
أسمع طرقات خطواتي على الممشى الصخري، آكل البوظة وعلى كتفي حقيبتي المليئة بالكتب المدرسية. أخاف أن يتَّسخ مريولي، وأخشى تأنيب أمي. آكلها بسرعة قبل أن تذوب. غير أنَّني أشرد وأنظر إلى أوراق ملونة تزين شرفات البيوت، عادة غريبة لكنها جميلة، كل بيت له لونه الخاص من الورق لاحتفال قديم تناسوه مع السنين.
يذهب خيالي إلى طائرتي الورقية، وأمنِّي نفسي أن ألهو بها عند البحر قريباً. تذوب قطرات من البوظة، ألحسها بلساني سريعاً وأمشي الهوينا لكي أنهيها قبل أن أصل إلى البيت.
لمَّا تنتهِ حكايتي بعد. صوت مزلاج الباب الخشبي المتآكل الذي سينخلع يوماً من مكانه، نفس غريب يصدر منه وكأنَّه حشرجة رجل عجوز. يتحوَّل الباب إلى عصا يتكىء عليها بيتنا القديم، ونحن نستند على بيتنا، وعلى ذكرياتنا لنعيش.
ما زالت هذه البداية. هذه كتبي، وتلك أوراقي. أهوى الرسم.
ماذا أرسم؟ بيتنا وطرقاته المتعرجة، تلك النوافذ تستهويني لأرسمها. أفكر فيما يخفيه كل بيت عتيق. استمع إلى همهمة الجيران. أنصت إلى الأقدام والخطوات على الممرَّات. إنَّه رجل، إنَّها امرأة، إنَّه طفل. تسابق أولاد، صياح، كرة ترطم الأرض، أبواق درَّاجات، تنافس فتيات من الأجمل بفستان جديد ودمية جميلة. أنظر إلى نفسي في المرآة. أفكِّر بأحمر الشفاه. أتمنى أن ألوِّن وجهي به ثم أدرك -من صياح أمي- أنَّني لمَّا أغتسل بعد: اذهبي واستحمِّي.
أفعل ذلك سريعاً، وأدخل خلسة غرفة أمي وآخذ منها أحمر الشفاه، أخفيه سريعاً، نتناول الغداء المعتاد في صحن واحد، ويد تمتدُّ هنا وهناك .
أجلس في غرفتي أضفر شعري ، أنتظر قيلولة أبي وخروج أمي إلى بيت الجيران، فأخرج أحمر الشفاه وألوِّن به شفتَيَّ ووجنتَيَّ، أنظر إلى نفسي في المرآة، أشعر بالزهو أنَّني صبية جميلة، أدنو نحو العاشرة. تسرقني المرآة إلى خيالات كبيرة، وعالم قادم، ومستقبل أراه مشرقاً. أصحو من أحلامي على صوت أمي العائدة تناديني: أكملي فروضك.
تمضي السنون… أقف أمام الباب المتهالك أحرِّكه، وأتذكر ذلك كلَّه. لم أعد أسمع أصوات الصبيان ولا الفتيات، ولا حبيب الصبا ابن الجيران. أين هو الآن؟ بيته ما زال موجوداً لكنَّه ليس هنا، وأنا لم أعد هنا بعد انتقالنا إلى الحي الجديد، وقبل أن أرحل تنفَّست آخر نفس من حينا القديم. ذلك العبق الخاص والسحر الذي لم يغادرني مطلقاً.
أمشي والشرفات خالية. لا أثر للورق الملون غير السواد. أذهب إلى البحر وأنظر إلى السماء، لم تعد الطائرات الملونة تزينها بل طائرات من دخان ورماد.
كنَّا نتسابق، من منَّا ستحلق طائرته أعلى؟ من منَّا سيفوز؟ من منَّا سيرحل أوَّلاً من الحيِّ القديم؟
منَّا من خطفته طائرته، ومنَّا الحيُّ الذي رحل قبل أن يرحل من الحي القديم. ومنا من رحل إلى حي جديد ولم يعد، ويا ليتنا نعود، ويا ليت حياتنا في أمن تعود.
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل