
وأنا أقرأ المقال الذي كتبه المعمار البارع إحسان فتحي تحت عنوان “دوكسيادس في العراق واعترافه بارتكاب الجرائم التخطيطية” وجدت نفسي في رحلة رجعتُ فيها إلى محطَّات عملي المضني في قطاع الكهرباء والطاقة من عقود خلت إلى يومنا هذا؛ استحضرت في ذهني مشاركاتي في لجان مركزية لدراسات وتخطيط مشاريع البنى التحتية للبلد، وما كانت الاجتماعات تعقد دون حضور خبراء من الجهات المختصة جميعها للإسهام في التخطيط لهذه المشاريع وتنفيذها.
يشير إحسان فتحي إلى أنَّه ليس من المعروف من الذي حثَّ مجلس الإعمارفي العقد السادس من القرن الماضي على دعوة المهندس والمخطِّط الحضري اليوناني دوكسيادس Doxiadis وتكليفه بتصميم معظم المشاريع الاستراتيجية في الحقبتين الملكية والقاسمية؛ اعترف دوكسيادس لاحقاً بارتكابه جرائم بحقِّ بعض المدن التي تصدَّى لتخطيط عمارتها.
كان هناك خطآن تخطيطيان جسيمان ارتكبا في بغداد بعد 14 تموز 1958، أوَّلهما إنشاء إسكان شرقي بغداد ( مدينة الثورة لاحقاً) والثاني إنشاء قناة الجيش، وكلاهما نُفِّذ بطريقة ارتجالية في جو سياسي مشحون بتقاطعات سياسية دولية وقومية عربية. وهناك مشاريع أخرى انتهى عمرها الافتراضي كإسكان غربي بغداد (الوشَّاش) الذي أصبح وجوده الآن معرقلاً لأي مشروع تنظيمي لإعادة التخطيط الحضري لمدينة بغداد.
ويعود دوكسيادس ثانية بمسمَّى آخر لارتكاب أخطاء تخطيطية أخرى ارتجالية إبَّان الحرب العراقية -الإيرانية منها توسعة مطار المثنى في قلب بغداد النابض استعداداً لمؤتمر عدم الانحياز الذي كان مقرَّراً عقده في بغداد في العام 1982 ولم يكتب له الانعقاد، وقد كلَّفت توسعته مبالغ كبيرة تجاوزت الكلفة القياسية بهدف تنفيذه في مدَّة قصيرة، ولم تتحقَّق الفائدة منه بسبب الحروب المتلاحقة. أعقب ذلك استخدام أرضه في مشروع ارتجالي آخر في زمن الحصار هو جامع الدولة الكبير الذي توقَّف بناؤه لتجاوزه الكلفة التقديرية الأولية ولاصطدامه بعقبة الحصول على المتطلبات التكنولوجية المتقدِّمة اللازمة لتنفيذ التصميم؛ وفيما عدا ذلك فإنَّ إنشاءه قد لا يكون مبرَّراً لتزامنه مع بناء جامع الرحمن الكبير في أرض مضمار سباق الخيل في المنصور.
كان يمكن الاستفادة من قدرات العدد الكبير من المخططين الحضريين والمعماريين العراقيين الأكفاء لاستثمار الموقع –مثلاً- في اعتماده موقعاً استراتيجياً لمطار محلي في جهته الشمالية ومحطة قطارات مركزية لمشروع مترو بغداد في جهته الجنوبية ترتبط بنفق أرضي في شرقه يمتد إلى المحطة العالمية للسكك الحديدية وتُربَط هي الأخرى بموقف حافلات نقل متطور في قسمها الجنوبي يحاذي جامع بنِّيَّة في الموقع الحالي لمرآب العلاوي أسوة بمواقع النقل المتكاملة النموذجية في دول كثيرة. وزاد الطين بِلَّة تشويهه مؤخراً بتحويل واجهته الجنوبية إلى مشروع إسكاني في قلب بغداد.
بعد عام 2003 ظهرأكثر من دوكسيادس سياسي شارك بارتكاب خطايا تخطيطية استراتيجية كمشروع بسماية السكني الضخم الذي يتكون من مائة ألف وحدة سكنية؛ لم يتضمن المشروع في تخطيطه مشاريع الخدمات الرئيسة من محطات توليد الكهرباء وشبكات نقل الطاقة، وأهمل إنشاء طريق يربط المشروع السكني الذي يؤي قرابة نصف مليون مواطن بالعاصمة بغداد؛ لتترتب على ذلك مبالغ إضافية في الكلف الاستثمارية والتشغيلية وبفوائد استثمارية عالية التكلفة غير مدروسة ولا مبرَّرة وذلك بسبب تغوُّل ظاهرة دوكسيادس بعد تغييب المؤسسة التخطيطية وتسلُّط المؤسسة السياسية الذي ظهر واضحاً في اتخاذها قرارت ارتجالية لا هدف لها سوى دعم منظومتها الحزبية لأغراض انتخابية أو لعلاقات اقتصادية دولية أوإقليمية لدعم بعض القيادات السياسية.
كان من الأجدى استثماريّاً واقتصادياً وفنِّيَّاً أن توزَّع وحدات مشروع بسماية السكني العملاق جغرافياً على مناطق مدينة بغداد الإدارية بمواقع سكنية حديثة وبتصميم معماري يعيد لبغداد رونقها وجمالها ويوفِّر كلفاً استثمارية وتشغيلية. وهذا ينطبق أيضاً على القطاعات الأخرى ومنها قطاع الكهرباء الذي ما زال مترنِّحاً بين قرارات سياسية وتخبُّط إدارات غير متخصصة وليدة نظام محاصصة طائفي فقد فيه قطاع الكهرباء هُويَّته وإدارته المهنية فكان المواطنُ الخاسرَ الأكبر يتحمل النتائج في صيف قائض وسنين من المعاناة.
إنَّ بناء المدن وتوفير خدماتها مثل بناء الأوطان يقتضي وجود عقول تخطِّط بحكمة ورجال يبنون بإخلاص، فلماذا غابت أوغُيِّبت الخبرات الوطنية الّتي كان العراق يزخر بها وإلى متى سيستمر ذلك؟
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل