أضحى التَّنائي

هذه قصيدة لأشهر شعراء الأندلس أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون القرطبيّ الَّذي امتاز شعره بالأصالة وجمال الصَّنعة وخصب الخيال، فلُقِّبَ ببحتريِّ المغرب.

اشتغل ابن زيدون بالسِّياسة فتقلَّبت به الأحوال وعكَسَ شعره أحواله الرَّافهة والشَّقيَّة، وقد وزر لابن جَهْوَر أحد ملوك الطوائف في الأندلس ثمَّ اتَّصل بآل عبَّاد في إشبيلية فأُطلق عليه (ذو الوزارتين). 

هام عشقاً بولَّادة بنت الخليفة الأمويّ محمَّد بن عبيد الله بن النَّاصر لدين الله الملقَّب بالمستكفي بالله، وقال فيها شعراً عذباً كثيراً، وما برحت حكايتهما تشغل النَّاس في الشَّرق والغرب حتَّى أقيم نُصبٌ يخلِّدها في ساحة مارتيليه في قرطبة. 

القصيدة من البحر البسيط، ويقول فيها ابن زيدون مخاطباً حبيبته:

أضحى التَّنائي بديلاً مِن تَدانينا      وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا

أَلَّا وقَد حانَ صُبحُ البَينِ صَبَّحَنا          حَينٌ فَقامَ بِنا لِلحَينِ ناعينا

مَن مُبلِغُ المُلبِسينا باِنتِزاحِهِمُ               حُزناً معَ الدَّهرِ لا يَبلى ويُبلينا

أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا          أُنساً بقُربِهِمُ قد عادَ يُبكينا

 غِيظَ العِدا مِن تَساقينا الهوى فَدَعَوا    بأَنْ نَغَصَّ فقالَ الدَّهرُ آمينا

فَاِنحَلَّ ما كانَ مَعقوداً بِأَنفُسِنا         وَانبَتَّ ما كانَ موصولاً بِأَيدينا

وقَد نَكونُ وَما يُخشى تَفَرُّقُنا       فاليومَ نحنُ وَما يُرجى تَلاقينا

يا ليتَ شِعري ولَم نُعتِبْ أَعادِيَكُم     هل نالَ حَظَّاً مِنَ العُتبى أَعادينا

لم نَعتَقِد بَعدَكُم إِلَّا الوفاءَ لَكُم        رأياً ولم نَتَقَلَّد غَيرَهُ دِينا

ما حَقُّنا أَن تُقِرُّوا عَينَ ذي حَسَدٍ     بِنا وَلا أن تَسُرُّوا كاشِحاً فينا

كنَّا نَرى اليأسَ تُسلينا عَوارِضُهُ     وقد يَئِسنا فما لليَأسِ يُغرينا

بِنتُم وَبِنَّا فما ابتَلَّت جَوانِحُنا     شوقاً إلَيكُم ولا جَفَّت مآقينا

نَكادُ حين تُناجيكم ضمائرُنا      يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا

حالَت لِفَقدِكُمُ أَيَّامُنا فَغَدَت    سوداً وكانت بِكُم بِيضاً ليالينا

إِذ جانِبُ العَيشِ طَلقٌ مِن تَأَلُّفِنا   ومَربَعُ اللَّهوِ صافٍ مِن تصافينا

وإِذ هَصَرنا فُنونَ الوَصلِ دانِيَةً      قِطافُها فَجَنَينا مِنهُ ما شينا

لِيُسقَ عَهدُكُمُ عَهدُ السُّرورِ فَما      كنتُم لأَرواحِنا إلَّا رياحينا

لا تَحسَبوا نَأيَكُم عنَّا يُغَيِّرُنا      أَنْ طالَما غَيَّرَ النَّأيُ المُحِبِّينا

واللهِ ما طلَبَتْ أَهواؤُنا بَدَلاً           مِنكُم ولا انصَرَفَت عنكم أَمانينا

يا سارِيَ البَرقِ غادِ القَصرَ وَاَسقِ بِهِ      مَن كانَ صِرفَ الهَوى وَالوُدِّ يَسقينا

واسأَل هُنالِكَ هَل عَنَّى تَذَكُّرُنا                 إِلفاً تَذَكُّرُهُ أَمسى يُعَنِّينا

ويا نسيمَ الصَّبا بَلِّغ تَحيَّتَنا            مَن لَو على البُعدِ حيَّا كانَ يُحَيِينا

فهَل أَرى الدَّهرَ يَقضينا مُساعَفَةً      مِنهُ وَإِن لَم يَكُن غِبّاً تَقاضينا

رَبيبُ مُلكٍ كَأَنَّ اللهَ أَنشَأَهُ        مِسكاً وقَدَّرَ إِنشاءَ الوَرى طِينا

أو صاغَهُ وَرِقاً مَحضاً وَتَوَّجَهُ      مِن ناصعِ التِّبرِ إبداعاً وتَحسينا

إِذا تَأَوَّدَ آدَتهُ رَفاهِيَةً           تُومُ العُقودِ وَأَدمَتْهُ البُرى لينا

كانت لَهُ الشَّمسُ ظِئراً في أَكِلَّتِه      بَل ما تَجَلَّى لَها إِلَّا أَحايينا

كَأَنَّما أُثبِتَتْ في صَحنِ وَجنَتِهِ     زُهرُ الكواكبِ تَعويذاً وتَزيينا

ما ضَرَّ أَن لَم نَكُن أَكفاءَهُ شَرَفاً       وفي المَوَدَّةِ كافٍ مِن تَكافينا

يا رَوضَةً طالما أَجنَتْ لَواحِظَنا       وَرداً جَلاهُ الصِّبا غَضَّاً ونَسرينا

وَيا حَياةً تَمَلَّينا بِزَهرَتِها      مُنىً ضُروباً ولَذَّاتٍ أَفانينا

ويا نَعيماً خَطَرْنا مِن غَضارَتِهِ    في وَشيِ نُعمى سَحَبْنا ذَيلَهُ حينا

لَسنا نُسَمِّيكِ إِجلالاً وَتَكرِمَةً   وقَدرُكِ المُعتلي عن ذاكَ يُغنينا

إِذا انفَرَدتِ وما شورِكتِ في صِفَةٍ   فَحَسبُنا الوَصفُ إيضاحاً وتَبيينا

يا جَنَّةَ الخُلدِ أُبدِلْنا بِسِدرَتِها     والكَوثَرِ العَذبِ زَقُّوماً وَغِسلينا

كَأَنَّنا لَم نَبِت والوَصلُ ثالِثُنا     وَالسَّعدُ قَد غَضَّ مِن أَجفانِ واشينا

إِن كانَ قد عَزَّ في الدُّنيا اللِّقاءُ بِكُم   في مَوقِفِ الحَشرِ نَلقاكُم وَتَلقونا

سِرَّانِ في خاطِرِ الظَّلماءِ يَكتُمُنا    حتَّى يَكادَ لِسانُ الصُّبحِ يُفشينا

لا غَروَ في أَن ذَكرْنا الحُزنَ حينَ نَهَت     عَنهُ النُّهى وتَركنا الصَّبرَ ناسينا

إِنَّا قَرَأنا الأَسى يومَ النَّوى سُوَراً     مَكتوبَةً وَأَخَذنا الصَّبرَ تَلقينا

أَمَّا هَواكِ فَلَم نَعدِل بِمَنهَلِهِ       شُرْباً وَإِن كانَ يُروينا فيُظمينا

لم نَجفُ أُفقَ جَمالٍ أَنتِ كوكبُهُ     سالينَ عنهُ ولَم نَهجُرْهُ قالينا

ولا اختياراً تجنَّبناهُ عَن كَثَبٍ      لَكِن عَدَتْنا عَلى كُرهٍ عَوادينا

نَأسى عَلَيكِ إِذا حُثَّتْ مُشَعشَعَةً    فينا الشَّمولُ وغَنَّانا مُغنِّينا

لا أَكؤُسُ الرَّاحِ تُبدي مِن شَمائِلِنا    سِيَما ارتِياحٍ وَلا الأوتارُ تُلهينا

دُومي على العَهدِ ما دُمنا مُحافِظَةً     فالحُرُّ مَن دانَ إِنصافاً كما دِينا

فما استَعَضْنا خَليلاً منكِ يَحبِسُنا    ولا استَفَدنا حبيباً عنكِ يَثنينا

ولو صَبا نحوَنا مِن عُلوِ مَطلَعِهِ     بَدرُ الدُّجى لَم يَكُن حاشاكِ يُصبينا

أَبكي وَفاءً وَإِنْ لَم تَبذُلي صِلَةً     فَالطَّيفُ يُقنِعُنا وَالذِّكرُ يَكفينا

وفي الجوابِ مَتاعٌ إِن شَفَعْتِ بِهِ    بيضَ الأيادي الَّتي ما زِلتِ تولينا

عليكِ مِنَّا سلامُ اللهِ ما بَقِيَتْ     صَبابةٌ بكِ نُخفيها فَتَخفينا

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

1 Comment

Leave a Reply