أميرة بابليَّة

مخبَّأة في مدوَّنات القرن التَّاسع عشر  

أمل بورتر تكتب عن ماري تيريز أسمر.

ثمَّةَ شخوص في التاريخ العراقي نُسيت أو فرض عليها النسيان وطالها التجاهل والتهميش ولم يُمَط اللثام عنها فبقيت بين الرفوف العليا للكتب  في المكتبات العامة، ولا سبب واضح لذلك. لكنَّ الصدفة  قد تكون السبب في إزاحتهم من مكامن النسيان والنكران، وكنت محظوظة أن أجد بالصدفة ( ماري تيريز أسمر)  الشخصية المهمة والمنسية. عرفتُ أهمية ما اكتشفت عندما رحتُ أقرأ ما سجَّلتْ و جعلني ذلك أقوم بالبحث الجاد الصعب الذي استمر لسنوات عدَّة لكي أقدِّمها بفخر وزهو  للقراء باللغتين العربية والإنجليزية وأقدِّم الندوات عنها  في دول كثيرة وأحكي عنها في مؤسسات ثقافية أو جامعات. العراق فقط لم يمنح نفسه فرصة تعرِّف إحدى بناته ليفخر بها وبحبها لبلدها.

في زيارة إلى سويسرا يوم 16  ايلول سنة 2005  وفي بيت أحد الاصدقاء استرعى انتباهي عدد الكتب الموجودة في  مكتبة بيته، لم أقاوم رغبتي وأخذت أقلِّب تلك الكتب الكثيرة فوقع بين  يديَّ كتيِّب صغير عنوانه “شخصيات مهمة من تلكيف” مطبوع سنة 1969. كانت أغلب الشخصيات المذكورة في الكتيب رجال الدين من الكنيسة الكاثوليكية. 

 تذكَّرت هذه السنة فقد كانت قد مرَّت سنة على حكم البعث. كانت سنة وتلتها سنوات مليئة بالكوابيس لعائلتي ولي، تصفَّحتُ الكتاب، مؤلِّفه قسٌّ لا أتذكَّر اسمه، بدأت أقرأ بسرعة ووجدت اسم امراة واحدة بين أولئك الرجال فأثار ذلك استغرابي. اسمها ماري تيريز أسمر، يقول عنها الكتاب: “سافرتْ إلى أوربا وكَتبتْ سيرتَها في جزئين في أكثر من سبعمائة وستِّين صفحة وطبعت في لندن سنة 1844″. أثار اهتمامي وآلمني قوله:” من شخصيات تلكيف ماري تيريز أسمر، ولدت سنة 1804  ، وهي رحَّالة ألَّفت كتاباً   باللغة الإنجليزية من أكثر من  سبعمائة وستّين صفحة ولكنَّها بالغت إذ وصفت بيت والدها وقالت إنَّه بحجم اللوفر”. حزَّ في نفسي أن يذكر رجل الدين سطراً واحداً وبصفة انتقادية عن كتاب بسبعمائة وستِّين صفحة لامرأة شابة من طينته سافرت إلى أوربا، كتبت ونشرت كتاباً -كما يقول- باللغة الإنجليزية. 

ألم يكن هناك شيء آخر يثير الاهتمام بكتاب هذه المرأة سوى هذا السطر الذي وصف فيه كلامها بالمبالغة؟

 قرَّرت أن أبحث عن هذا الاسم دون أن أضيع الوقت، ففي هذا الزمان أستطيع أن أجوب العالم في دقائق عن طريق الشبكة العنكبوتية كما يطلق على الانترنت، وبما أنَّ كتابها قد طبع باللغة الإنجليزية في لندن فلا بدَّ أنَّ المكتبة البريطانية تحتفظ به، وفعلاً، وخلال دقائق ظهرت لي ملفَّات المكتبة البريطانية وفهارسها التي تقرأ:

 مذكَّرات أميرة بابلية/ ماري تيريز أسمر

وبدأتُ رحلة البحث  عن ماري تيريز أسمر ما بين فروع المكتبة البريطانية المزروعة في حقول  يوركشر والمقر الرئيس في لندن أو في أدنبره  فقد وجدت ضالتي الدسمة المهمَّة المبهجة، كتابَها، وهو أمر نادر الحدوث. ومن ثم شرعت في رحلة  طويلة مثيرة غنية حلوة مُرَّة  ومجهدة  لتعرُّفها وهي في كتابها  حبيسة جدران المكتبة البريطانية لا يجوز أن يخرج كتابها عبر تلك الأسوار، وأرى صورتها في مقدِّمة الكتاب قد وقَّعتها  فنانة بريطانية، امرأة أخرى يجب البحث عنها.

إذن، فماري تيريز أسمر إحدى الشخصيات التي نُسيَت وأُهمِلت، امرأة من تلكيف العراق يعرفها الغرب بالأميرة البابلية. ولدت عام 1804  في خيمة بين خرائب نينوى حسبما تصف هي ذلك في كتابها النادر الثمين الذي تحتفظ به المكتبة البريطانية باعتزاز ولا تريده أن يفارق بنايتها. الكتاب يقع في جزئين وصدر في شهر آيار سنة 1844  عن دار نشر كانت مهمة جداً حينها. عاشت وأدلت بدلوها قبل قرنين من الزمان وتركت لنا سفراً بالإنجليزية عن شجون عراقية محضة، صادقة ومرهفة، دوَّنت سجلَّاً غنيَّاً عن حياة الأيام التلكيفية والموصلية والبغدادية وعن عين كبريت ودير ربان هرمز وعن شجون الزُّرَّاع وجهودهم والحياة مع البدو على حقيقتها الناصعة. وتدل مدوَّناتها على وجود مبادرات ذاتية لها أهمية اجتماعية وتاريخية لكن فرض عليها النسيان والإهمال في التاريخ العراقي المعتم، يجب الآن تسليط الضوء عليها ونشرها. وهذا ما سعيت إليه واستغرق سعيي عدداً لا بأس به من السنوات، كلُّها كانت مثيرة مليئة بالمفاجآت التي تتطلب البحث والتدقيق.

في المكتبة البريطانية  التقطتُ الكتاب بيديَّ المتواضعتين، وضعت كفِّي على صفحاته، مرَّرتها وأنا أحسُّ برهبة ووجل  وشيء من الخشوع  تجاه امرأة شابَّة من بلادي  تغادر وادي الرافدين، تسافر عبر صحارى وتخترق ودياناً وتمر بجبال، تزور خلالها سوريا وفلسطين ولبنان، ثم تذهب إلى إيطاليا وفرنسا وإنجلترا،  وتمرُّ بأوقات ضيق لكنها تقاوم، تقابل البابا وأشرافاً وأمراء وملوكاً، وتؤلِّف الكتب و تترجم  وتطبع كتبها سنة 1844 ، وتتكلَّم بلغات تلك الشعوب كلِّها، بالعربية والسريانية واللاتينية والتركية والكردية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية.

في الوقت الذي كان العراق فيه يغطُّ في سبات عميق ويعاني من الحكم العثماني الجائر كانت هذه الفتاة في بغداد تتحدى وتطالب بمدرسة للفتيات وقبلها أسَّست مدرسة للبنات في القوش، تزور أخت الباشا حاكم مدينة الموصل وتتحدث عن تفاصيل تلك الزيارات بدقة وباهتمام وبروح مجاملة وتعتكف عند البدو قرب مدينة الحلَّة ألماً من غدر شخص سرق فكرتها عن مدرسة للبنات. ثم ترافق بمفردها قافلة كبيرة جداً وتقطع الصحراء إلى سوريا ثم فلسطين ولبنان ومنها إلى أوروبا، تعمل مرافقةً للأميرة اللبنانية الشهابية وتسكن قصر بيت الدين في لبنان وهناك في ذلك القصر الشامخ تؤلِّف وتخرج وتمثِّل مسرحية  بلقيس ملكة سبأ وتقوم هي بدور سليمان، وبهوى وشكر وإجلال نابعين من الصميم تتحدث عن الدروز.

 في كل سطر تجدها تبوح، بشغف، بانتمائها لأرض الرافدين  وسغبُ عواطفها لبلدها واضح عندما تكلّم جملاً في حديقة الحيوانات في لندن. وهذا الاعتزاز بكل صغيرة وكبيرة شيء مذهل بخاصة حينما يصدر عن امرأة من تلكيف، ممَّا يدلُّ على عمق تغلغل جذور أهل هذه المدينة في العراق، تلكيف المدينة الصغيرة التي فُرض عليها القهر والتعسف والتي تقبع غصباً عنها على هامش التاريخ والجغرافية.  ولكنَّ ماري تيريز أسمر تتباهى بكل ما له علاقة بتلكيف، بالعامل والبناء، وتصف كيف تعمَّر البيوت وتُنجَز في أيام قلائل، وتصف كيفية تبييض الجدران وتلبيسها، وتذكر خامات البناء وتسقيف البيوت، وتصف الحوش وحديقة الدار والبادكير والتختبوش، وكأنَّها كانت تعمل بنفسها مما يدل على حرصها ودقة متابعتها لما يدور في وطنها وفي البيئات المختلفة منه.

 تتحدث عن برج بابل وعن نينوى بفخر واعتزاز وبحرارة وصدق وألم وندم حتى قبل الشروع في عصر الحفريات في العراق وإماطة اللثام عن آثاره بسنين،  كما تذكر أيام الضيق وانتشار الاوبئة وتعرِّج على الاضطهاد و التحيز الديني  أو الطائفي وتقف عنده وتشرح تفاصيله، ولكنها لا تغفل عن أن تحيي أيام  الانفتاح والتسامح  والمشاركة والتعاون والرخاء والعزِّ أيضاً.

هل ألومها لو قالت إنَّها أميرة بابلية؟ 

لا والله، هي كذلك، وتستحقُّ الإمارة بكل جدارة لأنَّها وضعت بلدها في قلبها وعلى لسانها وحدَّثت الأمراء والملوك والنبلاء في أوروبا قبل أن يستطيع أي إنسان من وادي الرافدين تحت الاحتلال العثماني إلى يومنا الحاضر أن يقوم بما قامت به ماري تريز أسمر.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply