بكل صراحة مع الدكتور أحمد خيري العمري

حوار هامس مع مؤلف البوصلة القرآنية وليلة سقوط بغداد

 حاوره:أحمد الحاج

أحمد خيري العمري كاتبٌ عراقيٌ من مواليد بغداد عام 1970، والده مؤرخٌ وقاضٍ عراقي معروف. 

تخرج أحمد العمري في كلية طب الأسنان جامعة بغداد عام 1993، إلا أنه عُرف كاتباً إسلامياً تجديدياً أكثر منه طبيباً. لمع نجمه بسرعة وعدّه بعض النقاد امتداداً للمفكر الجزائري “مالك بن نبي”. شهرته وُلدت من رَحِم مؤلفاتٍ رصينة تميّزت بأسلوبٍ أدبيّ شائق ومضمون رفيع يستهوي القرّاء ويستميلهم ليصل معهم في نهاية المطاف وعبر صفحات كتبه المتخمة بالعصف الذهني في عصر التصحر المعرفي والجدب الأخلاقي والجفاف الوجداني الى الفكرة الرّئيسة مناط البحث التي يود العمري إيصال القراء إليها بعد رحلة مفعمة بجرأة الطرح ومتانة المضمون.

* ترى من أين أتيت بهذه المَلَكَة في الكتابة والتصنيف مع القدرة منقطعة النظير على الإقناع، من الطب؟ من مكتبة والدك العامرة؟ من مطالعاتك الشخصية؟ من صحبة المشايخ؟ من مجالس العلماء؟ أم من أين تحديداً؟

– الرد على هذا السؤال دون التعليق على مقدمته صعب. أنا إذ أشكرك على ما تفضّلت به فإني أنوّه إلى أن وصف ما أسميته بملكة الكتابة عندي ليس أمراً متفقاً عليه، فهناك في الجانب الآخر من يرى عكس ذلك تماماً. الأمر لا يقلقني ولا يزعجني، بل أراه طبيعياً تماماً.

بعد هذا التوضيح وبالإشارة لما قلت، الملكة بالتعريف هي شيءٌ جبليٌّ فطري نولد بها ولا نكتسبها، لكن الملكة أو الموهبة لا تكفي أبداً للإنجاز، كما أن المواد الخام في باطن الأرض لا يمكن أن تكون ذات فائدة دون استخراج وتكرير.

صقل الموهبة وتزويدها بالوعي، بوجود قضية وهدف، هو ما يجعل هذه الملكة تُنتج.

بالنسبة لي، الجو الثقافي العام في البيت، مكتبة والدي الضخمة وكونه كاتباً أنتج خمسة مؤلفات -قبل مرضه الذي أقعده وهو في أوج عطائه- كلّ هذا كان له أثر حتمي في شحن الموهبة وتحفيزها. مطالعاتي الشخصية ساهمت في ذلك أيضاً بالتأكيد.

الطب منحني حداً معيناً من المنهجية العلمية، منحني الواقعية والارتباط بالأرض.

لم تكن هناك صحبة مشايخ أو مجالس علماء على النحو التقليدي. كان والدي أقرب إلى العلمنة، ولكنها كانت علمنة معتدلةً جداً لم تعاد الدين على الإطلاق، ولا أذكر أي موقف اتخذه والدي ضد ميولي الدينية رغم أنها كانت مبكرة جداً وكان يمكن قمعها بسهولة لو أنه أراد ذلك.

كان لوالدي رحمه الله مجلس أدبي وثقافي كل يوم جمعة تكوّن على نحو تلقائي بعد مرضه، حيث بدأ أصدقاء والدي ومعارفه يأتون للاطمئنان عليه، و لأنه كان نشطاً جداً على أكثر من صعيد (قضائي–فكري–اجتماعي) فقد كان معارفه يمثلون طيفاً متنوعاً داخل الطبقة الوسطى العراقية في آخر مراحلها المزدهرة في الثمانينيّات. مع الوقت انتقل الأمر من مجرد الاطمئنان على صحة والدي إلى مجلس ثقافي عام شكّل متنفساً طبيعياً لهذه النخبة بعيداً عن (شعارات الحزب والثورة) التي كانت مهيمنة في تلك الفترة.  في بعض الأحيان كان شارعنا يغلق تماماً بالسيارات بسبب عدد الوافدين للمجلس.

ضم ذلك المجلس أعلاماً في مجالات شتى بين القضاء والتاريخ والأدب، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر حسين جميل، ضياء شيت، د.مؤيد العمري، صلاح بيات، نور الدين الواعظ، صاحب خميس، عدنان العلوي، حازم يونس، هديب الحاج حمود، خالص عزمي، د.إبراهيم الوهب، نجدت فتحي صفوت، بلند الحيدري، عبيد الحاج خلف، أحمد فوزي، مدحت الجادر، أكرم الوتري، فايق روفائيل بطي، فاروق العمري، غسان رؤوف، حارث يوسف غنيمة، د.علاء جاسم، مع حفظ الألقاب للجميع. ولعل من أشهر الحاضرين وأهمّهم  المفكر العراقي الأكثر تأثيراً بين المفكرين العراقيين الدكتور علي الوردي. رحم الله من توفّي منهم وأمدّ في عمر الأحياء. 

لن أدّعي هنا أن الطفل -ومن ثم المراهق– الذي كنته كان حريصاً على الحضور في المجلس، لكني كنت دوماً هناك حول المجلس، أقوم بواجب الضيافة على الأقلّ وأستمع لما يقال وأمتصه بصمت. ولا يمكن أن يكون هذا قد مر دون تأثير.

كذلك لا يمكن لي أن أتحدث عن تأثير والدي من دون أن أتحدث عن تأثري بيومياته التي كان يكتبها منذ أوائل الخمسينيّات وحتى يوم مرضه. كانت هذه اليوميات وسيلتي للتعرف على والدي لاحقاً بعد أن عطّل المرض دوره كأب، وفي اليوميات يكون المرء صريحاً عادة، ربما صريحاً أكثر مما يجب، و لا يأبه لأي إزعاج يمكن أن يحدث، لأنه لا يفترض أن أحداً سيقرأ ما يكتب.. بعبارة أخرى [لا آسف على الإزعاج]. هل يذكرك هذا بشيء؟

لا يمكن أن يكون هناك حديث عن تأثير والدي دون الحديث أيضاً عن تأثير والدتي المحامية “لميس محمود صبحي الدفتري” التي نشأت في جو مماثل، حيث كان لوالدها (الوزير في العهد الملكي) مجلس أدبي أكبر استمر لعقود، وهو المجلس المعروف باسم (صالون الجمعة). كان يستضيف فيه أهم الشخصيات الأدبية والسياسية في عراق ما قبل انقلاب 1958، وهو المجلس الذي عقد فيه الصلح (المزعوم) بين شاعري العراق الكبيرين دائمي الخصام الرصافي والزهاوي.

والدتي اكتشفت وجود الموهبة عندي في الصف الثاني الابتدائي عندما كتبتُ رسالة لابن خالتي الذي كان يعيش مع أهله في الإمارات آنذاك (وقد قتل لاحقاً في فلتان العنف الطائفي عام 2006). من يومها ووالدتي لا تشجعني فحسب، بل تدفعني (على الأقل لوقت ما) في درب الكتابة. بعد سنوات سافرنا لمصر حيث تلقى والدي العلاج. يوم عدنا، كانت الحقائب تضم (201) عنواناً من الكتب والكتيبات التي جئت بها من مصر. كان يمكن لوالدتي أن تفاصل في شراء أي شيء لي إلا الكتب.

كما كانت لوالدتي اهتمامات أخرى لم تكن لوالدي، مثل اهتمامها بالتاريخ القديم والمتاحف والفن عموماً. كل هذا وسع من مداركي ومجالات اهتمامي، ولا بد أن يكون قد أثّر أيضاً قي صقل موهبتي.

لهذا عندما أقول لك بأني لم أعرف (مجالس العلم) التقليدية أو صحبة العلماء فإني أقول أيضاً أني قد ولدت تقريباً في مجلس علم.

* تم اختيارك عام 2010 لتكون الشخصية الفكرية التي تكرمها دار الفكر في تقليدها السنوي، والذي سبق أن كرّم مفكرين لهم باعٌ طويلُ في التأليف والتصنيف أمثال: عبد الوهاب المسيري مؤلفموسوعة اليهود واليهودية والصهيونيةأحد أكبر الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين والدكتور وهبة الزحيلي صاحب كتابآثار الحرب في الفقه الإسلامي، مقارنة بين المذاهب الثمانية والقانون الدوليوجودت سعيد و كتابهكن كابن آدموهاني رزق مؤلف كتابمُوجز تاريخ الكون من الانفجار الاعظم إلى الاستنساخ البشريوبهذا (يكون العمري هو الأصغر سناً من بين جميع المكرّمين، وهي مسؤولية وتكليف تحمله إياها دار الفكر)، كما جاء في نص الرسالة التي دعتك لحضور حفل التكريمحدثنا عن هذا التكريم قليلاً، لو سمحت.

– دار الفكر، ممثلة في الأستاذ عدنان سالم، كانت أول من دعمني وأكثرهم سنداً في مسيرتي منذ أن قدّمت للدار كتابي الأول، وعلاقتي بالأستاذ عدنان تتجاوز علاقة الناشر بالكاتب إلى علاقة الأب بالابن.

لا يمكن لي أن أتخيل كيف كان لمسيرتي أن تكون لولا دعم الأستاذ عدنان، لكني متأكّد أن طريقي كان سيكون أصعب بكثير.

موضوع التكريم يجب أن يوضع في سياقه. تلك السنة كانت مخصصة لدعم جهود الشباب، لذلك كان اختياري ككاتب شاب لم يكن قد تجاوز الأربعين وقتها، ولا شكّ فإنّ الأمر كان يمثل دعماً ومسؤولية كبيرة، إذ وضع اسمي بجانب أسماء كبيرة كالتي تفضلت بذكرها وغيرها، كما صدر لي في تلك السنة كتاب (صانع الأنفاق) الذي ضم مقالات وبحوثاً عن نتاجي.

تكريم دار الفكر كان مهماً جداً بالتأكيد، لكن التكريم الأهم الّذي يحصل عليه الكاتب يأتي غالباً من قارئ مجهول لم يرَ وجهه إطلاقاً، يرسل ليقول له من دون مجاملة أو مصلحة أن كتبه غيرت حياته.

هذا هو التكريم، الجائزة، الأهم. هذه هي نوبل الحقيقية تتسلمها دون مراسم أو احتفالات.

* أنت القائل: الفرق بين  القرآن من أجل النهضة والقرآن من أجل الختمة كالفرق بين الصحابة وبيننا. حدّثنا رجاءً عن البون الشاسع بين المطلبين: الختمة والنهضة.

– تعوّدنا أن نقرأ القرآن للبركة، للحصول على الأجر، لزيادة الحسنات. لكننا لا نحاول قراءته كما لو كان كتيّب الاستعمال المرفق بجهاز جديد نريد أن نتعلم تشغيله. هذا هو ببساطة شديدة الفرق بين تعاملنا مع القرآن وتعامل الصحابة معه.

* فيلم  الرّسوم المتحرّكةبلالهو أول فيلم من هذا النّوع عن شخصية أول مؤذن في الإسلام الصحابي الجليل بلال بن رباح، والذي استغرق انتاجه عدة سنوات، يسرد قصة حياة الصحابي الجليل بلال منذ طفولته الأولى وصولاً إلى تحوله إلى أحد أبرز صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. سبق أن أعلنت الشركة المنتجةبارجون انترتينمنت  أنّ كتابا عن سيدنا بلال بن رباح سيصاحب عرض الفيلم، كتبه الدكتور أحمد خيرى العمري. حدثنا عن الكتاب رجاءً فالجمهور متشوق لذلك .

– فيلم (بلال) الذي أنتجته شركة براجون أول محاولة عربية لدخول السينما العالمية من هذا الباب، وقد بذل فيه المنتج والمخرج وداينمو العمل الأستاذ “أيمن جمال” جهوداً استثنائية.

أنا لم أنل شرف المشاركة في كتابة السيناريو، ولكني رشحت لكتابة الكتاب وكان ترشيحي مع كاتبين آخرين مهمين جداً شرفاً كبيراً لي.

الكتاب هو رواية عن سيدنا بلال بعنوان “شيفرة بلال”  وهو مختلف عن كل ما سبق أن كتبته من قبل وعن كل ما هو متوقع مني ومن رواية عن سيدنا بلال!

على الصعيد الشخصي تجربة كتابة “شيفرة بلال” كانت من أكثر تجاربي اندماجاً وتماهياً مع العمل، وهو أمر مرهق جداً أثناء الكتابة، لكن ذكراه لاحقاً تصبح حلوة جداً.

* أنت كاتب غزير ومتنوع النتاج، صدرت لك بين 2003- 2015 عشرة كتب تباينت بين البحث العلمي والروائي والأدبي، فضلاً عن عشرات المقالات في صحيفتيالعربالقطرية والقدس العربياللندنية. أين تجد نفسك، في تأليف الكتب أم في كتابة المقال؟ وهل أن بعض مؤلفاتك هي جمع لعدد من مقالاتك المتناثرة في باب ما بين دفتي كتاب لاحقاً؟

– أجد نفسي في الكتب. لا أزال أعتقد أن الكتب هي التي تملك وسيلة البقاء أكثر من أي شيء آخر. في الحقيقة، الكتب هي عشقي الكبير الثابت منذ أن وعيت الدّنيا. أحب الكتب وأغلفتها ورائحة الورق فيها. أظنّ أني كنت في الخامس الابتدائي يوم حلمت أن أكتب كتباً تملأ مكتبة كاملة.

كتبت المقالات لكي أوصل أفكاري لقراء آخرين و لكي أجذبهم إلى الكتب، وهذا هو أيضاً سبب وجودي في السوشيال ميديا لاحقاً و في الميديا مؤخّراً.

لم أقم بجمع المقالات في كتب، يتطلب الأمر وقتاً للإعداد لذلك وحياة الكاتب تكون دوماً كما لو أنه كتب (يتبع) في آخر كتاب له وعليه أن يذهب بسرعة للكتاب القادم. لا فرصة للنظر إلى الوراء.

أكثر المقالات التي أتوقع أني سأتمكن من جمعها في كتاب قريباً هي مجموعة المقالات التي كتبتها في أمريكا إذ يجمع بينها موضوع واحد وهذا يجعلها أقرب لروح الكتاب.

* أحدثَ كتابكالبوصلة القرآنية: إبحار مختلف بحثاً عن الخارطة المفقودة  الصّادر عام 2003 ردود أفعال تراوحت بين الرفض والقبول واتهمك البعض بأن هناك من كتبه لك لحداثة سنك، إلاّ أن استمرارك في التأليف هدم تلك الفرضية لاحقاً. ما الذي تعنيه بالبوصلة القرآنية؟ وما هي طبيعة الخارطة المفقودة التي تشير اليها هذه البوصلة؟

– البوصلة القرآنية كتابي الأول.

عندما بدأت بالكتاب لم أكن متأكداً من أني سأكمله ولم أكن متأكداً أنه سينشر ولم أكن أعلم إن كان سيتبع بكتاب آخر أو لا.

كان الأمر أشبه بفرصة قد لا تأتي مرة ثانية لذا كتبت فيه كل ما أود كتابته كما لو أني لن أكتب مرة أخرى، لا خوف على مكانة اجتماعية أو رضى وقبول الناس أو أي شيء آخر. لا شيء لدي لأخسره ككاتب، يمكنني أن أفشل من دون خوف لأنه لا نجاح سابق لديّ لأضيعه، يمكن لي أن أتوقع النقد الشديد أو حتى الصمت اللامبالي فلا أحد يعرفني، ويمكن أن أقول ببساطة أنّ ثمة تشابه أسماء لو شئت!

لا أذكر أني كنت أفكر بالنتائج وأن مسار حياتي سيتغير بعد الكتاب. كنت أكتب بشغف فحسب وأعلم يقيناً أن لا فرصة لدي للنشر في العراق في تلك الفترة (أنهي الكتاب في 2001)، لكني كنت أكتب دون أن افكر بالخطوة التالية وصعوباتها.

عندما قيل إني لست مؤلف الكتاب وإن هناك شخصا كبيراً في السن يختفي خلفي فكّرت بذلك كمزحة، ثم عرفت أن الأمر لم يكن كذلك وأنه منتشر. غضبت وحزنت يومها، لكن الصديق العزيز الأستاذ صهيب الشريف (مسؤول لجنة النشر في دار الفكر آنذاك) قال لي ما جعلني أعدّ ذلك أفضل ثناء قيل في الكتاب. قال لي: ما داموا استكثروا الكتاب عليك فهم يقرّون أن الكتاب جيد جداً!

بقيت هذه المقولة متداولة، ولو بشكل متناقص، إلى ما قبل سنوات قليلة، وأذكر أني دخلت مرة في نقاش طويل مع رجل دين مقتنع تماماً بأني لست مؤلف البوصلة ولا الكتب التالية. شعرت كما لو أني “أنستاسيا رومانوف” ابنة القيصر المزعومة وهي تحاول إثبات نسبها.

بمعزل عن هذه الحيثيات: يمكن وصف البوصلة أنّها مشروعي الأكبر ومنه تفرعت عدة كتب: (الفردوس وكيمياء الصلاة وإلى حد ما سيرة خليفة قادم). البوصلة تشير إلى أن أول العلاج هو التشخيص، والتشخيص يقول أن المشكلة قديمة وعلينا أن نكون شجعان بما فيه الكفاية لكيّ نواجهها لأن الخريطة تمر في حقل ألغام تاريخية لكن لا بدّ من المواجهة.

* هناك من يأخذ عليك بأنك لم تدرس العلم الشرعي أكاديمياً، وترد عليهم بأن مفكرين وكتاباً كباراً أمثال مالك بن نبي في سلسلتهمشكلات الحضارةومصطفى العقاد فيعبقرياتهلم يدرسوا العلم الشرعي أكاديمياً. هل ترى أنّ إبداعك وابداع من ذكرت ممن تسير على خطاهم نابع مما أطلقت عليه في كتابكسيرة خليفة قادم” (حمى الهوس بالقضيةمن أعراض الإيمان) هوس يدفع المرء لاستغلال الوقت وبذل الجهد والمال والقلم من أجل القضية على نحو أمثل يصل به الى (النيرفانا) المعرفية إذا صح التعبير والتي تجعل من صاحبها (سوبر مان) يتفوق على أقرانه في الفهم والإدراك وما يترتب عليهما من رصانة في الطرح على مستوى الأسلوب والمضمون؟

– الهوس، إن شئت، مهم لأي إنجاز لكنه لا يكفي وحده. وهو بالتأكيد ليس سبب نجاح مالك بن نبي والعقاد. سأتحدث عنهما لا عن نفسي وسأقول إنّ الدراسة الأكاديمية في المجال الذي أنتجا فيه كانت ستقضي على إمكاناتهما الكامنة، كانت ستضعهما في قالب محدود يقتل إبداعهما وحريتهما الفكرية. الدراسة الأكاديمية تدخل بعض القيود والنظم في طريقة التفكير، وهذا أمر قد يكون جيداً ومفيداً للكثيرين، ويتمكنون من خلاله من الإنتاج وتقديم ما هو نافع فعلاً.

لكن الأمر يحتاج دوماً إلى تحليق مختلف بطريقة تفكير مختلفة دون تلك القيود، ولا ينجح فيه إلا قلائل لكن نتاجهم يكون مختلفاً عن المألوف ولاحقاً يقوم الأكاديميون بدراسة هذا الناتج.

هذا بشكل عام.

فيما يخص القرآن تحديداً ومأخذ عدم دراسة العلم الشرعي أكاديمياً، أرغب في القول بوضوح أن القرآن كتاب رب العالمين أنزل للناس أجمعين وهو ليس كتاب غايتون في (علم الأمراض) لا يفهمه إلا المختصون، لذا عندما أقدم فكرة مستمدة من القرآن تخالف فكرتك لا تقل لي: أين درست؟  فهذا كتاب الله و هو ليس حكراً على أحد، لكن أثبت لي تناقض ما قدمته مع نص آخر أو مع فكرة أخرى طرحتها سابقاً.

ما أسهل شراء الشهادات في هذا العصر! وما أصعب تقديم الجديد الذي لا تناقض فيه مع نصوص أخرى، سواء أكانت لديك شهادة شرعية أم لا!

* برنامجك التلفزيونيلا نأسف على الإزعاجوالذي بُثّ يومياً في رمضان عبر قناتي الشارقة وإقرأ كان نقلة نوعية في مواجهة الفكر التقليدي وحظي باهتمام واسع عربياً تماماً كمؤلفاتك، لكنّك كتبت يوماً تعقيباً على اختيارك للسنة الثانية على التوالي في قائمة العراقيين العشرة الأكثر تأثيراً مع زها حديد ويونس محمود وكاظم الساهر قائلاً:

للأسف ليس لديّ أي تأثير يذكر في العراق، وتأثيري في بقية البلدان أكبر بكثير. أقول هذا بمنتهى الأسى، ولكن كلي ثقة أن في العراقيين طاقات أكبر وأهم، لكن (ماكو بخت)”.

 لماذا برأيك أنتم أكبر تأثيراً خارج العراق وأكثر غياباً داخله برغم بيع مؤلفاتكم فيه ووصول برامجكم إليه سواء عبر النت أو الفضائيات العابرة للحواجز والأسلاك والجدر؟

– العراقيون بشكل عام معاييرهم عالية وهم شديدو النقد، وخاصة على العراقيين أمثالهم. العراقي الذي يلاقى تقديراً من عراقي آخر هو واحد من اثنين: عراقي ميت، أو عراقي حقق نجاحاً في الخارج.

كنت من المحظوظين الذين انتموا إلى الخانة الثانية، وبالتدريج بدا الأمر ينسحب على نظرة العراقيين لي، وبخاصة بعد البرنامج، أصبح هناك تفاعل أكبر في صفحات التواصل الاجتماعي من العراق ومن العراقيين داخل العراق وخارجه. أصبح هناك طلب أكبر على الكتب من داخل العراق أيضاً.

أعتقد أيضا أن ثمة إحباطاً داخل العراق (وبخاصة عند الشباب) من كل ما له علاقة بالفكر الديني لأسباب لا تخفى على أحد، لذا لا يتوقع أحد وجود شيء مختلف أو جديد في كتاب ديني. فضلاً عن أن التخندق الطائفي طال الجميع بما فيهم المثقفون. لذا فكل ما أكتب أو أقول يمكن أن يفسر طائفياً حتى لو لم تكن للأمر علاقة  بأي من موضوعات الخلاف الطائفية المفضلة. هذا كله أسهم في تعطيل تفاعل العراقيين مع كتبي.

الأمر بدأ بالتّغيّر كما قلت، فبعد البرنامج تسلمت رسائل من متابعين من كثيرمن الطوائف. هناك من يراسلني وهم من غير المسلمين أصلاً! وأنا سعيد جداً بهذا.

أما قصة (ماكو بخت) فأنا لا أرغب في النواح ولا في إلقاء اللوم كله على الظروف السيئة التي أحاطت بنا (في الأربعين عاما الماضية!)، لكن العراقيين تعرضوا فعلا لظروف سيئة (مركزة) وكان يمكن للعراقي أن ينجز أكثر بكثير لولا هذه الظروف. وهذا لا ينفي وجود مشاكل أساسية لدينا كعراقيين بمعزل عن هذه الظروف، ولكن هذا موضوع آخر.

* البوصلة القرآنية، ليلة سقوط بغداد، الفردوس المستعار والفردوس المستعاد، سلسلة ضوء في المجرة الّتي تضمّ (أدرينالين، غريب في المجرة، كش ملك، الذين لم يولدوا بعد، تسعة من عشرة، يوم شهر سنة)، أبي اسمه إبراهيم، سلسلة كيمياء الصلاة (المهمة غير المستحيلةملكوت الواقععالم جديد ممكنفيزياء المعانيسدرة المنتهى)، ألواح ودسر، استرداد عمر من السيرة الى المسيرة، سيرة خليفة قادم، القرآن لفجر آخر، طوفان محمد وغيرها من مؤلفاتك القيمة، ترى ما الذي يريد أن يصل إليه العمري في مجمل ما كتب وألّف، إعادة فهم النصوص على ضوء المتغيرات الحالية المتسارعة باطّراد؟ أم إسقاطهاأي النصوصإسقاطاً من الوحي إلى العصر في حالة تسامي تتخطى عوالق الزمن وعوائقه وربما مفاهيمه أيضاً؟

– على نحو عام جداً أريد أن يكون للدين دور إيجابيّ في حياتنا، أريد أن أسهم في تخليص هذا الدين مما علق به من سلبيات ومغالطات وخرافات ومخلفات من العصور السابقة.

بالتفصيل، هناك الكثير مما يجب فعله وإنجازه للوصول إلى هذا الدور الإيجابي، الكثير من المواجهات الفكرية  وربما المعارك، الكثير من القضايا التي قد تبدو جانبية للوهلة الأولى لكنها في الحقيقة في صلب الهدف الأول.

 البعض من أعمالي الأدبية والروائية يؤكد أيضاً أنه يمكنك أن تنتج فناً وأدباً يحمل قضية وهدفاً دون أن تسقط في الآيديولوجيات والشعارات والوعظ المباشر.

على نحو شخصي وخاص جداً: أريد أن أترك أثراً ايجابيا يبقى بعدي.

* تقف بالضدّ من الفكر (المَنامي) الذي يعتمد على الأحلام والرؤى في توجيه الأمة كونه عائقاً من عوائق النهضة، وفي ذات الوقت أنت ضد دعاة التجديد المادي أمثالمحمد شحروروجمال البناوجماعة القرآنيين. يعني هذا أنك تقف بالضد من تخديرَين فكريين للأمة، الأول بمثابةهيرويينفكري مثبط للهمم والعزائم يحلق بها في عالم الفنتازيا بعيدا عن الواقع المعاش، بينما الثاني بمثابةكوكايينفلسفي مادي محفز للضياع مجرد للعواطف منسلخ عن التراث، إلا أنّ الاثنين معا وفي نهاية المطاف يمثّلان مخدّراً فتاكاً ينتهي بالعقل الجمعي إلى مصحة عقلية بلا دفع ولا نفع.

 ماذا تقول لهؤلاء ولهؤلاء وباختصار؟

– لا أقول شيئاً لأي من الفريقين. كلامي دوماً للمترددين بين الفريقين، لأولئك البين بين. هؤلاء هم منطقة عملي. نادراً ما يغير شخص مؤمن بشيء ما بشدة إيمانه عبر نقاش أو قراءة كتب مخالفة. التغيير يكون دوماً في أشخاص لم يحسموا أمرهم لكنهم يشعرون بالحاجة إلى التغيير.

بالنسبة لي الأمر واضح، هناك تجديد حتمي يجب أن يحدث لأن الفهم التقليدي منتهي الصلاحية، في الوقت ذاته ثمة ثوابت لا بد من المحافظة عليها كي لا يتحول الأمر إلى -فلتنة- باسم التجديد (وهو ما حدث عند البعض). أرى -مثلا- أن ثمة مشكلة كبيرة في التعامل مع الحديث الشريف، ولكن حل المشكلة بنسف الحديث كله (كما يفعل من يسمون أنفسهم بالقرآنيين) يزيد المشكلة تعقيداً ويسيء لفكرة التجديد وسمعتها.

التجديد حتمي، وهناك ما يجب أن يهدم فعلاً في فهمنا للدين، ولكن التجديد ليس مقاولة هدم فحسب كما يقدمه البعض. الهدم حتمي، لكنه هدم برسم البناء.

* هل غيرت سفرتك الى أميركا شيئا من أفكارك؟

– أفكاري تتغير دوما، ولكن في اتجاه واحد.

أي تجربة يمر بها الإنسان تسهم حتماً في تغيير أفكاره، ما دام حيا.

يقال إن السماع بشيء لا يغني عن مشاهدته، وهذا صحيح. لكن يبدو أن القراءة يمكن أن تغني ولو نسبياً. كنت قد قرأت عن أمريكا كثيراً قبل الذهاب إليها وساعدني ذلك في فهمها أكثر. لم تكن هناك صدمة حضارية على الإطلاق و كنت أعرف وأتوقع أغلب ما شاهدت.

إيجابية الفرد الأمريكي هي أكثر ما لفت نظري، وخاصة بالمقارنة مع تذمرنا عموماً كشعوب شرقية. وقد كتبت مقالاً عن الموضوع تحدثت فيه عن سيدة عراقية كانت في الباص من نيويورك إلى العاصمة واشنطن ولم تكن تتوقع وجود من يفهم كلامها وهي تتذمر طيلة الوقت من كل شيء من السائق إلى الفندق الذي كانت فيه وبكل ما في نيويورك (الّتي وصفتها بأنّها تشبه ساحة التحرير) وصولاً إلى حين عطست واحدة من راكبات الباص معنا، فقالت لها السيدة العراقيّة بكل عفوية: وجع!.

* كلمة أخيرة لمحبيك وهم كثر ولمبغضيك أيضاً أينما وجدوا!

– للمحبين: جعل الله ما بيننا عامراً دوماً… للمبغضين: لا بأس، لا شيء شخصي. والشعور غير متبادل!

وفي الختام أمعنت النظر بمكتبتيّ الورقية والالكترونية وقلبت طرفي فيهما فوجدت كتباً رائعة للدكتور أحمد خيري العمري طبعت ونشرت ومازالت تطبع وتنشر مرات ومرات ومرات وتشارك في أغلب المعارض الكبرى للكتاب داخل الوطن العربي وخارجه وتلقى رواجا منقطع النظير. ومنها فضلاً عمّا تضمنه الحوار كتاب السيرة مستمرة، كتاب ليطمئن عقلي: الإيمان من جديد بمواجهة إلحاد جديد، رواية كريسماس في مكة وكتاب القرآن نسخة شخصية.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply