الذكاء الاصطناعي ومفترق الطرق

حارث عبود

سأفترض ابتداء أننا متفقون على أن هناك تحولات كبرى معاصرة تقف وراء ما نشهده اليوم من تطوير لمجتمعاتنا البشرية أو تدمير، من نمو لها أو تراجع، من قوة فيها أو ضعف، فهكذا يكاد يُجمع المفكرون وعلماء الاستراتيجيات المعاصرون. بعد ذلك هل يمكننا أن نتفق على أن التحول الذي يبشر به الذكاء الاصطناعي هو الأخطر حتى الآن؟ 

لنقترب من المشهد قليلا، ونتتبع ما شخّصه الباحثون وعلماء المستقبليات من هذه التحولات التي سموها الانفجارات أو الثورات الكبرى التي مرت عبر عقود بمراحل متعددة أعقبتها هزات ارتدادية كانت تتضح آثارها في حياتنا يوما بعد يوم:

ثورة السكان… لم يكن عدد سكان الكرة الأرضية يتجاوز مليارا واحدا مطلع القرن العشرين، لكنه قفز ليقترب من ثمانية مليارات مرشَّحة لزيادات مضطردة، وهو واقع ألقى بظلاله على مشكلات العالم الكبرى كتوفير الغذاء والتعليم والصحة، وأظهر مخاطر كثيرة تهدد السلم العالمي والأمن الاجتماعي بجوانبه المختلفة.

ثورة التكنولوجيا… وضعت في خدمتنا آلاف الاختراعات والوسائل المبتكرة التي أسهمت في حل مشكلات لا تُعد في مجال الزراعة والصناعة والنقل والرّي وبناء الجسور وفتح الطرق، وفي تطوير الأسلحة التدميرية ودعم الهيمنة الاقتصادية والسياسية العابرة للحدود مما غير أساليب الحياة وصيغها في اتجاهات لا حصر لها.

ثورة الاتصال… نقلت البشر من مرحلة التراسل البدائي باستخدام المرايا والنار والطبول والطيور ثم الرسائل المقروءة، إلى مرحلة نستطيع أن نقرأ فيها أية صحيفة في العالم وقت صدورها، ونحاور كتّابها ونتابع أخبار العالم لحظة بلحظة بالصورة الحية الناطقة، بل ونواصل دراستنا ونعالج مرضانا وندير تجارتنا عن بعد فقد تخلصت قنوات الاتصال إلى حد كبير من قيود الزمان والمكان. 

ثورة المعلومات… وضعت المعرفة البشرية على طول التاريخ وعرض الجغرافيا بين أيدينا لنعرف منها ما نشاء بلمسة إصبع بعد أن كان آباؤنا وأجدادنا يشدّون رحالهم أشهرا وسنين بحثا عن معلومة دقيقة أو رواية أكيدة.

الذكاء الاصطناعي امتداد لتلك الثورات المتلاحقة، لكنه امتداد خاطف مثير للجدل والوجل؛ فهو يفتح أمامنا آفاقا تكنولوجية لا تعرف النهايات، في القدرة على حل المشكلات المعقدة في ميادين الطب والتصنيع والإنتاج المعرفي في مختلف الميادين،  لكنه كما يرى كثيرون مخيف بما ينطوي عليه من مخاطر.

ولكي نتعامل مع هذه الظاهرة التكنولوجية المثيرة للقلق بمنهج الباحثين العلميين علينا أن نضع الأحكام المسبقة جانبا ونستطلع ما هو متاح من معرفة عن هذه الظاهرة حتى الآن.

تشير التقارير العلمية المتداولة إلى أن الذكاء الاصطناعي قد قدم خدمات مهمة في ميدان جمع المعلومات وإنتاجها والكشف عن أمراض عديدة لم يكن من السهل الكشف عنها دون الاستعانة بتطبيقاته، وأنه فتح آفاقا بالغة الدقة والحساسية في حقول التصنيع والفيزياء والرياضيات واستصلاح الأراضي والهندسة العمرانية والعلوم العسكرية وغيرها من العلوم وأن ما هو متوقع منه في المستقبل أوسع بكثير من ذلك وأشمل. 

بمعنى آخر فإن الذكاء الاصطناعي يضع بين أيدينا أدوات ترفع سقف الاكتشاف إلى مدى يصعب توقع حدوده، وهو في ذلك إنما يزيل كثيرا من الحواجز التي كانت تحفظ للمستخدمين قدرًا عاليا من الأمان والخصوصية، كما كانت تمنح للمربين مساحة لتنظيم تعلم الأبناء والطلبة طبقا لنموّهم العقلي والبدني والنفسي بما يساعد في إنضاج شخصياتهم على نار هادئة متدرجة المراحل دون مفاجآت وانحرافات تضعف جودة التعلم وتهدد مصداقيته. 

يضاف إلى ذلك أن القدرات الاستثنائية للذكاء الاصطناعي ستكون عاملا بالغ الخطورة في يد من يتقن استغلالها من سيئي المقاصد والأغراض أو عند حصول أخطاء في خوارزميات التطبيق مما يؤدي إلى أخطاء في التشخيص واتخاذ القرارات سواء أكان ذلك على مستوى العمليات الطبية الجراحية أم القرارات العسكرية أم التصاميم المعمارية أم غيرها. بل إن تطور الذكاء الاصطناعي على يد علماء موالين للقوى العظمى والشركات العالمية الكبرى المتعطشة للهيمنة وإخضاع الشعوب ونهب ثرواتها في إطار العولمة الساعية إلى تطبيق نظرية “المليار الذهبي” دون اعتبار للمنظومات القيمية لتلك الشعوب وثقافاتها وهوياتها الوطنية. 

إن المخاطر التي تحيق بنا نحن العرب لم تأت بها التكنولوجيا الرقمية بل سبقتها بقرون، فالتكنولوجيا ليست سوى وسائل طيّعة في أيدي مستخدميها تخضع لإرادتهم. ومن الواضح أن التكنولوجيا الرقمية قد وضعتنا أمام مفترق طرق ذي ثلاثة اتجاهات، إما أن نغمض أعيننا عما تقدمه التكنولوجيا الرقمية من فرص لتطوير الحياة فنكون خارج العصر، أو أن نتماهى مع ما يمرر من خلالها، ونقبل بما سنخسره من قيمنا وثوابتنا وهويتنا، أو أن نتفاعل بندّية مع منجزات العصر مؤثرين فيها ومستفيدين من تطبيقاتها المهمة كغيرنا من الأمم. 

فهل سنفلح في اختيار الطريق الصحيح؟

****************************************

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply