Am I a Modernist Writer? ~ هل أنا كاتبة حداثيَّة؟

Hadia Said questions the concept of writing and homeland. The “melting” sentiments that flows in one stream.

Writing/Homeland

When I was asked if I were a modernist writer, “I don’t know,” was my one and only answer.

The question itself leads me to remember when I started to write and why?

When did I feel it was necessary to write?

It is the (sensation) of writing that stream in my blood equally as my homeland streams there.

We learnt that the homeland streams in our blood, how?

Because we are fused in its land, how?

The land that we raised as children, how?

This raising represents the base of the well.

And thus, I am attached to this fierce patriotism (feelings) as I am attached to this eager writing (feelings).

This breeding, childhood, memories, history and more had shaped me  in all its inhabitant and writing. What homeland, however, and  what writing. Is it the modernisation? I don’t know?

It will all make sense one day

هاديا سعيد

شهادة قُدِّمت في ملتقى الحداثة في إبداعات المرأة العربية، تونس 2010

استكملت وعُدِّلت في آب/ أغسطس 2022

الكتابة/ الوطن 

عنوان الملتقى طرح عليَّ السؤال: هل أنا كاتبة حداثية؟ ما المقصود بذلك؟

جوابي الأول والأخير: لا أدري! وسأشرح لماذا هذا الجواب حاسم وقاطع في اعتقادي. 

العنوان دفعني لاسترجاع السؤال: متى بدأت أكتب ولماذا؟ 

متى شعرت أنَّ الكتابة حاجة، وأنَّها كما يقول الشعراء والنجوم والمشاهير تجري في دمي؟ أصدِّق أنَّ العبارة هنا حقيقية، لأنَّ مشاعري في الكتابة ومعها هي شعوري الوطني ذاته!

 تعلَّمنا أنَّ الوطن يجري في دمنا. كيف؟ 

لأنَّه يرمز إلى التحامنا بأرضه. كيف؟ 

لأنَّ أرضه مرتع طفولتنا. كيف؟ 

لأنَّ هذا المرتع يشكِّل الخزين الأول والأساسي، يشكِّل الكنز، الينبوع.

هكذا ارتبطتُ بمشاعر الوطنية الجيَّاشة مثلما ارتبطت بمشاعر الكتابة التوَّاقة. المرتع، الطفولة، الذكريات، التاريخ، كلها وغيرها مفردات شكَّلتني، وهي تجمع بين المواطنة والكتابة، ولكن أي وطن؟ وأي كتابة؟ أتكون هذه حداثة على نحو ما؟ لا أدري!

الاختيار

هل نختار الكتابة ونوعها ومواصفاتها؟ لا أدري أيضاً.

 التاريخ قد يجيب قليلاً، أو كثيراً، حين يشير إلى شعراء بدأوا رسامين أو العكس. أو تحوَّلوا إلى الرواية أو زاروها مرة أو أكثر في تجربتهم الإبداعية، وإلى موسيقيين يكتبون، ومخرجين يمثلون، فزمن اللا اختصاص الإبداعي مفتوح منذ القدم، وها هي رسائل فان غوخ إلى شقيقه كتوأم لرسومه وها هي قوافل من شعراء يكتبون الرواية، وقاصات وقصَّاصون يرسمون، وها هي السياسة والدبلوماسية والطب والعلوم حول العالم، تحفظ لنا تجارب لمبدعين ومبدعات جمعوا بين الإبداع الحر والوظيفة المقيّدة!

هذا الاختيار في تزاوج الفنون لدى المبدع أو المبدعة رأيته وعايشته مع أسماء مختلفة أعرفها عن قرب أو بعد، منها: غادة السَّمَّان، أحلام مستغانمي، سعدي يوسف، محمود درويش، سالمة صالح، فاضل العزاوي، محمَّد برادة، وأسماء عدَّة، لكل منها لحظاته الخاصة في الانطلاق والتأثر والتعدد. ولأنَّ هذه شهادة ذاتية أعود بكم إلى مسارها المطلوب.

