
لوحة الفنانة دينا محمّد منصور
من المجموعة القصصيَّة للروائية إلهام عبد الكريم “وتحبُّ الورود”* اخترنا قصصاً قصيرة جدَّاً تحكي حكاية البنت والأخت والزوجة والأمّ والجدّة، وسيجد القارىء أنَّ أولاء النِّسوة وهنَّ يبحن بوجعهنَّ أو يركضن للإمساك بتفاصيل منسيَّة من أحلامهنَّ لا يغادرهنَّ الأمل ولا تنطفئ جمرة عواطفهنَّ المقدَّسة.
حلاوة ومرارة
أغلبنا يجيد تقطير المرارة من أكثر الأشياء حلاوة، وقلة قليلة تستخلص من المرارة حلاوة الشهد.
يُتم
أرادت أن تمتحن صبر الرجل الذي يسعى إلى تبنِّيها فطلبت منه أن يهديَها لعبة يتيمة كثيرة البكاء، خائفة من الدنيا بأسرها، لا تعرف للطمأنينة شكلاً ولا لوناً!
أدرك الرجل الرؤوم مقاصدها فأخذ بيدها وأخبرها أنَّه سيفعل ما تريد وأنهما معاً سيزيلان خوفها ويمسحان دموعها، عندها عرفت الطفلة شكل الطمأنينة ولونها البرَّاق!
لعبة
عاد أخوها الصغير باكياً بعد أن خسر كلَّ ما معه من كرات زجاجية صغير، وهي التي شقَّ عليها بكاؤه راحت تطمئنه إلى أنَّها ستستردُّ ما ضاع منه مضاعفاً.
دخلت دائرة اللعب وسط دهشة الأولاد وفعلت مثلما كانوا يفعلون، وراحت تغلبهم الواحد تلو الآخر، وهم المشغولون بها سعدوا بخسارتهم مكتفين بالمكسب الذي لا يمكن أن يضاهى، ذلك هو وجودها في حلقة لعبهم اليومية!
شال
قال صغيرها: لو أنَّ لي جناحين!
فكَّرتْ ببديل يسعده واهتدت إلى شال لها لم تعد تلبسه.
أعملت مقصَّها فيه، قَصَّة من هنا و كشكشة من هناك… و طار الصغير بجناحَي خيال أمه الخلَّاق.
أعزُّ الوِلْد
حفيدتها ذات السنوات الستِّ سحبت البساط من تحت قدميها، وهي ببساطة تقبَّلت الأمر مؤمنة بفاعلية المثل القائل:” أعزُّ الولد ولد الولد”، وبمرور الوقت لم تعد تهمها نشرات الأخبار التي لا تقدِّم غير صور الموت بدمويتها المحزنة ووحشيتها المخيفة ولا الأفلام والمسلسلات المستهلكة.
“البراعم” التي أدمنت الطفلة مشاهدتها صارت هي البديل الجميل، أحبَّت الجدة أرانبها المغنية وقطاراتها الناطقة وقمرها الذي لا ينام إلَّا على وقع حكاية جميلة، وعشقت الروح التضامنية السائدة بين أبطالها و حسدتهم على قدرتهم الفذة على الاعتراف بأخطائهم و سرعة استجابتهم لنداء التسامح، وانفتحت مخيلتها كطفل يتعامل مع الأشياء للمرة الأولى بدهشة ومتعة ونظافة.
ملل
تمنَّت أن تسكن في غيمة عالية في السماء و تحقَّقت أمنيتها، وإذ لم تجد من يشاركها حلمها قررت أن تعود إلى بيتها الأرضي بَيدَ أنها لم تجد السلم الذي أوصلها إلى الغيمة، ومنذ ذلك الحين والغيمة لم تكفَّ عن المطر!
قعر الفنجان
راحت تنظر في قعر فنجانها لعلَّه يأتيها بشيء جديد. تلوح لها تعرُّجات كثيرة وكثبان متفاوتة الارتفاعات، أشجار سامقة و أخرى تنام تحت ظلها، طرق ممتدَّة تلتوي في منتصف الطريق ثم تعود لتصنع لها اتجاهاً آخر، تماماً كما تفعل الأنهار المتعبة في رحلتها الأزلية الطويلة. حيوانات وطيور طائرة، وعوائل من البشر، وكلُّ ما عليها فعله أن يعمل خيالها العظيم على تسميتها بأسمائها التي تعرفها أو بغيرها التي لا تعرفها، ففي القيعان شيء من كل شيء في الواقع الذي نراه، والآخر الذي لا تدركه عقولنا ولا تراه الأبصار!
صدمة
شعرت بصدمة قاسية وهي تلتقيه للمرة الأولى بعد فراق طويل، لم يكن هو الرجل الذي عاش في خيالها تلك الأعوام الماضية. إنَّه آخر تماماً على الرغم من كونه لبس وجهه الذي تعرفه ولم تره إلَّا في مناماتها السعيدة. أنهت اللقاء وعادت إلى بيتها بشعور المهزوم في معركة سهلة وراحت تفكر في أحوالها وأحواله وهي تتساءل: أهو فجٌّ بواقعيته ومباشرته أم أنَّ خيالها هو من جنى عليه إذ أراد له مكاناً عالياً وقلباً دافئاً وعاطفةً متَّقدةً لا تنطفئ جمرتها المقدَّسة؟
عناد
كتمت غضبها، وهي الخبيرة بلجم انفعالاتها. كان ينظر إليها بتشفٍّ مدرك لعمق الأسى الذي خلَّفه في نفسها وقال لها بنبرة متعالية: عنادك هذا لن يصل بك إلى أيِّ مكان.
كاظمة غيضها رأت منديل الوداع يلوح ببياضه الآسر معلناً عن بداية عاتية لنهاية منكسرة فاستنهضت كبرياءها وأجابته: من قال إنِّي من سيغادر؟
ما أطيب طعامك يا امرأة!
اعتادت ربَّة العائلة على شراء فاكهة بعينها ومثلها من خضروات الطبخ، ذلك أنَّ أبناءها لا يحبون غيرها، ومثل كل مرة يحاول البائع ترغيبها وتمتنع لأنَّها لا تريد أن ترمي شيئاً، وكان يؤكِّد لها أنَّ ما يأكلونه لا يداني بقيمته الغذائية ما لا يحبونه وهي بدورها تواصل التَّمنِّي أن يضع الله تعالى في دروبهم نساء قويات يطبخن لهم الحصى ويأكلونه وهم يردِّدون: الله! ما أطيب طعامك يا امرأة!
حدوة حصان
لاحظت، وهي التي لا يفوتها شيء، أنَّ ابنها الوحيد صار يطيل المكث في البيت، و أنَّه لم يعد يخرج إلَّا لماماً. وهي لم تُخفِ ارتياحها إذ انخفض منسوب قلقها إلى حدوده الدنيا، فالبيت يعني الأمان والشارع فيه من المخاطر ما لا يعد ولا يحصى.
نغَّص عليها إحساسَها الرائع هذا ما بدا على وجهه من حزن وانكفاء، فسألته و عاطفتها تسبقها إليه، فأجابها بصوت مخنوق: هاجر أصدقائي كلهم إلى…
سألته: وأنت، أتفكِّر بالهجرة؟
فما كان منه إلَّا أن غضَّ من بصره وانصرف إلى حاسوبه وكأنَّها ليست موجودة أمامه.
نامت على وجعها، وفي منامها رأت خارطة تلك الدولة وكأنَّها حدوة حصان معبَّأة بقوة مغناطيسية هائلة راحت تشفط الناس والحجارة على حد سواء… وحدها من بقي، وما ظلَّ لها وحولها خرابٌ كبير وبقايا أشياء لا شكل لها و لا ملامح!
طلاء أظفار
اصطحبت ابنتها لتشتري طلاء الأظفار. وهما في طريقهما إلى السوق، عادت بذاكرتها إلى لونها المفضَّل، كان بنفسجياً ينسجم مع لون بشرتها الخمرية. في المحل عاودها الحنين وفكَّرت أن تشتري واحداً للذكرى فقط! ولكنَّها أجَّلت رغبتها حتى تشتري ابنتها ما تريده. اختارت الشابة عدداً كبيراً من الزجاجات، اقتربت منها وفي ظنِّها أنَّ بإمكانها أن تعاونها في شراء اللون المناسب ولكنَّها فوجئت بقولها للبائع:
أريدها كلها!
بالطبع لم تستوعب الأمر وظنَّت أنَّ صديقاتها طلبن منها ذلك فسكتت على أمل أن تحصل على إيضاح.
في البيت انهمكت الفتاة في صبغ أظفارها على الفور من دون أن تجيب عن الأسئلة التي أمطرتها بها المرأة التي راحت بوادر الصدمة تلوح على وجهها، ذلك أنها لم تدرك بعد، أنَّ الموضة غادرت الطلاء الواحد، وذهبت إلى متعدد الألوان، تماماً كموضة تعدد الجنسيات!
امتحان
طلبت منه أن يقرأ كثيراً و أن يسأل أكثر حتَّى يتفوَّق في الامتحان ويدخل كلية الطب ليداوي علَّتها ويشفيها. فعلَ ما أرادت منه وراح يواصل الليل بالنهار منكبَّاً على كتبه… ولكن… حين صار طبيباً، لم تعد هنالك من أم يعالجها.
*”وتُحبُّ الورود,” ٢٠١٥، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل