
أشرقت شمس ذلك اليوم الذي أكمل فيه ثمانين عاماً واستيقظ على ألم في ركبتيه، حاول تجاوزه والوقوف على رجليه فهو على موعد مع مناسبة الاحتفاء به بيوم ميلاده مع زوجته وأولاده، تحامل على نفسه ووصل إلى حمَّامه بصعوبة، شطف وجهه المتعب، وقف محنيَّ الظهر أمام المرآة يسند نفسه بحافَّة المغسلة بكلتا يديه، حاول الوقوف بشكل مستقيم فرفع رأسه ودفع جسمه. نظر إلى نفسه وتأمَّل قسمات وجهه المتعرجة التي تكسَّرت صورتها في سطح المرآة فمرَّ أمامه شريط من ذكريات حياته ابتسم لبعضها ودمعت عيناه لبعض الآخر. لم يسمع أحد أنينه فعاد مثقلاً بذكرياته إلى غرفته وأخرج من خزانة صغيرة (ألبوم) صور، تصفَّح أوراقه فاغرورقت عيناه بالدموع وهو يرى مسيرة طويلة من صور حياته.
انفجر إطار سيارته القديمة وهو يقودها متوجِّهاً إلى مقر عمله وسط أجواء ممطرة أغرقت الشوارع بالمياه. تجمَّع الطين في كل مكان فكان ذلك سبباً كافياً لوقوع حوادث للمركبات بعضها مميت. ارتفعت نسبة حوادث المركبات في تلك السنة وهو يعرف جيداً الإحصائيات الخاصة بحوادث السيارات والمركبات الأخرى لأنه ببساطة كان يعمل في إحدى دوائر التخطيط والإحصاء، وشاءت الأقدار أن تسجَّل حادثة سيارته ضمن الإحصائيات. ترجَّل من سيارته لتغيير إطار سيارته بالإطار الاحتياطي الذي يحتفظ به في صندوق سيارته دون ترتيب. قضى جلَّ وقته تحت المطر يحاول تركيب الإطار الاحتياطي وهو في معاناة كبيرة في فكِّ براغي دولاب الإطار المنفجر ورفع سيارته بوساطة جهاز الهيدروليك. لقد استعان بمثلث التحذير ووضعه على مقربة من مؤخرة السيارة لتنبيه المركبات القادمة في اتجاه سيارته بمسافة ظنَّ أنَّها آمنة إلَّا أنَّ حساباته لم تكن كافية لمنع مركبة قادمة باتجاهه من الاصطدام بسيَّارته فقد كان سائقها يقودها بسرعة لم تتحمَّلها عجلاتها فانزلقت على الطريق وفقد سائقها السيطرة على المقود فاصطدم بسيارة بطلنا، متسبِّباً في إزاحة جهاز الهيدروليك من مكانه فهوت السيارة على الأرض ليتحطَّم جزء من قاعدة الارتكاز. انشغل مع سائق المركبة بهذه الحادثة، وبينما كان يتجادلان سمع صوتاً قوياً من ضربة لمركبة أخرى وصل تأثيرها إلى سيارته لتضرب الرجل الذي ارتمى عليه فسقطا الاثنان على الأرض. تدخَّل بعض المارة لإنقاذ المصابين واتصل أحدهم بالدفاع المدني فهرعت سيَّارة إسعاف إلى مكان الحادث لتنقذ المصابين. اكتشف أنَّه قد أصيب في رأسه وسالت قطرات من دمه وسقطت على ثيابه، لكنَّه نسي نفسه بعد أن سمع أنَّ الرجل قد أصيب بضربة مميتة أودت بحياته، وهانت عليه نفسه أمام موت الرجل الذي كان يجادله ويلومه على ما سبَّبه من حادث لسيارته.
وصلت سيارة الشرطة التي سجلت الحادثة في يومياتها والتقطت الصور من كل جانب من جوانب السيارات المصطدمة وصورة أخرى أصبحت بعدها إحدى مقتنياته.
أمسك صدره وهو يرى تلك الصورة وبرغم مرارتها احتفظ بها مع صورة أخرى عادت به إلى حياته مع أبيه الذي رافقه أثناء عملية كبرى في مستشفى للتخلص من ورم سرطاني؛ كانت ساعات الانتظار الطويلة التي قضاها خارج صالة العمليات بالنسبة له ساعات احتضار كان يردد خلالها ما يعرفه من أدعية تناجي الله أن يشفي أباه ويخرجه سالماً من العملية.
ترك ما بيده وتناول كأساً موضوعاً إلى جانب سريره على خزانة صغيرة وسكب الماء فيه من قارورة زجاجية ليشرب ويرطِّب شفتيه.
نظر إلى يده وهو يقلِّب كفيه شاعراً بالأسى عليها وهي التي كانت يوماً تعمل بلا كلل دون أن ترجف كما هي اليوم، فقد كتبت الأرقام والإحصائيات وأعدَّت الجداول المليئة بالأرقام وحرَّرت الكثير من الخطابات الرسمية، واليوم تقف عاجزة عن رفع الأشياء البسيطة.
دخلت عليه زوجته وطلبت منه الاستعداد لأمسية الاحتفال بيوم ميلاده فقال لها: كيف لي أن احتفل وأنا على هذه الحالة؟
رأت زوجته انكساراً في نفسه فأرادت أن ترفع من معنوياته فقالت مبالغة: ما زلت قوياً!
ابتسم لمجاملتها وحاول النهوض من سريره فلم يستطع فأخذت زوجته بيده لمساعدته على الوقوف على رجليه؛ قال لها ضاحكاً:
- هذا من حسدك إيَّاي على قوَّتي!
- بل من أنين السنين التي عشناها معاً! قالت زوجته، ثمَّ ثقل جسم زوجها ولم تعد قادرة على إيقافه فتركته يسقط على سريره ليكون آخر عهد لها معه.
20/1/2022
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل