Site icon Whispering Dialogue ~ هَمْسُ الحِوار

الذكريات مع حافظ الدُّروبيّ

حافظ الدُّروبي، حكمة الفن وجمالياته

عادل كامل

هل أسهم النقد بإعطاء صورة أكبر من حجمها عن الفن المعاصر في العراق؟ إن إثارة هذا السؤال المربك ليس بلا فائدة وفي مقدمة هذه الفوائد إننا سنعيد النظر بواقعنا التشكيلي وبالمستويات الكتابية المصاحبة لهذا الفن، وفي الحالتين فإننا سنعترف ضمناً بجدوى الإنجاز ( الثقافي ) في إرساء تقاليد فنية وجمالية، أي أن عمليات ترصين الوعي الثقافي وأصالته تغدو منهجاً يقينياً إزاء الشكوك بجدوى الفن أو بكل بحث يستهدف الأبعاد الجمالية.

هذه المقدمة بلور فكرتها الأستاذ حافظ الدروبي ( 1914 – 1991 ) قبل عقدين وهو يسألني : هل لجهودنا قيمة ما ستثمر لدى الفنانين الشباب؟

 قلت له آنذاك: وهل بالإمكان تجاهل ريادتكم؟ وأقول اليوم : إذا لم تكن هناك ريادة منذ مطلع القرن العشرين حتى منتصفه فلا بد أن تتشكل هذه الريادة في وقت لاحق. لكن واقع الأمر أن الريادة، حسب مفهومنا الراهن، لا تكتسب مصداقيتها بالزمن بل بالأثر الأبعد أو من خلال امتدادها. وأعتقد أن الفنان الدروبي كان قد فهم قصدي بجدوى الشكوك البناءة أو الشك المولد لثمار ضرورية، ذلك لأنه لم يتخل عن الرسم حتى في أكثر سنوات مرضه  إرباكا.ً  كان الرسم لديه هو الحياة وكانت الحياة عنده مقاربة للفن، فهو من هؤلاء الحساسين بجدوى التماسك الاجتماعي والرؤية الإنسانية النبيلة.  فهدفه الإبداعي منذ البدء الحوار الأصيل المهذب للنفس الذي يعمل عمل المطهر في المسرح من خلال المأساة. وعلى الرغم من أن الفنان لم يثر مشاكل جدل أو أسئلة كالتي تركها لنا جواد سليم أو كاظم حيدر فإنه ببحثه الدائم عن أسلوب عراقي يشكل أهميته بين الرواد. إنَّه عمل بيقين الإجابات المولدة. 

ومثل هذا الإحساس بالتطور الأسلوبي أو بموقف الفنان الدائم من تجاربه وبصفته فناناً يمتلك أسئلة مولدة أو على الأقل فناناً لا يتجاهل مجموع التجارب المعاصرة كان يدفع بالفنان حافظ الدروبي إلى أكثر المغامرات تناقضاً وقلقاً في التشكيل العراقي الحديث، فعلى مدى نصف قرن من المواصلة والبحث والتأثير كان الدروبي يكتم قلقه الداخلي، ذلك القلق الذي نراه صريحاً عند جواد سليم أو شاكر حسن آل سعيد، أي أنَّه برصانته كفنان ولد وعاش وتكيف بأخلاقيات المدنية البغدادية كان يعيش الصراع ولا يفصح عنه إلا بأسلوبه الفني. ولكننا ـكتلامذة له ـ  كنا نلتقط هواجسه الداخلية عبر أقل الكلمات التي كان يرشدنا بها لتأمل مغزى تجاربنا ورصانتها ومكانتها بين الإبداعات الأخرى. كان ذلك القلق الدفين سمة الرواد عامة. فلولاه لكنا إزاء تجارب من نوع يماثل تجارب أكرم شكري وعطا صبري مثلاً. 

والدروبي الذي لم يكتب يومياته، كفائق حسن، بل ترك ذكرياته المختلفة لدى طلابه والمعنيين بفنه، وهي في الغالب لا تتجاوز المشكلات التي كان يعاني منها وربما أهمها هذا السؤال المربك الذي حسمه: ما جدوى الفن الذي لا تتمثل فيه روح الوطن؟ إن الدروبي، قبل رحيله بعامين، سيجمع أصدقاء الأمس لإقامة المعرض الأخير لجماعته، أي جماعة الانطباعيين العراقيين. لقد أقام المعرض الأخير لها ليعلن رسمياً عن إعادة ميلاد تجارب غير خجولة تستلهم جماليات الحياة الاجتماعية وتركز على تفصيلات الطبيعة لأن الانطباعية المعاصرة قد تجاوزت أفكار مؤسسيها الكبار – مونيه، سورا، وغيرهما – وغدت تياراً تتمثل فيه القواعد المدرسية والمهارات الأسلوبية الرصينة. هذا الوفاء لأقدم أفكاره عبر عنه بعودته لرسم ضفاف نهر دجلة ورسم البساتين والحقول. إنَّه الولاء لرؤية موسيقية، أي جمالية. وعلى رغم بقاء الشكل تقليدياً  وعلى رغم المرض الذي أصابه خلال سنواته الأخيرة فقد عبر عن مفهوم الريادة بتحريك المضمون من الداخل. فالشكل ليس إلا السطح. ومن هنا علينا التوغل بدراسة محركات الشكل قبل أن نتوقف عنده. فالدروبي بدأ معلماً وأعتقد أن هذه المشكلة بحد ذاتها تستحق وقفة طويلة نوجزها هنا بقناعة أن المعلم لا يضحي بفنه من أجل لا شيء. انه يعمل بحذر ويحسب ألف حساب لكل شيء يجري داخل أسلوبه. فهو لا يريد أن يقلب الرؤية من الأعلى إلى الأسفل ولا يفكر بالهدم من أجل فعل سوريالي رمزي الخيال. إنَّه يرسم بإحكام ويتمرد بالحدود التي تجعل أسلوبه معقولاً. 

وربما هنا يتعارض هذا النهج مع هاجس الريادة أو انعامها الداخلية. لكن الأستاذ الدروبي الذي كرس حياته للفن وللخيال الحر المبدع بعيداً عن الأحكام  الثابتة والتقليدية غامر بتقصي إشكاليات الشكل أيضاً.

لقد اعترف ذات مرة بأنه جرب كل الأساليب وقال بالحرف الواحد: » فماذا يريدون مني؟ « قال: »لقد جربت السوريالية والتكعيبية والتجريدية. « – فماذا يريدون مني ؟ إنَّ أخذ هذا الكلام على علَّاته أو في محاولة لتبريره لا تفيد حقيقة أنَّ الدروبي لم يقصده، ولا علاقة له بإبداعات الفنان المبتكر، المعلم، ومحب الموسيقى والرياضة والناس، والهادئ الوديع إن لم أقل الخجول والمربي، وذلك لأن الأساليب التي أشار إليها لم يتوقف عندها إلا وهو يتجاوزها إلى [ حافظ الدروبي] نفسه. إنَّه ككل الرواد – مع اختلاف بالنوع ـ لم يعش في قفص بلوري محكم الشفافية؛ فهو تأثر بالموجات الفنية واعترف أكثر من مرة أن علينا، إذا فكرنا بالأصالة، العودة إلى منابعنا. وهذا لا يعني بناء سور محكم يمنعنا من رؤية العالم، وإنما كما قال، أن نرى بعيوننا ذاتها. 

إنَّ حكمة المرور بأساليب عدة ورصانة المعلم وأخلاقياته التربوية وحبه لشفافية حياة الخمسينيات وقناعته بالحلول الجمالية، كلها أعطت أكثر من سمة بارزة للدروبي التربوي ولفنه في الريادة العراقية. 

فإذا أهملنا المعاناة التي عاشها منذ العقد الرابع حتى العقد السابع، فعلينا تفحص فكرة أساسية بفنه: إنَّها فكرة الفنان البنَّاء. فهو يبني لوحاته مثل البناء بعينه ويعمل ذلك بصبر وقناعة. وأنا قلت إذا أهملنا المعاناة، وهي لا تهمل لأنَّها أساسية بتجربته ككل، فأنا أقصد إننا سنرى جانبها الرمزي يكمن داخل لوحاته التي تفصح عن دينامية الطبيعة والحياة الاجتماعية وفي رسوماته الحيوية التي صوَّر فيها بسطاء الناس. ذلك لأنَّ الدروبي لم ينقطع، ولم ينقطع قط عن مصادر إبداعاته، كما هو حال خالد الجادر ومحمد علي شاكر ومحمد عارف وكاظم حيدر وإبراهيم العبدلي، أي عن الحياة الزاخرة بالحركة والعطاء: حياة الشعب الأصيلة النابعة من عمقها الحضاري ونزعتها نحو التماسك والتجدد. 

وللحق فإنَّ أبرز تجارب الرواد تعلن عن هذا المبدأ. وقد تكون الحداثة قد تبلورت في التجارب التقنية وطغى عليها، أحياناً، الشكل، إلا أنَّها لم تصدر إلَّا عن إحساس عميق بحركة الواقع. وقد كان الأستاذ حافظ الدروبي، فناناً ومربياً، يؤكد جوهرية محركات الأشكال في الحياة، كما في محاولات تكثيف الرؤية وخلق بؤرة جمالية فاعلة ومتفاعلة مع نزعة التطور والتجديد الرصين إزاء الظاهرات الزائلة. بفن أرسى قواعده وخلق مناخه الجمالي العميق.

الفنانان عادل كامل وحافظ الدروبي

ومع حافظ الدُّروبيّ الذي ترتسم في محيَّاه متاعب رجل أنفق حياته للفن، كأنك تقرأ فيه تفاصيل عذاب وهموم صراع رجل يبحث عن تفاصيل فنية لمَّا تنجز بعد! هذا ما قاله حافظ الدروبي لي: (مازلت في البدء).

إنَّه اعتراف أستاذ سُحر باللون والطبيعة وتعلم الفن ومازال يستكمل معالم تجرَّبته وتاريخها.. 

إنَّه استئناف يوميّ لمراجعة النفس إزاء مهمة الفنان الصعبة – هكذا قال – وأضاف أنَّ اللوحة لا يمكن أن تنجز مهما عمل الفنان فيها وأنَّ الفنان برغم تعدد أساليبه يبقى أكثر أمانة في البحث عن حصيلة تمثل خُلاصة هي حصيلة البحث والتجربة والحياة أيضاً.

 وسألت الأستاذ حافظ الدروبي: اللحظة الأولى مع الفن، كيف بدأت؟ بكلمة أخرى: ما أقدم ذكرى تخص هذا الجانب؟ 

كان النقش يحيره، بل قال: “يذهلني”. 

كان والده قد رحل منذ زمن، قبل الحرب العالمية الأولى.

 ويعود الفنان ليتحدث عن تلك اللحظة الأولى “كانت حركة أصابعها تؤنسني، وربما كان ذلك هو ما جعلني أتجه نحو الفن أو هي اللحظة الساحرة الغامضة الأولى”

  في السنة الأولى من دراسته الابتدائية الأولى – احتياط  كما كان يقال – يتذكر بشوق عناده مع الرسم، فقد كان يخفي نفسه تحت (الرَّحلة/المقعد) ليرسم، وعندما كان المعلِّم يأتي كان الدروبي يمحو ما رسم! قال ” لم أجد معلِّماً أو مشجِّعاً لي” 

آنذاك، برز لديه اهتمام آخر هو الرياضة. قال بالنص: 

وزاد بسرعة، بثقة مشوبة بحذر خاص: 

في عام (1931)، العام الذي أصدرت فيه العملة العراقية، تعرف حافظ الدروبي على الفنان فائق حسن. يتذكر الدروبي أنَّ رفيقه في الفن كان متفرغاً لعمله الإبداعي الفني. يقول حالاً: (وهو الذي علَّمني استعمال اللون الأحمر) ثم يسترسل: 

بعد ذلك بسنوات طويلة قابل الدروبي ناصر عوني، أي بعد أن درس الفن في روما، وسأله (والآن؟) أجاب: (ربما كانت تلك الكلمة القاسية هي التي حرضتك على أن تكون رساماً)

قال  الدروبي بهدوء تام، وهو يصوِّب نظرات غامضة نحو مكان غير محدد لكن بثقة وصوت صاف: 

وزاد بسرعة : 

 ويذكر بعض الحقائق، منها أنَّ فائق حسن عندما كان يرسم داخل مرسمه أمام الطلاب كان الجميع يتركون عملهم ليتأملوا طريقة رسمه ومهارته الفائقة. 

وزاد الدروبي بصوت عال: 

يقول الدروبي إنه ما زال يحب الأسلوب الأكاديمي منذ رجوعه من الخارج وهذا ما شاهدته في مرسمه حيث رسم لوحة لأحد أولاده. إنه يحب الرسم ويحب التجريب بيد أنه يذكرنا بفكرة جماعة (الانطباعيين) إذ يقول: ” في هذه المرحلة، بعد عودتي من أوروبا كنا نرسم بعض الأعمال ذات الاتجاه الانطباعي وعندما شكلنا جماعتنا، قال أحد الأعضاء فيها: (ما دمنا نرسم جميعاً بهذا الاتجاه فلنطلق اسم جماعة (الانطباعيين) عليها.”

ويسترسل: 

ويتابع قائلاً إنه كان يجرَّب بالشكل ويحوِّر فيه متأثراً بالمدرسة الحديثة وهي التي دفعته إلى دخول عالم (السوريالية) بعد أن جرَّب التكعيبية وقبلها الأكاديمية. ويحدد:

ويذكِّرنا بمثال:

 ويقول بألم دفين لكن بثقة الأستاذ الماهر:

بيد أن حافظ الدروبي قال بصوت حاد:

وذكر الدروبي هنا مثالاً عن (ديلاكروا) الذي كان عندما يعود إلى بيته يستمع إلى كلام عن إبداعات الفنانين الإيطاليين في التجديد والتجربة المتقدمة. كان (ديلاكروا) يبكي، كان يفعل ذلك لأنه يرغب بالإنجاز الجديد المعبر عن دينامية الحياة.  

ويبتسم الدروبي فجأة لأنه تذكر الحادث الآتي: في عام (1967) جاءه مؤجر البيت لاستلام إيجار البيت (25) ديناراً. بيد أن المؤجر الذي كان يطالب الدروبي بـ (40) ديناراً، شاهد إحدى اللوحات وأعجبته، فاشتراها ودفع ثمنها بعد أن خصم الديون السابقة! 

ماذا لو رفعنا جواداً أو فائق أو إسماعيل أو شاكر حسن؟

– تكون المسألة أخرى. يبدو أنني أتفق مع إسماعيل الترك “!

بألم شديد صامت قال الأستاذ حافظ الدروبي إنَّه بعد أن أحيل على التقاعد – مع فائق حسن – بعد عمل نصف قرن في الفن والتدريس الفني كان يرغب أن يبقى محتفظاً بمقعد له في الأكاديمية.

ويصمت. ويطلب مني ألا أشطب أية جملة. لكنه أضاف حالاً (لا تتعلم الشطب) ذلك لأنه، كان قد درسني لأربع سنوات، وكان يعلمنا ألا نتردد في التعبير الفني بالحرية المنسجمة مع الوعي المتقدم. سألته حالاً بعد أن شطبت بعض الجمل: 

وتابع قائلاً إن الحياة في الفن كلها تجربة يومية مستمرة. وزاد بصوت حاد:

وقال الأستاذ حافظ، متمتماً مع نفسه ” أود أن أعترف بخطئي دائماً. لمَ هذا الكبرياء الزائف؟ علينا أن نعيد بناء التجربة من جديد. كم هو جميل أن يكون نجاح الفنان في  أن يكون متجاوزاً تجاربه السلبية! الحرية أولاً “. 

ـ “نعم، ولكن…”

1988

 

Exit mobile version