من الموسيقى إلى القصَّة وبالعكس

هل بدأت حكايتي كما أظنُّ حقَّاً بلحظة من طفولة ما تزال طازجة في قلبي إلى اليوم؟ 

بل هما لحظتان: أولهما صوت مؤثِّرات موسيقية لإحدى التمثيليات الإذاعية، والثانية صوت شقيقتي الكبرى تقرأ لنا في جلسة شتاء عائلية دافئة رواية “فتح الأندلس” لجرجي زيدان. في اللحظة الأولى تلاشت أحداث التمثيلية الإذاعية لتبقى تلك النغمات المأخوذة من سوناتة ربما لفاغنر أو بيتهوفن، ولن أدَّعي معرفة عميقة أو دقيقة لهذه الكلاسيكيات، لكن لعلَّها فطرة أنتمي إليها بإحساس جيَّاش. فتلك الضربات على البيانو التي تعكس مشاعر متضاربة من الخوف والغموض والترقُّب ما تزال تتردَّد كصدى في أذني من طفولة نديَّة إلى أرذل العمر، كما يقول غير الحداثيين! موسيقى كأنَّها اختارتني واصطادتني لتضعني ربما إلى الأبد أمام سؤال الإبداع: كيف نستطيع أن نقبض على تعبير يقود للعمق وللأفق؟

لم أكن أعرف الفواصل بين ضربات البيانو وحنان الكمان والإيقاعات المتبادلة في الآلات الوترية والنفخية وسواها. لا يهمّ، المهم عندي الصوت الخلَّاق، كأنَّه نسر يحطُّ في القلب فتحتدم النبضة ويغيب المكان والزمان فوق جسر من حالة ذهول ودموع. 

أما اللحظة الثانية، وأختي تقرأ لنا عن وقوف طارق بن زياد أمام قلاع الأندلس، فقد ذهب رأسي إلى سؤال فطري: كيف استطاع الكاتب أن يصوِّر لنا هذا العالم والموقف والحدث والإحساس؟

 ابتعدت من دون أن أدري عن الحكاية لأذهب إلى الأسلوب والأدوات. لم يعد رأسي الصغير يسأل ماذا حدث بعد ذلك لطارق بن زياد؟ بل كيف يقول لي جرجي زيدان كل هذا؟ كيف أوصلني إلى هناك؟ وكيف أخذتني الموسيقى في الراديو إلى ذاك المدى؟ الآن، عندما أكتب عن تجربتي وكيف نضجت مع الزمن أسترجع مقولة شوبنهاور: ( تسعى الفنون كلُّها إلى أن تكون كالموسيقى). 

ولأنَّ القصة القصيرة تبدأ بضربة انفعال كضربة اللحن الموسيقيّ الأول وجدت نفسي عند عتبتها، لم أقلد أحداً ولم أسعَ إلى أن أكون مثل أحد. ليس غروراً أو ثقة بل لعلَّه جهل وسذاجة! 

ربَّما كنت، وما زلت، أعاني من عقد نقص! فكيف يمكن أن أصبح كاتبة وأنا أقرأ ليوسف إدريس وقبله جرجي زيدان ونجيب محفوظ، وغادة السَّمَّان ولائحة من كتَّاب وكاتبات يضيئون الفضاء العربي في زمن طفولتي ومراهقتي وآخرين وأخريات أقرأ نتاجهم باللغة الفرنسية أو المترجَم مما كنت أحصل عليه من (مكوجي) في حيّنا يؤجِّر الكتب ليزيد دخله وما يدري أنَّه كان يضيء لي العالم

داخل قبيلة الحداثيين وخارج القوالب؟!

خواطري الأولى ومحاولاتي القصصية بدأت في أجواء الصحافة فقد ذهبت إلى الصحافة لأنشر خواطري وقصصي، فحوَّلني محمَّد بديع سربيه ثم أنسي الحاج وأدونيس وطلال سلمان وعلياء الصلح وبلند الحيدري، وكانوا أمَّا رؤساء تحرير أو مشرفين على أقسام الثقافة والأدب والفنون في صحف ومجلات مختلفة في بيروت عاصمة الانطلاق والتجديد في ذلك الزمن. حوَّلني هؤلاء القادة المبدعون إلى صحفية تكتب التحقيق وتوظِّف ثقافتها وأسلوبها المميز، برأيهم، لتقدم استقصاءات ولقاءات، وإذا بي أصبح (ألس في بلاد العجائب) لكنَّ الأرنب والحدائق والساحرة والبحيرات لم تكن سوى معارض الرسم والندوات والكتَّاب الكبار.

ما زلت أدهش إلى الآن وأنا أسترجع حنان الشاعر بلند الحيدري وهو يقدِّم لي كتاب “واقعية بلا ضفاف” لأتذوَّق التذوق الفني وأنمِّي موهبتي، والكاتب طلال سلمان يصحبني لألتقي بأحمد رامي وثروت عكاشة، وأنسي الحاج يحرِّضني على التشبُّث بلغتي الخاصة وينشر لي في ملحق النهار أولى محاولاتي، وبديع سربيه يفتح لي أبواب قصر فريد الأطرش لأكتب القسم الأخير من مذكِّراته لتنشر في مجلة الموعد، فيما أتعلَّم من أدونيس الصبر والمثابرة كي يعترف بي كاتبةً، لأني في ذلك الزمن كنت مشروع كاتبة. أما علياء الصلح فدفعتني إلى كتابة المغامرة الصحفية في مجلة الحسناء مع إعادة كتابة المقدمة تسع مرات لألتحق بقبيلة تحقيقات غادة السَّمَّان الصحفية، وهكذا أتاح لي هؤلاء الكبار نشر بعض نصوصي الأدبية.

أين الحداثة في كل هذا؟ وأين أنا في الكتابة النسائية؟ لقد كنت وسط قبيلة الحداثيين وخارج قوالب كتابة المرأة وكتابة الرجل، لكني لم أكن أدري!

سينما وسيناريو ونجوم وإخراج وكتابة

نحن جيل الحداثة. هكذا وضعني بعض النُّقَّاد في صف الحداثيين، فعلوا ذلك كمن يضيف منتظراً آخر إلى طوابير المنتظرين أمام أكشاك المعاملات الرسمية والبنوك، فكيف وصلت تجربتي في الكتابة إلى هناك؟ هل لأنّي عشت زمن التَّحوُّل الجميل؟ هل لأني كنت محظوظة في الاقتراب من جيل المجدِّدين المصريين والعراقيين والمغاربة واللبنانيين الذين أوصلتني إليهم ظروف حياة قدَّرها الله لي، بدأت بالرحيل الذاتي وتطوَّرت إلى أنواع من التهجير والهروب واللجوء؟ هل كنت تأثَّرت بصنع الله إبراهيم ومارغريت دوراس وبهاء طاهر وغادة السَّمَّان، وقبلهم نزار قبَّاني؟ أم إنّي تأثَّرت بأفلام المستحيل، والاختيار، وطيور كبيرة وصغيرة، وزد والدولتشي فيتا، وحسناء النهار؟ هل أستطيع أن أفرِّق في هذا التأثُّر بين خطفات يوسف إدريس الاسترجاعية في قصصه القصيرة وصور بونويل الحلمية في أفلامه الرائدة للموجة الجديدة، أو بين برودة لغة صنع الله إبراهيم المرعبة في روايات الضد الحديثة وأشباح فلليني في تيارات السينما السوريالية؟ متى تحوَّلتُ وأصبحت داخل تلك الأحرف والفضاءات ولمسة الكتاب الليلي تحت المخدة واستغراق السمع إلى الموسيقى الكلاسيكية من راديو بيروت 2 الذي يبثُّ باللغة الفرنسية، وفي مرحلة تالية راديو “إف إم” في بيت يفضِّل فيه الأب سماع الآيات، ولا يصل إلى أذن الأم من بيانو بيتهوفن أو كمانات فيفالدي ونقرات شوبان وفالسات موتسارت إلَّا الطنطنة التي يدهشها إعجابي بها! لم أكن أعرف أسماءهم، ولا أفرِّق بين ما أسمع إلَّا بمدى تأثيرهم الغريب في تلك المنطقة الغامضة بين عقلي وقلبي. ولكنَّ مهلاً! إن أنسَ فلا أنسى فاتن حمامة وشادية والمجلات الفنية ومحاولات اكتشافي الفطري لفرسان السينما الذين يحركون الوجوه والمشاهد. عرفت أبطال الموسيقى التصويرية منذ مختارات أندريه رايدر العالمية إلى مودي الإمام، وتعلَّمتُ اكتشاف الفوارق في الإخراج بين واقعية صلاح أبو سيف ورومانسية بركات. مجلَّات السينما والمسرح المصرية كانت دليلي.

بدأتُ أيضاً أدرِّب نفسي على النقد واكتشاف الأخطاء في التصوير والأداء وأرى نفسي أصبح الناقدة والمرجع لقريباتي وصديقاتي، ففي صيف جميل في منتصف الستينيات من القرن الماضي وضعتني الصدفة في مختبر السينما اللبنانية، وكان استوديو هارون مدرسة كبرى، ومخرجو الأفلام العرب يصوِّرون في لبنان، هكذا أوصلني مكتب إنتاج قدمت له فكرة لقصة فيلم سينمائي إلى كواليس التصوير والإخراج لأصبح ملاحظة السيناريو وأتدرَّب عملياً ودراسة في ميدان مساعدة الإخراج والمونتاج وتحفيظ أبطال الفيلم الحوار ومراقبة الحركة النهائية في كل لقطة. ومرة أخرى تتجول (ألس) في عالم عجائب أخرى، خلف الكاميرا، تضيف إلى تجربتها أو مغامرتها. أصبحت أكشف لصديقاتي كيف أنَّ عز الدين ذا الفقار أقل ميلودرامية من أخيه محمود ذي الفقار! أتابع الرحابنة وفيروز وأحب تجديدهم الستيني، وأحب عبدالحليم حافظ ومحمَّد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي. يصبحون أقاربنا، نحكي عنهم ونتداول أخبارهم ونسهر معها، أتعرّف داليدا وأحبُّها وإنريكو ماسياس وشارل أزنافور وميلوديات توم جونز وميلودراميات أفا غاردنر وخفة دم دوريس داي وشيرلي ماكلين، ليتنامى تذوُّق تلك الشابة الساذجة مع اكتشافها بولونسكي والموجة الفرنسية الجديدة والبيتلز وآبا، وصولاً إلى وودي ألان وفرانسيس كوبولا وانغمار برغمان الذي شاهدت أول أفلامه تأثراً بإعجابي بأنغريد برغمان.

هكذا يصبحون في الوجدان والذاكرة، ليولدوا في سلالة جديدة متجددة في روايتي (أرتيست) بعد أكثر من نصف قرن. أين الحداثة في هذه الخلطة؟ هل تكون هي هذه الخلطة؟ لست أدري! 

من تاريخ طفل إلى أبي التواريخ

كنّا في شرفة بيتنا الصيفي في أحلى مصايف كسروان اللبنانية، بلدة رأس المتن، وفيما كانت رائحة الصنوبر تعبق في الغابة التي تحتضن البيوت الحجرية على تلك الرابية وأصوات الجنادب تعلن بداية ليل صيفي ينتعش ببرده الخاص، كانت صرخة أخي الأكبر تخترق العبق وردات الجنادب: ثورة في الجزائر.. ثورة في العراق.

في ذلك الزمن لم يتجاوز الفارق بين التاريخين أربع سنوات لكنهما ارتبطا بلحظة الشرفة والغابة مثلما ارتبطت أيامنا الصيفية بعد ذلك بحماس أخ أكبر يتحدث عن ثورة مصر كالحكايات وعن الثورة الفلسطينية، وتكتشف الصَّبيَّة وهي على أبواب مراهقتها أول ثورة لبنانية والفرز الطائفي الذي لحقها لتختلط بذهنها ووجدانها ووعيها السياسة والفنون والآداب في توأمة مدهشة من تواز يتواصل ولا يلتقي، فمنذ تلك اللحظات التي خبأت نفسها ولم تخفت، ومنذ التحاقي تأثراً بشقيقي الأكبر الراحل، عشت عالم عجائب أخرى مع قراءة الصحف والمجلات والنشاط الشبابي في حب عبد الناصر، عن طريق المراسلة مع هواة المراسلة في مصر وإقامة رحلات إلى القطر الشمالي في تاريخ الوحدة المصرية السورية، ثم جمع التبرعات دعماً لتأييد أول حكومة جزائرية قبل الثورة. كنت أصغر المشاركين في الحملة وكنت في الثانية عشرة من العمر حين حصلت على شكر وتكريم من مكتب الحكومة الجزائرية لأنِّي جمعت مع صديقتي حوالي مائة وخمسين ليرة من بنات المدرسة وأهالي حيِّنا! هكذا تواءمت تجربتي بين السياسي والفني والأدبي والتصق حماسي بداية بالناصريين ثم انتقل إلى المقاومة الفلسطينية، ومنها إلى اليسار! كأنّي أبحث عن الجنَّة التي حلمت بها في طفولتي، لكنِّي اكتشف في كل انغمار أنَّها ليست الجنّة، وتعلِّمني المواقف والسلوكيات والتشدد والقولبة أنّي أخطأت الطريق!

لكن، ومع الوقت، وارتباطي بالشاعر جليل حيدر الفارس الذي بدأ انطلاقته في قبيلة جيل السبعينات المجنون عدت أجد نفسي رفيقة زوجٍ فنَّان ومقدام يصحب (ألس) إلى عجائب أخرى في فضاءات كمطويَّات بلا نهاية، إلى قراءات رصينة، وأمهات كتب، إلى الدهشة والاكتشاف والحماس والتحدي والانتماء، إلى قضية لا تعرف أنَّها قضية وإلى مغامرة في حضن عائلة، إلى تاريخ بلد انطلق منه التاريخ… إلى العراق الذي في انتقالي إليه عدت طالبة تنطلق في رحلة حداثية أخرى لأعيش كل يوم في أرجوحة محتدمة من التضاد العنيف بين قبضة السياسة وعنف التاريخ، ودوائر الفرسان والفارسات الكبار من كتَّاب وكاتبات ورسَّامين ورسَّامات وشعراء وشاعرات، تعلمت منهم ومعهم الجوع المختلف للعبة الانتماء والخلاص عبر أشكال من الفن والأدب رهيبة في تنوِّعها: من التشكيل إلى المسرح فالشعرفالرواية والصحافة والسينما والتلفزيون، ومن النقد إلى الفلكلور، في توأمة لا مثيل لها كأنَّها آخر هدايا الزمن القصير الجميل في مطلع سبعينيات القرن الماضي. ولم أكن أدري أنَّ هذا التاريخ المتفجر والمتدفق وما حدث بعد الزمن العراقي القصير الجميل سأعيده مرة أخرى وأتركه لتاريخ لا يموت في كتابي “سنوات مع الخوف العراقي” وهو الكتاب الذي كتبني ولم أكتبه! لقد كان ويظل على حدة من أي إطار أو تصنيف.

كيف كتبت؟

“أرجوحة الميناء” كانت مجموعتي القصصية الأولى. ناشرها قدَّمني بوصفي أكتب الحياة اليومية بأسلوب خاص مشوِّق ومؤثر. أما قصة “هل رأيت ما رأيت” التي كتبتها في الثمانينيات فقد اعتذرت مجلة “العربي” عن نشرها لأنَّها فوق مستوى القرّاء، كما اعتذرت مجلة “الجامعة العربية” عن نشرها لحساسيات سياسية.  ونشرتها مجلة “الناقد” في عددها الأول، وأعلنني مستشار المجلة حينها الكاتب الحداثي زكريا تامر «كاتبة من نوع خاص». القصة باختصار عن حفل تقيمه منظمة دولية في قصر أحد كبار موظفيها، والحدث ترويه موظفة في العلاقات العامة تحضر الحفل وتراقب الزائرين والأجواء لتكتشف وجود جثة تطفو في المسبح الذي يتحلَّق حوله الضيوف. لكن لا أحد يرى الراوية ولا يرى ما رأت، وطوال القصة تكون الراوية منشغلة بكيفية إخبار أصحاب القصر والزوار بوجود تلك الجثة، معتقدة أنه يمكن إنقاذها. 

الآن، إذا ما حاولت الدخول إلى مختبر كتابة تلك القصة أرى مشهداً من فيلم المسبح لكلود شابرول وربما أكتشف أن ثمة علاقة ما زالت ملتصقة بوجداني تدمج بين السياسي والثقافي والفني والأدبي. أمَّا أسلوبي فلا أعرف شرحه أو تفكيكه وأحاول التعرُّف عليه من خلال ما شرفني بالكتابة عنه نقَّاد وأساتذة وأكاديميون من رجال ونساء مرموقين. ومنها دراسات وأبحاث ورسائل ماجستير في جامعات مرموقة فوجئت بها، إذ عرفتها صدفة من خلال أصدقاء أو أثناء بحث على النت، وهي فرصتي الآن التي تمكنِّني من إعلان شكري وامتناني لمن ذكرت منهم ولكلِّ من لم أتمكَّن من ذكره:

– دراسة في الأدب المقارن في جامعة ساوث كارولينا لرسالة ماجستير بين روايتَي” أرتيست” ورواية “سبوتنيك الحبيبة” لهاروكي موراكامي.

– دراسات أكاديمية لروايات “بستان أسود” و”أرتيست” و”حجاب كاشف” في جامعات مختلفة، منها جامعة لندن كلية الدراسات الشرقية والأسيوية (SAOS)  جامعة فاس في المغرب وجامعة تونس وجامعة عين شمس في مصر، وبعضها باللغة الإنجليزية ضمن دراسات الأدب المقارن، أو أقسام اللغة الإنجليزية، برغم أنَّ رواياتي غير مترجمة!

– دراسة أكاديمية عن عدد من أعمالي نشرتها المستشرقة “ون شن يونغ” في أكاديمية نت.

أما النقد فهكذا رآني:

طابع تجديدي في أسلوبها وبناء عالمها. (يمنى العيد)

– استخدام وسائل تقنية للإقناع بقدرة وتميز وخبرة في الحياة اليومية، وهو ما نفتقده في الأدب النسائي العربي عموماً. (غالب هلسا)

– أسلوب يدخل ضمن الحساسية الجديدة والفنطازيا تأتي من الواقعي. (إدوار الخرَّاط)

– نقد بنَّاء وجودة في الكتابة وسهولة في الأسلوب تجعل القارئ يشعر بكثافة المحتوى ووقعه على الضمير. (المهدي المنجرة)

– علاقة الغيرة بين الزوجة والغريمة تتجاوز الزوج موضع النزاع، وتزوِّد الزوجة بهذه الإثارة التي تفتقدها في زيجتها. نجد أنفسنا في قصتها إزاء علاج غير تقليدي.

لطيفة الزَّيَّات))

– تشكِّل رواية “حجاب كاشف” لهاديا سعيد إضافة نوعية لمسارها الروائي، سواء على صعيد ما تحيل به من مرجعيات ممهورة بتوقيع البعد الواحدي المطلق للهوية وتشييد أفق جديد للتواصل الإنساني ومجابهة غربة المنفى أو على صعيد الشكل الروائي الذي تميز بنكهة فنية مائزة. (د. أحمد الجرطي)

– تشعر أنَّك مأخوذ حقاً بوصفها لجزئيات المشاعر الإنسانية محلِّلة الخوف بوصفه غريزة للحفاظ على الذات والبحث عن الأمان من خلال الصديقات العراقيات والقراءة وانتظار فيلم يوم الجمعة. (فيصل عبد الحسن)

– كتابة شذرية تتوحد بنثر يقترب من الشعر. (عبد الحميد عقار)

 – مثل حورية تهرب لتكتب وتحيلك دائماً إلى قاموسها بمرجعيته الواقعية وشعريته. 

القمري بشير))

 حداثة تعيش وتتشاجر وتتنفَّس

ربما شاء قدري أن أعيش الرحيل والترحال لأبقى دوماً في حالة اكتشاف وتجربة ودهشة. هكذا كنت محظوظة بتعرُّف فرسان وفارسات الكتابة والإبداع بقوالبه وتجلياته وقواميسه المختلفة، من بيروت إلى العراق، إلى المغرب، إلى لندن. تاريخ عشناه بهم ومعهم وبالطول والعرض، من إلياس خوري وإملي نصرالله وهدى بركات إلى فاضل العزاوي وسالمة صالح وجبرا إبراهيم جبرا والدكتور صلاح نيازي وغالب هلسا وآمال الزهاوي وجليل حيدر وفوزي كريم وابتسام عبدالله وأمل الشرقي وفاطمة المحسن وفالح عبد الجبار وزهير الجزائري ومحمد برادة ومحمد الأشعري ود. فاطمة المرنيسي وعبد الجبار السحيمي ومحمد العربي المساري وخناثة بنونة وعبداللطيف اللعبي وثريَّا جبران ومحمد زفزاف ومحمد شكري وإدريس الخوري ومليكة العاصمي ولطيفة باقا وزهور الحرش وزهور كرام وسميرة المانع وعالية ممدوح وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وسلوى بكر وعبده جبير وليلى برادة ومي غصوب وفرسان وفارسات لا يسع أي مجال لاستحضار أسمائهم جميعاً، فشكراً وعذراً، ممن لم أذكر سهواً وضيق مجال. وسأظل أشكر الله أن أتاح لي زمناً جميلاً معهم وقرباً منهم في محطات وبلدان مختلفة، فهكذا تتنفس التجارب ويتوالد الإبداع وتتعمق المعرفة لتؤسس حداثة الجذور والتجديد والذكريات. 

أوراق وقصص

لم تكن الصبية ابنة عشر السنوات تدري وهي تقلد أمام عائلتها في سهرات الصيف الجبلي المذيعة المصرية آمال فهمي في برنامج “على الناصية” أنَّ ملعقة الطبخ التي تصبح بيدها مايكروفوناً ستكون في زمن قادم بعد ثلاثين عاماً مايكروفوناً حقيقياً ينقل صوتها مع الإبداع الجديد من أضخم وأشهر إذاعة عالمية في لندن. 

كانت أجمل ثمانية أعوام عشتها ابتداء من 1997 مع برنامج (أوراق) الأسبوعي في إذاعة الـ “بي بي سي” في بوش هاوس لندن. لقاء أسبوعي يقدم مسابقة لكتَّاب وكاتبات القصة القصيرة جداً التي لا تتجاوز كلماتها خمسمائة كلمة ولا تتجاوز قراءتها خمس دقائق. لم أكن أدري أنَّ إدارة المحطة التي يسمعها الملايين ستوافق على الفكرة التي اقترحتها بتشجيع من د. صلاح نيازي وهي تشجيع المبدعين والمبدعات الشباب من كتّاب القصة القصيرة. وهكذا، ومرة أخرى، أجد نفسي في تجربة مدهشة ومخيفة معاً، فهل سأستطيع جذب جمهور يمكن أن يتقبَّل قصة قصيرة مسموعة بدلاً من قراءتها؟ وكانت المفاجأة خلال الأسابيع الثلاثة الأولى، لتتصاعد مع الوقت ويحصل برنامج (أوراق) الذي اقترح اسمه المنتج والمذيع الشاب الحداثي تماماً سمير فرح على ذروة النجاح والاستماع والإعادة. لقد كنا نعيش إبداع الحداثة في هذا البرنامج؛ سمير يقدِّم وأنا أختار القصة الفائزة وأقرؤها على خلفية موسيقية، ثم نناقش ونختلف أو نتشاجر أو نتفق، ومع تصاعد النجاح أضفنا تضييف مبدعين ومبدعات من المجالات يشاركوننا مناقشة وإضاءة القصة الأسبوعية الفائزة. ولم يخذلني الكبار من روائيين وشعراء ونقَّاد وأكاديميين، انضمُّوا وشجَّعوا من معظم البلدان العربية ومن لندن وباريس، وفي مقدمتهم العملاقان نجيب محفوظ والطيب صالح. إنها حداثة الكبار والإبداع الشاب و(ألس) في آفاق العجائب!

أساليب حداثية

لا أدري كيف أفرز الأساليب الحداثية العربية أو أشرح مسارها في الكتابة، ولم تستوقفني يوماً كل كتابة تقيم حواجز الفصل بين النسائي والرجالي في الإبداع. لهذا لاحظت -للمثال وبشكل عام- أنَّ ظبية خميس حين تكتب عن الحداثة العربية في الرواية تتوقف عند عبد الرحمن منيف، وهو كما أراه في طليعة المجددين، ومعه جبرا إبراهيم جبرا، مع ذلك أجد نفسي من المنتمين تلقائياً إلى حداثة غالب هلسا في “الضحك” و”السؤال” وبهاء طاهر في “الخطوبة” و”حب في المنفى”، وإذا كانت ثمة روابط بين الحداثة العربية والمثاقفة للشكل والأيديولوجية الغربية فإنَّ تطبيقي تلقائياً أيضاً يسرع متوجِّهاً إلى السينما والموسيقى. ومع مراحل تالية في تجربتي تعمَّق توجُّهي عبر قراءات بالفرنسية والإنجليزية لإيتالو كالفينو مثل “البارون فوق الشجرة” و”لو أنَّ مسافراً ذات شتاء” ومارغريت دوراس مثل “العشيق” و”سي تو” وباولو كويلو ليس في “الخيميائي” بل مع “الزهير” و”إحدى عشرة دقيقة” وكايت أتكنسون في “ليست نهاية العالم”؛ فمثل هذه النماذج وغيرها كانت تجذبني.

إنَّها الغرابة والتوظيف البصري وما يسمِّيه بعض النقاد الكتابة المتشظِّية، وسيظل إحساسي في القراءة والتلاحم والانغمار في عالم اللغات المتداخلة هو الدهشة والتأثر والاستفادة، وهو ما نقل تجربتي إلى مستوى آخر ما زال يعلمني وينقذني من الاستطراد والتهويم والتهويل.

خاتمة:

توقفت في هذه الشهادة عند حدود الحداثة كأسلوب وتزاوج فنون وآداب وفكر وأدوات بين آفاقها وأعماقها، ولم أتوقف عند رؤيتي للحياة والكون والإنسان ومآزق العبور بين الفردي والجماعي ومفاهيم الأوطان والحروب ومعتقدات الإيمان والالتزام أو الانفلات والهروب. لكن كل هذا شكل المحتوى لما كتبت وأكتب وسأظل أراهن ،عبر التجربة والصدمات واستخلاص العبر واقعيا لا نظريا وتصورا، على الانسان الفرد قبل الجماعة وعلى الروح الشفافة قبل الغريزة المتحدية وعلى فطرة القدرة على التعايش فوق الجسور خارج أسوار الملكيات والاستحواذ والتحدي، ولهذا سأنتمي دائما للأمل والعمل فمنهما ومعهما ينتعش الخير ويتوالد التطور النبيل.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply