أميرتان في شط العرب*

جابر خليفة جابر

توطئة

ساعة ما، قرأت ما حدث في البصرة لأميرتين صبيتين من الساحل الشرقي للخليج العربي وتحديداً من جزيرة خرج. كان هذا في ستينات القرن الثامن عشر للميلاد ، صبيتان بعمرالورد أغرقهما أخوهما الأمير في مياه شط العرب، هذا الحدث الصادم آذاني وظل طيف الصبيتين يلاحقني ويحوم حولي، ومع طيفيهما ثمة العشرات من حكايات القسوة والاضطهاد الأسري والمجتمعي الذي تتعرض له النساء عموما والفتيات خاصة في بلادنا كانت توجع قلبي حتى أن أغلب وأهم عنوان الرواية كانت بأسماء نسوة وإهداؤها كان لابنتيّ، هذه هي البذرة التي نمت والقدحة التي أشعلت نار الحكاية ، حكاية زينة وفرح وآنوش وسهيلة وأشرقت ونور، ومنها تفرعت الحكايات وتشابكت المصائر لأسر عراقية تشكّل مزيجاً جمعته الهوية العراقية والألفة والمحبة

مشعل أحمد

استأنست سعدة الأهوازية وهي كبيرة وصائف الشيخ داود بالشابة رمانة ذات الستة عشر عاماً وكانت رمانة اصفهانية جميلة تتمازج بشرتها البيضاء الناعمة بحمرة وردية وكانت لجمالها الباهر تلفت انتباه النسوة إليها قبل الرجال خاصة في بيئة الساحل الشرقي للخليج العربي، ويقال أنها كانت الجارية المحبوبة عند الشيخ سويد خال المير بدر لكن بدر استبقاها مع حريمه بعد سبيها انتقاماً من خاله بعد الانتصار عليه وفرار الأخير إلى شيراز، فعاشت مع جواري المير هي وأمها، وكان المير بدر يكثر من التردد عليها وهي غير راغبة به لطبيعته القاسية وتعنيفه لها ولأمها فرجت من سعده أن تخلصها منه وتكلم الشيخ داود لكي يطلبها من المير ويلحقها بجواريه، لكن الذي حدث أن الشيخ داود لم يلتفت لرمانة وهام قلبه بأخت المير بدر، ولم يدم السر طويلاً فقد أفشته سعدة لرمانة فاستعرت غيرتها وسرت الهمسات بين الوصائف من الجانبين ثم نمت وشاية حتى وصلت لمسامع المير بدر وعلم أن داود كان يتسلل كل ليلة متنكراً ويلتقي بواحدة من أختيه ويقضي معها بعض الوقت تحت حراسة خفية من عبيده الأشداء، ولأن الفتاتين كانتا تسكنان معاً وليس من السهل الدخول لمخدعهما إلا من جاريتهما الأمينة نجمة والتي لا يمكن أن تفشي سراً لسيدتيها لذا لم يستطع أحد تشخيص أي من الأميرتين كانت تلتقي بداود ليلاً..

 تقول سهيلة أن الأميرة كانت راغبة بالتخلص من الحياة مع أخيها بدر بأي طريقة ووجدت أن الزواج بالشيخ داود والاستقرار في الفلاحية هو أنسب حل لها، وسرعان ما استجابت لمحاولاته في التقرب منها وصار يلتقي بها بعلم وترتيب من جاريتها المخلصة نجمة وبحضور أختها الثانية التي رأت أن زواج أختها سينقذها هي أيضا إذ ستبقى معها وتتخلص من أخيها.

نفت الوصيفة نجمة وهي تحت غضب المير بدر وضربات سوطه وجود أي علاقة بين إحدى الأميرتين والشيخ داود واعترفت فقط أن الشيخ كان ماراَ مصادفة فدخل بالخطأ خيمة الأميرتين خلال السفرة في البر وبقي لدقائق سلم عليهما وخرج ولم يتعد الحدود ولم يمس شرف الفتاتين وقد حدث هذا اللقاء العابر عند وجود عدد من الوصائف اللواتي كن يرافقن الشيخ وكذلك بوجود عدد من عبيده المسلحين.

تقول سهيلة أن رمانة هي من أخبرت وصيفة المير الخاصة نجود والتي أسرعت ووشت بالأميرتين لأنها تكره الأميرة فرح، وأن بدر المهنا اكتشف حقيقة الوشاية بعد فوات الوقت فندم على تسرعه وكتم الخبر حتى اقترابه من ساحل جزيرة خرج بمسافة ساعة فخنق نجود ورمانة بيده وألقاهما في البحر.

لكن وثيقة من وثائق شركة الهند الشرقية الهولندية تسجل ما قاله أحد البحارة الذين كانوا مع المير في سفينته وكان جاسوساً للهولنديين أعداء المير تفيد بأن المير مهنا لم يتعرض لنجود بسوء وقام بخنق رمانة فقط لأنها الوحيدة التي رأت بعينها ما حدث بين الفتاتين والشيخ داود فرماها في البحر ليغرق السر معها..

ومع تعدد الروايات وغموض ما حدث بين الشيخ داود والأميرتين فأن الخبر المؤكد يقول: أن المير بدر المهنا حين سمع بذلك استشاط غضباً لكنه كظم غيظه خشية أن يغدر به الشيخ داود أمير الدورق القوي وقرر الرحيل، وأدرك داود  أن بدر عرف بما بينه وبين الأميرة فرح أو زينة من علاقة فحاول تلافي الموقف وإثبات حسن نيته فقصد ضيفه بدر وطلب يد أخته، فأظهر بدر له الود وتمالك  نفسه وحاول أن يعرف أي من أختيه يريد خطبتها، وكان بهذا يريد أن يعرف من كانت منهما على علاقة بالشيخ داود، لكن داود أدرك بفطنته نوايا الشر على محيا ضيفه وتهرب من الإفصاح عن اسمها، وزعم أنه لا يعرفها ولم يرها قط ، لكنه يرغب بمصاهرة الأمير بدر والزواج من إحدى أختيه تشرفاً واعتزازاً به، ولم يقتنع المير بدر بما قاله داود وشمّ في الأمر رائحة خيانة من صديقه، وغادر الفلاحية على ظهور الخيل تاركاً الكثير من أمتعته مع بعض العبيد ليلحقوا به من بعد، ثم أقلع  بسفنهِ على عجل واتجه لزيارة والي البصرة ونوى التحالف مع الأتراك ضد أمير الدورق، وأدركت زوجة المير ما ينوي فعله بالصبيتين فرجته بألّا يتسرع في معاقبتهما حتى يعرف المذنبة منهما، لكنه لم يصبر إلا بضع ساعات قضاها في الترتيب لزيارته للبصرة وإرسال قارب أسرع من السفينة لإعلام الوالي العثماني بقدومه، وما أن انتهى من ذلك وتوسط شط العرب وكانت السماء تمطر بغزارة مصحوبة برعود و بروق مخيفة وكأنها تجاري براكين الغضب المعتمل بصدر الأمير وهو يظن السوء والخيانة بأختيه ويعتقد بأن داود قد مسّ شرفه فأسرع إلى مقصورة الصبيتين وبيده سوطه وعيناه تقدحان.. 

 أخرج زوجته ونجمة الخادمة ركلاً وضرباً بالسوط، ثم أقفل الباب واختلى بشقيقتيه وحقق معها بالقسوة والضرب العنيف وكانتا تتوسلان بأخيهما وتتصارخان وتستنجدان، ولكن من يجرؤ على الوقوف بوجه الأمير أو حتى التدخل، حتى علي زمان ذاته لم يستطع التدخل وفعل شيء فالموضوع متعلق بشرف الأمير ولا مجال للشفاعة والتوسط، وواصل الأمير الضرب والتحقيق ليعرف من التي كانت تختلي بداود، وكيف تعرف عليها، وهل التقت إحداهما به، وأقسمتا له بأغلظ الإيمان ونفت كل منهما أن يكون الأمير داود قد التقى بها، لكنهما من شدة رعبهما وكثرة الضرب وما ذاقتاه من وحشية أخيهما انهارتا أخيراً واضطرتا لقول أي شيء حتى وإن كان غير صحيح للتخلص من التعذيب العنيف، ووشت إحداهما بالأخرى وتبادلتا الاتهام أمامه واختلقتا أموراً كاذبة ليكفّ عنهما، فاختلط الأمر عليه وعجز عن معرفة الحقيقة ومن التي كانت لها علاقة بداود وتعب من الضرب ونفد صبره فصرخ منادياً عبيده وأمرهم بإخراج الفتاتين من المقصورة وكانت الدماء تغطي وجهيهما وملابسهما، وجرى طرحهما أرضاً وربطت أقدام وأيدي زينة وفرح ببعضهما، ثم التفت إلى قيدوم السفينة ولمح مرساة صغيرة ملقاة هناك وكان قد غنمها من الهولنديين حين هزمهم في إحدى معاركه معهم على سواحل جزيرة خرج، فأمر العبيد بربط أقدام شقيقتيه بالمرساة، ثم حملهما حراسه وهما تستشفعان بالله وبالنبي وآل البيت وتتوسلان بصوت يمزق القلب وتستغيثان بأخيهما الأمير وبالعم علي زمان، ولكن لا شفقة في قلب بدر، ولا أحد بقادر على مناقشته أصلاً، ولم يجرؤ علي زمان المقرب منه على التدخل، فسكت الجميع ورميتا في شط العرب، وكان قلب علي زمان يتفطّر ويتوجع لهما إنما بصمت، وفي فورة غضبه تلك تخلى المير بدر عن زيارة والي البصرة وصرخ  آمراً النوخذة بالاستدارة والعودة إلى جزيرة خرج وحانت من علي زمان التفاتة وكان آخر ما رآه ثياب الصبيتين وهي تغطس تاركة على السطح                                                                                                                                                                                                                                                   خورة ماء صغيرة وشالاً ملوناً انفلت وتلوى طافياً مع الموج الخفيف، فدخل مقصورته وأخرج دمية صغيرة ملونة ومن دون أن يراه أحد صعد إلى السطح وطوّح بها بأقصى قوته ورماها تجاه شال الصبيتين.


* من رواية “نور خضر خان” صدرت عن دار خطوط وظلال في عمّان/ الأردنّ، ٢٠٢٢

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply