
تعوَّدتُ أن أمشي تحت المطر التشريني ولكنَّني اليوم أنظر اليه عن بعد عبر نافذة المشفى .أتمنى لو أنَّني أستمتع بألوان الخريف. في تشرين فصل الأرواح تتغيَّر الأوراق ،تختفي بعضها وتتلون الأخرى .
تغيُّر تلك الأوراق لمن يتأمَّلها يكشف ما حصل من تغيير في الأعماق لتأتي لحظات العمر كشريط ٍ متَّصل تكتبه الكلمات.
مرًّ بي حلم سعيد ممزوج بطعم الذاكرة، حلمت أنَّني أمام نافذة مُطلَّة على حديقة غنَّاء. تقف أمام النافذة نخلةٌ شامخة. كنت أنتظر عودة أمي من عملها وكانت تعمل مديرةَ مدرسةٍ ثانوية. كانت رائحة الرز البسمتي تفوح من المطبخ وسلمى مديرة المنزل تغنِّي الاغاني القديمة ولا تكفَّ عن طقطقاتها المتتالية بأدوات الطبخ؛ فبعد أن تصل أمي يجب أن أبلغها أنَّني أكملت واجباتي لتسمح لي باللعب مع أصدقائي وصديقاتي.
كنا نلعب في البرية بين أشجار النخيل، الأثل، واليوكالبتوس، وتحت ظلالها أنشأنا البيوت والمعسكرات الوهمية؛ نضحك، نتشاجر ونهدأ. وفي نهاية الأسبوع نذهب إلى النادي الترفيهي في المنطقة.
أحببت وجود الرمال والزهور والأشجار. كانت تمنحني الشعور بالأمان. لم أتساءل يوماً ما: هل سأغادر هذه الجنة التي أعيش بها باطمئنان؟ّ!
أيَّتها الذاكرة العنيدة، كيف تقفزين بي من رفٍّ إلى آخر؟ يا غرف الأفكار بقصري، أغلقي الأبواب! ها هو صمتُ الليلِ يتسلل يقتنص حكايات العشق لينفرط عقد الذاكرة ، صهيلٌ على قطار العمر رفقاؤه الشوق والصبابة ولهفة مرابطة عنيدة.
الحلم ذاته مرَّ بي ممزوجاً بطعم الذاكرة لكنَّه هذه المرَّة حزين. حلمت أنَّني أمام نافذة مطلَّة على حديقة غنَّاء، تقف أمام النافذة نخلة شامخة. كنت أنتظر عودة أولادي وزوجي ورائحة الرز البسمتي تملأ البيت لكننا لم نتذوَّقه هذه المرة فبعد ثوانٍ من ابتعادي عن الشباك تناثرت أشلاء النوافذ والأبواب في المنزل وامتلأ الجو بدخان أسود أصبحت الرؤية معه صعبة. لم أهتمَّ للدماء التي غطت لون ملابسي ولا أعلم عدد شظايا الزجاج التي انغرست في جسدي لكنني ركضت كالمجنونة لأتفقَّد ابني الرضيع النائم في سريره تحت نافذة غرفة النوم، وضعته تحت النافذة لينتعش بأشعة الشمس. كان ينام بهدوء. الأبواب والشبابيك تكسَّرت وتهشَّمت كلُّها ما عدا النافذة المطلَّة على سريره. حملته وأنا اضحك تارةً وأبكي تارةً كالمعتوهة وتذكَّرت أمِّي وهي تقول إنَّ الملائكة تحمي الاطفال لا نحن.
بعد هذه الحادثة لم أعد أقف عند هذه النافذة ولم أعد أرى النخلة. كلُّ شيء حولنا تغيَّر وتغيَّرنا نحن أيضاً.
لم نعد نحن كما كنَّا، أصبحنا نتكلم لغة أخرى ونرى أشجاراً بأنواع أخرى مختلفة حتى إنَّني لا أعرف أسماءها. لم تعد النخلات تحيطنا ولا سعفاتها بل أصبحت أشتري نباتات النخيل الداخلية، أعتني بها وأحدِّثها عن نخلة تركتُها تنتطر خلف الشباك المكسور مكسورةَ الخاطر تنتظر عودتنا المستحيلة.
الرحلة طويلة إليك، وعند محطة اللقاء سأكون الطفلة التي تداعب جدائلها وهي لا تعرف الحماقات التي ارتكبتها بحقِّك وداخلها نقاء أبيض. سأنسى كلَّ ما رسمه الزمان من علامات سوداء وأعود لك على الفطرة مجبولة فنملأ الكؤوس سعادةً أبدية.
كتبتُ في مذكِّراتي: (مات كلُّ شيء بداخلي وتحوَّلت إلى آلة تعمل بلا إحساس إلَّا العطف على الآخرين ومساعدتهم قدر الإمكان. كانت سلوتي دموعي لي وحدي حين ألوذ بالليل الساكن، يستهويني لونه لأغيب في جوِّه المسحور، أستوحي خيالاتي النقية، أغرفُ من حنيني لعشق عذري كُتب له الموت قبل أن ينطق، وأجنحته الخفية تضمني في نعمةٍ إلهية. أسابقُ النجوم من بريق وحي صمتي العميق. أُبحر معها إلى زورق أحلامي لعلَّ أمواج الحياة تأخذني إليك. وأحياناً كثيرة كنت أتمنَّى الموت!
نطوي الأوراق ثمَّ نعود لبعضها فنشعر بالراحة، وبعضها لا نودُّ قراءة حرف منها فنتركها بسلام، وأمَّا بعضها الآخر فيحمل عبق أيامٍ تحمل رائحة العراقة. لا يهمُّ عدد الأوراق، المهمُّ، فقط، ما تحمل من عبرة وحكمة.
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل