حتى شعرت بأنَّها تذوب بين يديه.

عندما أفاقت من الاستسلام لهذا الحب الطارئ، قالت وهي تمسح دموعها:

يمكنك زيارتي هنا، في هذه المدينة التي تجري بها شراييني، وقتما تشاء.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply