ومَضات من “معجم القبائل والعشائر والأُسَر العربيَّة في العراق” لمؤلِّفه نعمان ماهر الكنعانيّ

حوار مع ثريَّا نعمان ماهر الطبيبة والأديبة التي تسير واثقة على خطى أبيها نعمان ماهر الكنعانيّ -رحمه الله- صاحب سجلٍّ ثرٍّ حفظته ذاكرة العراق الثَّقافيَّة والسِّياسيَّة. هو أديبٌ شاعرٌ عالي الكعب كانت له إسهامات مهمَّة في الثقافة والأدب على المستويَين المحلِّي والعربي. أصدر أكثر من عشرين كتاباً تنوَّعت بين دواوين الشِّعر والمختارات الشِّعريَّة والدِّراسات الأدبيَّة والتأريخيَّة والقصص المترجمة، فضلاً عن الكثير من المقالات المنشورة. وهو أيضاً ضابطٌ فارسٌ في صنف الخيَّالة ثمَّ صنف الدُّروع شارك ضمن القطعات العاملة في حرب فلسطين عام 1948، وكان له نشاط سياسيٌّ استمرَّ حتَّى عودته من اللُّجوء السِّياسيِّ في سوريا عام 1963. صدر له مؤخَّراً كتابٌ يبحث في أنساب عرب العراق عنوانه “معجم القبائل والعشائر والأُسَر العربيَّة في العراق” وكان لنا هذا الحوار مع ابنته الدُّكتورة ثريَّا التي اعتنت بتحديث كتاب أبيها وطبعه ونشره.

هَمْسُ الحِوار:  هذا المعجم يأتي بعد وفاة الكنعانيّ بأكثر من العشر سنوات. ما الذي أضفتِه للنسخة الأصلية التي تركها -رحمه الله- وما النهج الذي انتهجتِه وأنت تعملين على إعداد الكتاب للطبع؟

ثريَّا نعمان ماهر: مؤلِّف المعجم خلَفَ أخاه الأكبر في تولِّي مشيخة عشيرته في سامرَّاء في زمنٍ كان الشيخ فيه أعلمَ مَن يُسأل في الأنساب، فضلاً عن قراءاته ومعلوماته الموسوعيَّة التي شملت مجالات كثيرة منها تاريخ العرب وأنسابهم قديمها وحديثها، لذا فالمعجم بمخطوطته الأولى كان بحثاً مكتملاً في الأنساب كما أراد له مؤلِّفه أن يكون. الزيادة على المخطوطة الأولى اقتصرت على ما يقتضيه التحديث الذي جرى بوساطة مؤلَّفات صدرت بعد وفاة المؤلِّف وشهادات الثِّقات من ذوي المعرفة بالنسب. وزدنا مخطَّطات لأنساب بعض القبائل العربيَّة القديمة للتجسير أي وصل الحاضر بالماضي كي يسهل على القارئ ربط نسب عشائر اليوم بجذمها دون الحاجة إلى مراجعة مصادر أخرى.

معجم القبائل والأسر العربية في العراق، نعمان ماهر
معجم القبائل والأسر العربية في العراق، نعمان ماهر

هَمْسُ الحِوار: وما المصادر التي اعتمدها المؤلِّف وما الذي توفَّر لك من مصادر للتَّوثُّق من المعلومات في خضمِّ الشكوك التي تحيط بالرواية التاريخية للأنساب وتشوُّه الكثير من الانتماءات العشائرية في العراق لأسباب مختلفة ومعروفة؟

ثريَّا نعمان ماهر: استند المعجم على ما يربو على المائة من كتب التاريخ والأنساب والتراجم فضلاً عمَّا حصلنا عليه شفاهاً أو خطِّيَّاً من شيوخ العشائر أو نسَّابيها. وفي تحرِّي أصول العشائر المعاصرة وربط نسبها بالقبائل القديمة قابلْنا ما هو محفوظٌ في صدور الرجال بما في بطون المراجع القديمة المعدودة دون أن نغفل عن أنَّ العودة إلى الماضي لربط العشائر بمتشابه الأسماء قد لا تصحُّ وإن كان ذلك متناقلاً على الألسن.

ولم نهمل الدِّقَّة في ضبط أسماء الأعلام والقبائل والمدن فرجعنا إلى خمسة من الكتب المعتمدة في هذا الباب ذكرناها في التَّوطئة.

وفي توثيق هذه المراجع مزجنا بين نظامَي الهوامش والنسخة السابعة من نظام التوثيق الذي تعتمده جمعيَّة علم النفس الأمريكية المسمَّى APA7 وهو نظام معتمد عالميَّاً.

هَمْسُ الحِوار: ما الذي يميز هذا المعجم عمَّا سبقه من معجمات في هذا المجال؟ ما الذي تعتقدين أنَّه أضافَهُ لما صدر قبله من كتب عنيت بالأنساب في العراق؟

ثريَّا نعمان ماهر:  أوَّل ما يلمسه القارئ لهذا المعجم أنَّ البحث في الأنساب جرى بمنهجيَّة واضحة، فالمؤلِّف سلك مسلك البحث العلمي المنهجي دون الاجتهاد في تقرير نسب فرقة ما، وليس في المعجم روايات غير مدعومة بسند تأريخي. العشائر مرتَّبة وَفق أحرف الهجاء، وتفصيل الكلام على فرقة ما، وأعني بها القبيلة أو العشيرة أو الأسرة، جاء في مبحث واحد مع الإشارة إلى الأصل الذي انحدرت منه، لذا جاء المعجم شاملاً دون إعادة وتكرار أو حشو فأمكن إصداره في مجلَّد واحد ممَّا ييسِّر اقتناءه ومراجعته خلافاً لمؤلِّفات أخرى صدرت في أجزاء كثيرة ولم تسلم من الحشو والإعادة. المعجم كما جاء في مقدِّمته ليس مفصَّلاً في تاريخ القبائل إنَّما هو كتاب يحصي أنساب عرب العراق ويعرضها بأسلوب بيِّن ييسِّر على القارئ والباحث في الأنساب أو الباحث عن نسبه أن يجد ضالَّته.

  انماز هذا المعجم أيضاً بأنَّه ضمَّ كثيراً من المعلومات التاريخية المفيدة وتعريفاً بأعلام أفذاذ وهو أمر قلَّما نجده في كتب الأنساب المؤلَّفة في النصف الثاني من القرن العشرين إلى يومنا هذا. خذ مثلاً ما جاء عن بعض من تسنَّموا رئاسة المجمع العلميِّ العراقيِّ فحين يأتي المعجم على ذكرهم ضمن عشائرهم التي ينتسبون إليها يوثِّق أيضاً تاريخ تولِّيهم رئاسة المجمع العلميِّ العراقيِّ وفي ذلك تذكيرٌ بهم وتوثيقٌ لعهد غير بعيد كان العراق فيه سيِّدَ الفكر والثقافة والأدب. أرى في ذلك نبشاً للذاكرة، ذاكرة العراق الحقيقية التي يراد لها أن يطويَها النسيان في زمن لا تكتفي فيه أصابع الغدر بالعبث بحاضر العراق بل تلتهب لتحرق تاريخه. 

  وبعد، فبوصفهِ أحدثَ ما نُشر من كتب الأنساب فقد ناقش الأقوال الحادثة التي لم تكن مسموعة من قبلُ وبيَّن وجه صوابها أو ادِّعائها.

هَمْسُ الحِوار: لاحظنا أنَّ المعجم، بخلاف الكثير من المعاجم والكتب السابقة ذات الصلة، توقَّف عند الشعر في مواطن كثيرة إلى جانب ما احتوى عليه من وقائع ترتبط بمن ذكروا من أشخاص أو عشائر. هل ترين أن يوضع المعجم على رفوف الكتب الأدبيَّة؟ أم أنَّ له مكاناً آخر في مكتباتنا العامة؟

ثريَّا نعمان ماهر: هو كتاب تعرفه من عنوانه “معجم القبائل والعشائر والأسر العربيَّة في العراق”  لذا فجوابي المباشر أنَّ مكانه مع الكتب ذات الصلة. وإن شئتَ أن تضع نسخة منه على رفوف الكتب الأدبيَّة أو التَّاريخيَّة فلا بأس لأنَّ ما فيه من شعر وذكر لوقائع تاريخيَّة يوسِّع دائرة الإفادة منه لتشمل الباحثين في التأريخ وفي سِيَر بعض من أتى المعجم على ذكرهم كالزَّهاويّ والرُّصافيّ.

  واضع هذا المعجم هو مؤلِّف “شعراء الواحدة” الذي تناول الشعراء الذين اشتهروا بقصيدة واحدة أو اشتهرت لهم قصيدة واحدة و”شعراء الصُّوفيَّة” الذين نظموا في التَّصوُّف و”مختارات الكنعانيّ” الذي ضمَّ مختارات من عيون الشعر من العصر الجاهلي إلى نهاية عصر بني العبَّاس، لذا ليس غريباً أن يضمَّ الكتاب شواهدَ أدبيَّةً متنوِّعة الأغراض ممَّا أثار مكامن نفس المؤلِّف وحرَّك نوازعه  واضطربت له خلجاته.

  وإذا عرفنا سيرة المؤلِّف وما عاشه من أحداث كان في قلبها وكانت له مشاركة فيها  فلا نستغرب أن يضمَّ المعجم كثيراً من الشعر الذي فيه استعادة لذكريات شخصيَّة تخرج أحياناً من الشأن الخاصِّ إلى الشأن العامِّ. جمعته الصداقة بشاعر العراق الفحل معروف الرُّصافيّ وألَّف مع سعيد البدريّ -رحمه الله- كتاب “الرُّصافيّ في أعوامه الأخيرة” تناولا فيه جوانب ذات حساسيَّة أحاطت بالرُّصافيّ، وعليه فحين تقرأ الأبيات المختارة من قصيدة أرسلها الرُّصافيّ إلى الكنعانيّ لن يخفى عليك معناها وما أراد ناظمها أن يبوح به ردَّاً على هجمات كان يتعرَّض لها لأسباب ليس هذا مجال بحثها.

وجمعته صداقة متينة بالعقيد رفعت الحاج سرِّيّ مؤسِّس حركة الضُّبَّاط الأحرار في العراق وهو الذي ضمَّ الكنعانيّ إلى الحركة. بعد إعدام العقيد رفعت نشر الكنعانيّ ديوانه “لهب في دجلة” وأهداه إلى رفعت ورفاقه، وإنَّ ما ورد في المعجم من أبيات يؤبِّن فيها المؤلِّفُ الشَّاعرُ صديقَه الشهيدَ إنَّما هو تعريف بتأريخ وطن ونضال. 

هَمْسُ الحِوار: عصرنا عصر العلوم والمتغيِّرات والتَّحوُّلات الكبيرة السريعة. ألا تجدين أنَّ مثل هذا المعجم ينتمي إلى ثقافة تقليدية راكدة غادرها العصر؟

ثريَّا نعمان ماهر: بل الضِّدُّ تماماً. علم الأنساب علم حركيّ والحاجة له دائمة.

  جواباً عن تساؤلك عن دور كتاب يبحث في الأنساب في (عصر العلوم) أقول: إنَّ علم النسب لم يتخلَّف عن التَّقدُّم العلمي الذي يشهده عصرنا، فالبصمة الوراثية فتحت آفاقاً جديدة في هذا المضمار. لقد صار ممكناً تحديد الصلة بين الناس لسبعة أجيال أو ثمانية. ومن خلال فحص السلالات الذَّكَريَّة بات بمقدورنا تعرُّفُ درجة الترابط (النَّسَبيّ) بين القبائل والعشائر وتحديد التَّحوُّر السائد للعشيرة وبذا أمكن أن ينماز الأحلاف والداخلون مع العشيرة من غير جذمها. ولأنَّ الإرث الجيني يستمر عبر الزمن فإنَّ معرفة هجرات الشعوب التي حصلت على مرِّ السنين وتحديد مواطنها الأصلية ستفيد في تعرُّف أصل مكوِّنات الشعوب المختلفة عبر إحصاء التَّحوُّرات الجينيَّة.

  إنَّ عصرنا -كما وصفتَه- عصر متغيِّرات وتحوُّلات كبيرة، ومن هذه المتغيِّرات ما يجعل الحاجة لمعرفة النسب ضرورة، فعلى مستوى الفرد هي حاجة إلى انتماء يحقِّق غاياتٍ شتَّى؛ فالتكافل وسدُّ الإعواز الذي تؤمِّنه الجماعة المرتبطة برابطة النسب ضرورةٌ يفرضها الفقر، وقُلْ مثل ذلك في الحماية ودفع الضيم زمنَ استباحة القانون.  

وعلى مستوى الجماعة فالنسب ذاكرةٌ موروثةٌ تحمي المجتمع. ومجتمعنا العراقي اليوم مصاب بتشوُّهات اجتماعية خطيرة ليس أبسطها انتحال الدخلاء والطارئين ألقاباً تنسبهم إلى قبائل عربية صريحة. إنَّ السكوت عن ذلك سيفضي في نهاية المطاف إلى فقدان المجتمع  هُويَّتَه المميِّزة له بأركانها الثقافية والقِيَمية والأخلاقية جميعها.     

هَمْسُ الحِواركلمتك الأخيرة؟

ثريَّا نعمان ماهر: أختم بما خُتمتْ به مقدِّمة المعجم التي كتبتُها وشقيقي الدكتور زيد فأقول: إنَّ المعجم ردُّ الأولاد بعضَ دَينِ الآباء وفضلِهم:

               والفضلُ في النَّاسِ أنماطٌ وأكرمُه            ما أورثتْهُ يدُ الآباء للأبناء

    والبيت لوالدي طيَّب الله ثراه.

هَمْسُ الحِوار: ولا نريد للكلمة أن تكون الأخيرة بل نتوق لقراءة المزيد من أعمالك الأدبية

سلمت جهودكِ النيّرة

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

1 Comment

  1. حوار جميل في موضوع يغفل عن أهميته كثير من الناس. أحسنتم الاختيار والحوار والإخراج.

Leave a Reply